إعداد د. حسام يونس
باحث في العلوم السياسية – فلسطين
مراجعة وتحرير د اكرم حسام
رئيس مركز السلام للدراسات الاستراتيجية
مقدمة
كلما تقع الجرائم والإنتهاكات بحق الإنسان، دون رادع إخلاقي أو وطني ، تشخص الأنظار نحو العدالة الألهية أولاً، لعلها تنقذهم من الظلم والعنف والقتل والتشريد والتهجير والتجويع وكافة صنوف الإنتهاكات التي حرمتها الشرائع والديانات السماوية. ولمَّا كانت العدالة الألهية لها نواميسها الخاصة التي لا يعلمها إلا رب العالمين، والتي قد تتأخر لحكمة لا يدركها الفهم والمنطق البشري المحدود بالمكان والزمان والأشخاص، فإن البحث يكون في هذه الحالة عن العدالة الدولية، ممثلة في القانون الدولي بكل تفرعاته ومشتملاته، والنظام الجنائي الدولي ممثلاً في المحكمة الجنائية الدولية ، والنظام القضائي الدولي ممثلاً في المحاكم الدولية كمحكمة العدل الدولية وغيرها.
إن نصاعة وجه القانون الدولي- الذي مر بمراحل تطور عديدة مع تطور البشرية وما شهده العالم من مآسي وحروب وصراعات يعجز عنها الوصف- قد انصبت جلها لصالح العدالة الدولية بالأساس، ومحاولة تحقيق التوازن بين رغبة الأقوياء في السيطرة والبطش، وحقوق الضعفاء غير القادرين على الفعل أو الدفاع عن أنفسهم، خاصة المدنيين والفئات الضعيفة منها من النساء والأطفال، وضمان وجود آليات لمحاكمة مجرمي الحرب، وعدم الإفلات من العقاب، وتحميل الدول والحكومات مسئوليتها إزاء مواطنينهم أو من يخضعون منهم لسلطة الأمر الواقع كما في حالة إسرائيل كسلطة إحتلال. مع ذلك يقع نظام العدالة الدولية دائماً في خانة الإتهام بالعجز أو الضعف، بالتمييز بين الأقوياء والضعفاء، بالخضوع للإعتبارات السياسية بالأساس، بضعف القدرة والإرادة على التنفيذ إلا في حق دول بعينها وحالات بعينها. كل ذلك أفقد نظام العدالة الدولية مصداقيته أمام الضعفاء بالتحديد، وسار الحديث عن هذا الأمر من قبيل الأمنيات وترديد المطالبات دون جدوى.
في هذا الإطار، نحن أمام حالتين من الواقع الدولي المعاصرمعروضتان الآن أمام ساحة القضاء الدولي : الأولى حالة حرب غزة ، والثانية حالة الحرب في السودان، وكلاهما انطوى على وقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وكلاهما شهد تحركا ما من النظام الجنائي الدولي ونظم العدالة الدولية ، مع الفارق الواضح والكبير لصالح الحرب الإسرائيلية على غزة والتي توصف جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني هناك بوصف “الإبادة الجماعية”. ونهدف من هذا التحليل لتسليط الضوء على حالة العدالة الدولية من واقع هاتين الحالتين، والسئؤال هو هل نشهد تراجع في مستويات العدالة الدولية في الوقت الحالي أم أن مسار العدالة الدولية مصان بقواعد وإلتزامات صارمة ستفرض نفسها على إرادة بعض الدول التي تتحدى القانون الدولي ولا تريد أن تحترم قواعده الناظمة وتريد بالمقابل فرض قانون الغابة وشريعة الأقوياء والعودة بالبشرية لنظريات اندثرت منذ حقب طويلة.
دور المحكمة الجنائية الدولية وحالة حرب غزة
يفترض الإختصاص الجنائي العالمي أن الدولة لا ترتبط بالجريمة بأي من قواعد الأختصاص المعروفة على المستوى الوطني أو القومي، بل ينعقد الأختصاص علي مصلحة أسمي وهي المصلحة المشتركة للجماعة الدولية والتي تجد مرتکزها في حماية البشرية من طائفة من الجرائم برزت خطورتها بتهديدها للجماعة البشرية، وهي : جرائم الحرب، جرائم إبادة الجنس البشري، الجرائم ضد الإنسانية، والجرائم الواقعة علي الحقوق الأساسية للإنسان. وقد نصت لائحة مجلس الأمن رقم 1265 الصادرة بتاريخ 17/9/1999 علي أنه: يقع علي عاتق الدول وضع حد لعقاب ومتابعة الأشخاص المسئولين عن جرائم إبادة الجنس البشري والجرائم ضد الإنسانية والإنتهاکات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني.
لذلك جاء تأسيس المحكمة الجنائية الدولية بعد جهود كبيرة لإيجاد محكمة دولية دائمة لمحاكمة مجرمي الحرب كبديل عن المحاكم غير الدائمة، وأُنشئت المحكمة وفق ما يُعرف بنظام روما الأساسي الموقع عام 1998، وهي وثيقة تأسيسية وقعتها دول عدة، وتأسست المحكمة رسمياً مع دخول الوثيقة حيز التنفيذ في 1 يوليو عام 2002م بعد مصادقة 60 دولة على نظام روما ().
في حالة حرب غزة الراهنة التي بدأت منذ السابع من أكتوبر 2023 ومستمرة حتى وقت كتابة هذه السطور، كان للنظام الجنائي الدولي علامة مضيئة في هذا النزاع، عندما تحركت المحكمة الجنائية الدولية بناءً على دعوى من دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وتمكنت رغم كل الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها المحكمة، وتعرض لها المدعى العام لها وبعض قضاتها من إستصدار أحكام جنائية دولية بحق إسرائيل وقادتها السياسيين والعسكريين ، وكذلك بحق قادة من حماس ( جميعهم قضوا نحبهم قبل أن يمثلوا أمام المحكمة).
ففي مايو 2024م، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، من المحكمة الموافقة على مذكرتي توقيف بحق نتنياهو ووزير الدفاع آنذاك يوآف جالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ووافقت المحكمة على الطلب في نوفمبر 2024م، ورفضت الطعون الإسرائيلية ضدهما. تتهم مذكرات التوقيف بنيامين نتنياهو بتوجيه هجمات ضد السكان المدنيين في غزة واستخدام التجويع أسلوبًا حربيًا من خلال عرقلة إمداد غزة بالمساعدات الدولية، وتُلزم مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية جميع الدول الأعضاء في المحكمة باحتجاز الشخص المعني، وتسليمه إلى لاهاي.
رغم ذلك نشهد منذ صدور هذا القرار بحق إسرائيل – يعتبر قرار وموقف تاريخي وإنتصار للعدالة الدولية- محاولات مستمرة للنيل من النظام الجنائي الدولي، ليس فقط من خلال عدم الإمتثال له، بل من خلال الإنسحاب منه، ولا شك أن انسحاب الدول من النظام الجنائي الدولي يشكل تحديًا جوهريًا أمام مساعي المجتمع الدولي لتحقيق العدالة الجنائية ومكافحة الإفلات من العقاب.
حالة المجر والإنسحاب من المحكمة الجنائية الدولية:
أعلنت حكومة المجر في 3 أبريل 2025م انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، وذلك في الوقت الذي استقبل فيه رئيس وزرائها فيكتور أوربان، رئيس الوزراء الإسرائيلي الهارب من المحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو، في بودابست، في تحدٍّ لمذكرة اعتقال بحقه أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية وهي الزيارة الأولى لنتنياهو إلى دولة أوروبية، والثانية له بعد زيارة الولايات المتحدة.
ورغم نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 2002 في المادة (127) على مسألة حق الدول في الإنسحاب ( لأية دولة طرف أن تنسحب من هذا النظام الأساسي بموجب إخطار كتابي يوجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ويصبح هذا الانسحاب نافذاً بعد سنة واحدة من تاريخ تسلم الإخطار، مالم يحدد الإخطار تاريخاً لاحقاً لذلك) . إلا أنه لا تعفى الدولة، بسبب انسحابها، من الالتزامات التي نشأت عن هذا النظام الأساسي أثناء كونها طرفاً فيه، بما في ذلك أي التزامات مالية قد تكون مستحقة عليها، ولا يؤثر انسحاب الدولة على أي تعاون مع المحكمة فيما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية التي كان على الدولة المنسحبة واجب التعاون بشأنها، والتي كانت قد بدأت في التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً، ولا يمس على أي نحو مواصلة النظر في أي مسألة كانت قيد نظر المحكمة بالفعل قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً.
لعل من المناسب أن نشير إلى أن المجر ليست الدولة الأولى التي تعلن انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، ففي عام 2017م، أصبحت بوروندي أول دولة تسحب عضويتها، وفي مارس 2019م، انسحبت الفلبين كذلك من المحكمة. وكما أسلفنا الذكر، لا يُعد إعلان المجر الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية بمثابة خروج فوري أو فعلي من عضوية المحكمة، إذ لا تزال الدولة عضوًا فيها إلى حين استيفاء الشروط والإجراءات المنصوص عليها في المادة (127) من نظام روما الأساسي، فإن الانسحاب لا يُنتج آثاره القانونية إلا بعد انقضاء مدة سنة كاملة على تاريخ تسلم الإخطار الرسمي بالانسحاب من قبل الأمين العام للأمم المتحدة.
وتتطلب عملية الانسحاب مرحلتين أساسيتين: أولاهما تتمثل في الإجراءات التشريعية والدستورية التي تجري داخل الدولة المعنية، وثانيهما الإجراءات الدولية التي ينص عليها نظام روما. وفي هذا السياق، قدمت الحكومة المجرية مشروع قانون للبرلمان يهدف إلى الانسحاب من النظام الأساسي، ومن المتوقع أن يتم التصويت عليه بحلول نهاية شهر مايو 2025م. وغني عن البيان أن الانسحاب من اتفاقية وفقًا لقواعد القانون الدولي، مع تحمل العواقب السياسية، أسهل من تعطيل تلك القاعدة، وتدمير سلطتها كدولة عضو.
ويأتي هذا الموقف من جانب المجر ، استمرارً لحالة التقارب في العلاقة بين المجر وإسرائيل خاصة مع توجهات حكومة فكتور أوربان اليمينية، والتي جاءت بعد محطات توتر بين البلدين نتيجة غضب المسؤولون الإسرائيليون والجماعات اليهودية في المجر وأوروبا، ضد أوربان نفسه بتهم معاداة السامية()، وذلك في إطار سعيه لترويج رؤيته للقومية المجرية، واتُهم بمحاولة التقليل من شأن التواطؤ المجري في المحرقة()، حيث قامت إسرائيل بتمويل حزب فيدس لإنشاء معهدًا لأبحاث معاداة السامية ومكافحة المشاعر المعادية لإسرائيل بين الأوساط اليسارية المتطرفة والإسلامية()، واستقبل “أوربان” بنيامين نتنياهو في يوليو 2017م، وقدم وعداً علنياً لحماية الأقلية اليهودية في المجر، وعدم التسامح مع معاداة السامية()، وتضمنت زيارته لإسرائيل في العام التالي على زيارة نصب ياد فاشيم التذكاري لمحرقة الهولوكوست()،وإعلان مكتب فيكتور أوربان عن تبرعه بمبلغ 3.4 مليون دولار لقضايا مكافحة معاداة السامية في أوروبا في نوفمبر 2018م(). وظهر التقارب الاقتصادي بشكل أكبر في صورة استثمار الشركات الإسرائيلية في السوق المجري، خصوصاً شركات التكنولوجيا الفائقة التي يعمل فيها آلاف المواطنين المجريين.
لذلك أيّدت المجر الهجوم العسكري الذي شنه الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ضمن ما أسمته بأنه عملية لمكافحة الإرهاب، وصوّتت المجر، إلى جانب النمسا وكرواتيا وجمهورية التشيك، ضد قرار الجمعية العامة بالأمم المتحدة الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة في أكتوبر 2023م. ()
كما هاجمت الحكومة المجرية قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن وقف نتنياهو وأعلنت عن رفضها تحويل أي مؤسسة من مؤسسات النظام القضائي الدولي إلى أداة سياسية، ووصفت القرار بالعار بأنه جلب على النظام القضائي الدولي بمساواة رئيس وزراء مع قادة المنظمة الإرهابية . ().
نظام العدالة الدولية والحرب الأهلية في السودان:
أما في حالة الحرب الأهلية في السودان المستمرة منذ ابريل 2023 وحتى وقت كتابة هذه السطور، فقد شهدت هذه الحرب أيضاً مأسي وجرائم بحق المدنيين، تصل لحد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والمتهم الأساسي فيها – حسب الروايات الشعبية السودانية وحسب الرواية الرسمية للحكومة السودانية، وحسب تصريحات وبيانات بعض الحكومات والهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية – ميلشيات الدعم السريع وقادتها وعناصرها ، غير أن تعقيدات الصراع في السودان قد حالت دون تدخل المجتمع الدولي وفق قواعد المسئولية الدولية لحماية المدنيين أثناء الصراعات ولمنع ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية ( بعد الاستفادة من دروس الحرب الأهلية في رواندا في تسعينات القرن الماضي)، بينما وجدت الحكومة السودانية في نظام العدالة الدولية نافذة لإيقاف هذه الجرائم عبر مقاضاة الداعمين لهذه الميلشيات، وبالفعل ركزت السودان على توجيه اتهامات مباشرة للحكومة الإماراتية من على منبر الأمم المتحدة ومن خلال وسائل الإعلام السودانية المختلفة، تتهمها فيها بتقديم أسلحة ودعم لوجستي للدعم السريع لإطالة أمد الحرب من ناحية وبما يساهم بالإضرار بالمدنيين ووقوع انتهاكات كبيرة تصل لحد جرائم الحرب.
وكانت محكمة العدل الدولية أعلنت في نهاية مارس 2025، أنها ستنظر في دعوى رفعها السودان وطالب فيها باتخاذ تدابير طارئة ضد الإمارات، متهما إياها بانتهاك التزاماتها بموجب “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية”. وبالفعل انعقدت المحكمة في العاشر من ابريل 2025 ، وجرى الاستماع لمرافعات كل طرف، فبينما أكد السودان انه يملك الأدلة الكافية لإدانة دولة الإمارات لدورها الرئيسي في تأجيج الحرب في السودان من خلال دعم وإسناد قوات الدعم السريع. وقال القائم بأعمال وزير العدل السوداني معاوية عثمان لمحكمة العدل الدولية إن “قوات الدعم السريع ارتكبت إبادة جماعية بحق المساليت بدعم وتواطؤ من الإمارات” على حد وصفه.فإن دولة الإمارات تنفي هذه الإتهامات جملة وتفصيلاً وتتحدث في المقابل عن حجم المساعدات الإنسانية التي تقدمها للشعب السوداني في الحرب، بل أنها اعتبرت هذه القضية حيلة خبيثة ودعاية سياسية من النظام العسكري في السودان للتغطية على بعض الجرائم التي يرتكبها .
وجاء لجوء السودان إلى مجكمة العدل الدولية لصعوبة جلب الدعم السريع للمحاكمة بشكل مباشر إلا من خلال استصدار أوامر جنايئة دولية ، فمحكمة العدل الدولية تتعامل مع النزاعات بين الدول فقط ، والحكومة في السودان لا تستطيع مقاضاة قوات الدعم السريع أمام المحكمة ( وهي مسألة لا تزال تخضع لحسابات السياسة ومواقف الدول المختلفة ومدى إهتمامعها بوقف الحرب في السودان من أساسه) ، لكن حكومة السودان الرسمية ممثلة في مجلس السيادة الحاكم أراد لفت الإنتباه لقضية التدخل في الشأن الداخلي وتحميل الأطراف الخارجية مسئولية الحرب الدائرة وقتل المدنيين ، فكان اللجوء لمحكمة العدل الدولية.
يدفع بعض القانونيين بعدم اختصاص محكمة العدل في هذه القضية، بينما يؤكد أخرون أن موقف الإمارات المطالب برفض استكمال النظر في القضية ورفضها شكلاً وموضوعاً موقف قوي، وبالتالي هذه القضية ليس لديها فرص كبيرة لتجاوز النقطة الحالية، حيث تملك الإمارات تحفظاً على اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وهو ما يعني في قضايا سابقة أن المحكمة الدولية ليس لديها سلطة قضائية على هذه الأنواع من المطالبات. ومع ذلك، استطاع السودان، عبر تقديم شكواه إلى المحكمة العليا للأمم المتحدة، لفت الانتباه إلى ما يزعم أنه دور إماراتي في الصراع.
تصاعد الإتجاهات المناهضة للهيئات الأممية المسئولة عن تطبيق القانون الدولي:
إن مسألة موقف المجر ليست فقط مسألة موقف فردي لدولة من دول أوروبا، بل أنها تعبر عن توجهات متصاعدة تتشارك مفاهيمها بعض الدول، من داخل أوروبا وخارجها، خاصة الدول التي تتجه نحو الشعبوية واليمن بشكل عام . فالولايات المتحدة وإدارة ترامب تحديداً تُشارك المجر ازدراءها للهيئات الدولية الرئيسية، فقد حظي فيكتور أوربان منذ ولاية دونالد ترامب الأولى بالتبجيل والاحترام من ترامب()، وأشاد به في ولايته الثانية في العديد من تجمعات الحزب الجمهوري، كما اقتبس فيكتور أوربان من دونالد ترامب شعار “لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى”.
ويبدو أن تأثير هذا العمل ينبع من المجر، من قلب أوروبا، وتدعمه واشنطن ، فمن بين مؤيدي أوربان في الولايات المتحدة نائب الرئيس جيه دي فانس، والإعلامي تاكر كارلسون، وكيفن روبرتس، رئيس مركز أبحاث مؤسسة التراث، الذي قال ذات مرة: “المجر الحديثة ليست مجرد نموذج لحكم الدولة المحافظ، بل هي النموذج”. أنتجت مؤسسة التراث “مشروع 2025″، وهو مخطط يميني متطرف لولاية ترامب الثانية(). ويُجسّد هذا الثناء الجاذبية المتزايدة لما أسميه “دليل بودابست” وخريطة الطريق التي يُقدّمها لليمين الشعبوي حول كيفية الحفاظ على السلطة.
لذلك يُعدّ قرار الحكومة المجرية الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية هجومًا صارخًا على العدالة الدولية وانتهاكًا لقانون الاتحاد الأوروبي. ومن المحتمل أن تُزيد من عزلة المجر عن النظام القانوني الأوروبي، وتُقوّض التزام الاتحاد الأوروبي بحقوق الإنسان والمساءلة، تنتهك خطوة المجر الأحادية الجانب العديد من التزامات الاتحاد الأوروبي، كما يُشكّل انسحاب المجر من المحكمة الجنائية الدولية سابقةً خطيرةً للإفلات الاستبدادي من العقاب داخل الاتحاد الأوروبي. وإذا تُرك دون مُجابهة، فسيُشجّع قادةً أوروبين آخرين على تحدي القانون الدولي دون عقاب. ومن زاوية أخرى تبذل إسرائيل جهودهاً كبيرة بدعم أمريكي كبير من أجل المساس بدور ومكانة المحكمة الجنائية الدولية، وبحثّ الدول على الانسحاب منها على خطا المجر، وخصوصاً من تلك الدول التي لها علاقات ومصالح استراتيجية معها، حيث تدعى وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى أن هناك دولة أو أكثر ستنسحب هي الأخرى من المحكمة الجنائية الدولية، أو فتح قنوات اتصال مع الدول المنضمة إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في المحكمة بتهمة محاولة الإبادة الجماعية، للانسحاب منها مثلما فعلت نيكاراجوا.
جدير بالذكر أن انسحاب نيكاراجوا بعد نشر الأمم المتحدة تقريراً في 3 أبريل 2025 يتضمن أسماء 54 مسؤولا بحكومة الرئيس النيكاراجوي دانييل أورتيجا، قالت إنهم مسؤولون عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم “نظام قمع محكم التنسيق” بينهم ضباط عسكريون وأعضاء بالحزب الحاكم، شاركوا في 2018م بقمع احتجاجات مناهضة للحكومة، وانتهت بكارثة، فقد أدت الى مقتل 350 شخصا ومئات المعتقلين .
وقد طالب المجتمع المدني في أوروبا باستخدام مجلس الشؤون العامة للاتحاد الأوروبي القادم في مايو القادم 2025م ، حيث سيتم بحث الوضع في المجر في سياق المادة 7.1 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، للتوصل إلى استنتاج أن المجر قد انتهكت قيم الاتحاد الأوروبي، مما يفتح الباب أمام عقوبات مثل تعليق حقوق تصويت المجر داخل المجلس.
الخلاصة:
إن ردود الفعل المعتدلة التي أعقبت زيارة نتنياهو إلى بودابست وانسحاب المجر من المحكمة الجنائية الدولية هي علامة على عصرنا، حيث تتغلب السياسة على احترام القانون الدولي. يُمثل هذا الأمر إشكالية جوهرية بالنظر إلى الهدف الدستوري للاتحاد الأوروبي المتمثل في ضمان الالتزام الصارم بالقانون الدولي وتطويره، كما هو منصوص عليه في المادتين 3 (5) و21 من معاهدة الاتحاد الأوروبي.
إن انسحاب المجر من المحكمة الجنائية الدولية هو سابقة أوربية خطيرة، دون أدنى مسئولية إنسانية تجاه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، أو أية احترام لمشاعر أسر ضحايا حرب الإبادة فهو أول انسحاب لدولة عضو في الاتحاد الأوربي من المحكمة الجنائية الدولية، ما يشكل تهديداً حقيقياً لسياسة الاتحاد الأوربي في دعم سيادة القانون، والعدالة الدولية، وأظهرت البحث أن دوافع الانسحاب تتعلق باعتبارات سياسية لمصالح المجر مع إسرائيل والولايات المتحدة، ويتضح أن الحكومة المجرية تستخدم الخطاب المناهض للمؤسسات الدولية لتعزيز شرعيتها الداخلية.
المراجع
. موقع المحكمة الجنائية الدولية، المحكمة الجنائية الدولية في ١١ فصلاً
https://n9.cl/yz2w1 Accessed 14/4/2025
. Stuart Winer, Israel accepts Hungary’s clarification over PM’s praise for Nazi-allied WWII leader, The Times of Israel Website,2/7/2017.para4-5
https://n9.cl/y1e89 Accessed 16/4/2025
Patrick Kingsley, A Friend to Israel, and to Bigots: Viktor Orban’s ‘Double Game’ on Anti-Semitism,The New York Times Website, 14/5/2019, para.,7
https://n9.cl/m9lrp Accessed 16/4/2025
Politico Website, Viktor Orbán’s anti-Semitism problem, 13/5/2019
https://n9.cl/w90zgn Accessed 16/4/2025
Peter Beaumont, Orbán promises Netanyahu he will protect Hungary’s Jews, The Guardian Website, 18/7/2017,para.,2
https://n9.cl/lt07o Accessed 16/4/2025
. موقع صحيفة الأيام، نتنياهو يستقبل رئيس الوزراء المجري وسط انتقادات إسرائيلية، 18/8/2018، فقرة 2
https://n9.cl/tfh5t Accessed 16/4/2025
. Patrick Kingsley, Op.Cit.,para.,7
About Hungary Website, FM: The Hungarian government stands with Israel,29/1/2024
https://n9.cl/ct5uj Accessed 25/4/2025
. Portfolio Website, Magyarországra látogat szerdán Benjamin Netanjahum30/3/2025,para.,6
https://n9.cl/hdly2 Accessed 10/4/2025
Francis Schortgen, U.S. Foreign Policy in the Trump Administration: The Unmooring of America’s Global Leadership Role?, in Michael Grossman · Francis Schortgen Ronald Eric Matthews Jr.(Edition),Palgrave:Macmilanm,2024,p.133/
in the European Union
Essays in Honour of Jaap W. de Zwaan
Catherine Laurence Martens-Preiss, Hungary’s Withdrawal from the ICC: A Direct Violation of EU Law That Demands Sanctions, Renew Europe Group Website,4/4/2025, para.,7-9
https://n9.cl/3qjux Accessed 10/4/2025
FIDH, Hungary’s withdrawal from the International Criminal Court: Orbàn must face consequences,4/4/2025,para., 10
https://n9.cl/40ubi Accessed 10/4/2025