إعداد/ محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي، جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب
تقديم :
عندما عُقدت قمة حلف الناتو السنوية في واشنطن في يوليو 2024 م لم تتوانى دول أوروبية عديدة من الحلف عن التعبير صراحة عن مخاوفها من احتمالات وصول ترامب للبيت الأبيض، في ظل توجهات ترامب المعروفة إزاء الحلف وإدارة التحالفات الاستراتيجية مع الحلفاء بشكل عام، والتي يتعامل معها بمنظور اقتصادي وفق قواعد ومعايير مسألة النفقة والتكلفة والعائد. والآن وبعد أن صارت هذه التخوفات حقيقة ماثلة، بعد فوز ترامب ، كيف سيؤثر هذا الأمر على السياسة الأمريكية تجاه الحلف وعلى العلاقة بين ضفتي الأطلسي.
فترامب يتعامل مع الدول التي لا تدفع مقابل أمنها واستفادتها من تحالفها مع الولايات المتحدة وفق مفهوم ” الراكب المجاني” لذلك نجده في فترته الأولى قد وجه انتقادات قوية لدول الخليج واليابان وكوريا الجنوبية وكذلك لدول أوروبية كبرى كألمانيا وفرنسا ، وطالبها بدفع ثمن التحالف الدفاعي مع الولايات المتحدة وزيادة نسبة الإنفاق العسكري وغيرها.
التغيرات المحتملة في سياسة ترامب تجاه حلف الأطلسي:
تطرح عودة ترامب المرتقبة إلى البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة تحديات كبيرة لمستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، نظرًا لتوجهاته السياسية تجاه الحلف التي تميزت بالانتقاد والوعيد والشكوك حول الالتزامات الأمريكية في أوروبا. وعلى عكس بايدن، الذي يرى في الناتو جزءاً أساسياً من الدور العالمي للولايات المتحدة وعنصراً جوهرياً لأمنها وازدهارها، يعتبر ترامب أن حلف الناتو مثّل عبئاً على الولايات المتحدة لعقود وصفقة غير مربحة. فهو يرى أن واشنطن دعمت أمن حلفاء أثرياء دون أن تحصل على الكثير في المقابل، لذلك طالب ترامب عدة مرات الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وألمح إلى أن الولايات المتحدة قد تقلل من دعمها إذا لم تفِ الدول الأوروبية بالتزاماتها.
ولا شك أن السياقات الحالية للصراع الدولي خاصة مع روسيا في شرق أوروبا تضفي أبعاداً مهمة على أي قرارات قد تؤثر على تماسك حلف الناتو أو وحدة صفوفه، التي إكتسبت زخم كبير مع نجاح بايدن في إظهار قوة الناتو في مواجهة روسيا وتقديم الدعم لأوكرانيا، والإبقاء على درجة عالية من الاستعداد القتالي لوحدات الحزب المنتشرة في شرق أوروبا تحديداً، والضغط تجاه تمويل تكاليف الحرب في أوكرانيا من أجل استنزاف روسيا .
السؤال المطروح الآن بعد وصول ترامب للبيت الأبيض: هل سيتصرف مع دول الناتو خاصة الدول الأوروبية المهمة بنفس طريقة تصرفه معها أثناء فترته الرئاسية الأولى أم أن هناك سياقات مغايرة ستجبره على تغيير هذه الرؤية والتعامل وفق مقتضيات الواقع.
تشير التوقعات إلى أن حدود التغيير عما شاهدناه خلال فترة ترامب الأولى قد تنحصر فيما يلي:
- رفع نسبة الإنفاق الدفاعي المطلوبة ل3 % . في نهاية أغسطس 2024، قال ترامب إن الدول الأعضاء في الناتو يجب أن تنفق على الأقل 3 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، بدلا من الإرشادات الحالية التي تحدد النسبة بـ 2 بالمئة.
- مراجعة المادة الخامسة وشروط العضوية . قد يسعى ترامب لإعادة التفاوض على بنود العضوية أو المشاركة، خاصة تلك المتعلقة بمبدأ الدفاع الجماعي (المادة 5 من معاهدة الناتو). مثل هذا التوجه قد يضعف تماسك الحلف ويؤثر على استراتيجية الردع المشترك، هذا السيناريو يثير قلق غالبية الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إلى جانب مخاوفهم من احتمال تشكيك ترامب في المادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تلزم جميع أعضائه بالدفاع عن أي دولة في الحلف تتعرض لعدوان خارجي، خاصة مع توجهه لفتح حوار مع روسيا واستعادة التقارب معها، وتخشى أوروبا أن يكون هذا الأمر على حساب أمنها خاصة حال اعترفت واشنطن لروسيا بالأمر الواقع في اوكرانيا واستجابت لطلباتها الخاصة بتمركزات الحلف في شرق أوروبا ودول البلطيق ومسألة ضم دول جديدة.
مستقبل العلاقة مع الناتو خلال فترة ترامب
- سيناريو استمرار التعاون وخلق الفرص المشتركة: إذا تمكّن ترامب من تحقيق توافقات مع الحلفاء حول تمويل الدفاع، قد يستمر الناتو بشكله الحالي. فللحلف مصلحة مشتركة في المساهمة في الاستقرار ومنع وإدارة الصراعات والاستجابة لها عندما يكون من المحتمل أن تؤثر على أمن الأعضاء والحلفاء، خاصة أن الحلف طور مفاهيم استراتيجية مشتركة جديدة لا تقتصر فقط على التهديدات التقليدية وغير التقليدية من الدول الكبرى مثل روسيا والصين، بل طرحت تهديدات مشتركة مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية والأمن البحري وغيرها. وفق هذا السيناريو سيستمر دور الناتو في الشرق الأوسط والخليج وكذلك في منطقة آسيا والمحيط الهادىء ، وكذلك دوره في عمليات الأمن البحري في البحار والممرات الدولية الاستراتيجية.
- سيناريو التوتر والتراجع المحدود في الإلتزمات المتبادلة. إذا تصاعدت الخلافات بين ترامب والدول الأوروبية الرئيسية خاصة فرنسا وألمانيا ، سيسود مناخ من التوتر والتراجع في قوة الحلف وتماسكه كما سبق وأن حدث خلال فترة ترامب الأولى، وسينعكس ذلك بصورة أوضح على ملف الحرب الأوكرانية الروسية ، التي ستكون ساحة الإختبار الأولى لهذا السيناريو . وقد نشهد بعض التراجعات المتبادلة فيما يتعلق بالدعم العسكري للعمليات الجارية في بعض المناطق في العالم، مع استمرار الحلف في حالة ارتباك لفترة زمنية قد تمتد لنهاية فترة ترامب الثانية.
- تغيير المعادلة الأمنية في أوروبا من الاعتماد على الناتو إلى الاعتماد على القوة الأوروبية المشتركة. ورغم أنه سيناريو مستبعد على المدى القريب والمتوسط ، بفضل أن الحلف يمثل الذراع العسكري الطويل والشامل للولايات المتحدة ، وهو يخدم بالأساس المصالح الأمريكية في السيطرة على العالم، إلا أنه سيناريو يجب أن يؤخذ بالإعتبار على المدى الطويل، ففي حال استمرت الولايات المتحدة في توجيه النقد لشركائها الأوربيين (مرحلة ما بعد ترامب) بمعنى أن تتحول أفكار ترامب إلى سياسة أمريكية متفق عليها من الحزبين الجمهوري والديمقراطي ، فلا يستبعد على المدى الطويل أن نشهد مساعي من الأوروبيون لتعزيز التعاون مع دول آسيوية أو الانخراط بشكل أوسع في الدفاع الذاتي. مع الوضع في الإعتبار أن تركيا ( صاحبة ثاني اكبر جيش في الناتو) تواصل تقوية علاقاتها مع روسيا والصين، وهو ما سيجعل الناتو يستمر بوضعه الحالي لكنه قد يميل تدريجياً ليشبه كياناً سياسياً أكثر من كونه تحالفاً عسكرياً. وحسب هذا السيناريو ستواجه أوروبا تحديات كبيرة في تحديد من سيتولى القيادة الأمنية في حال انسحاب الولايات المتحدة ، هل تكون ألمانيا أم فرنسا أم بريطانيا أم بولندا) وفي هذا السياق، تبرز بولندا كمرشح قوي لتولي القيادة الأوروبية، وفق بفضل استثماراتها الكبيرة في الدفاع وفهمها العميق للمخاوف الأمنية لدول الجبهة الشرقية. ومع الحدود المشتركة مع روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، تتفهم بولندا بشكل أفضل التهديدات الأمنية التي تواجهها القارة، ما يجعلها شريكا محوريا في الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية المستقبلية.
الخلاصة:
من الواضح أن ملف العلاقات الأوروبية الأمريكية سيشهد زخماً كبيراً خلال فترة إدارة ترامب، فالأوروبيون يتوجسون قلقاً من أفكار ترامب تجاه أوروبا ، وطريقته في إدارة السياسة الخارجية إزاء الملفات العالمية المشتركة، فخلال فترة رئاستة الأولى انتقد الأوروبيون كثيراً فكرة القرارات الأحادية دون تشاور مسبق مع دول الحلف وكان منها قرار الإنسحاب من اتفاقات المناخ وبعض الاتفاقات النووية الخاصة بمنع الإنتشار النووي مع روسيا، كذلك الإنسحاب من الإتفاق النووي الإيراني وقرارات اخرى تتعلق بالملف الفلسطيني الإسرائيلي مثل قرار الإعتراف بالقدس ونقل السفارة الأمريكية وكذلك بعض القرارات العقابية تجاه الصين والتي أضرت ببعض الدول الأوروبية. أما خلال الفترة القادمة بعد أسابيع سيكون لموقف إدارة ترامب من ملف الحرب الروسية الأوكرانية ومدى قدرته على وقف هذه الحرب وإعادة الحوار مع روسيا دوراً مركزياً في إعادة رسم العلاقة بين واشنطن وباقي دول الحلف ، خاصة دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق التي انضمت مؤخراً مثل السويد وفنلندا.
مع ذلك نؤكد أن حلف الناتو يخدم السياسة الأمريكية العالمية ويخدم فكرة منع أوروبا من أن تكون قوة عالمية مستقلة ، ويعتبر الذراع العسكري للولايات المتحدة وجزء لا يتجزأ من قوتها الشاملة، كما أن العدد الكبير لدول الحلف وموقعها الاستراتيجي خاصة تركيا ودول البلطيق ودول شرق أوروبا يسمح لها بتوسيع مناطق وقواعد إنتشارها في مناطق بعيدة بالقرب من خصومها المحتملين ( روسيا والصين) ، كما أن الدول الأوروبية تشارك الولايات المتحدة أحيانا الأعباء المالية والدفاعية كما حدث في حرب أفغانستان والعراق وغيرها . لذلك سيستمر هذا الحلف على المدى القريب والمتوسط على أقل تقدير ، وستكون الولايات المتحدة أكثر دولة حرصاً على بقاءه وتقويته.