اعداد
د. أكرم حسام / رئيس مركز السلام للدراسات الاستراتيجية.
د. محمد بوبوش/ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة-المغرب
تقديم:
تكشف الصراعات الأخيرة في القارة الأفريقية سواء في مناطق غرب القارة أو شرقها أو في دول افريقيا جنوب الصحراء عن توجه جديد وهو إعطاء دور أكبر للتنظيمات الإقليمية الأساسية مثل الإتحاد الأفريقي، وللتنظيمات الفرعية مثل الإيجاد والإيكواس ليكون لها دور أساسي في عمليات حفظ السلام بالقارة، وتأتي هذه التطورات بينما تواجه العمليات الأممية لحفظ السلام تحديات كثيرة ومتنامية سواء فيما يتعلق بأداء أدوارها المنوطة بها وفق التفويض الممنوح لها، أو فيما يتعلق بممارسات سلبية ومخالفة للقانون الدولي الإنساني من جانب عناصر تلك المهمات، أو بحالات تعرض تلك القوات لاعتداءات متكررة من جانب أطراف الصراعات المحلية سواء كانوا دول أو جماعات مسلحة.
على الجانب الأخر فإن نمط العمليات الإقليمية عليه تحفظات كثيرة، كشفتها التجارب العملية منها نقص التمويل، نقص التدريب، الحاجة لدعم لوجستي واستخباراتي من قوى دولية نتيجة نقص المعدات والأجهزة الخاصة بالمراقبة والمعلومات، علاوة على دخول أبعاد سياسية في مثل هذه التدخلات تضر بالأمن القومي للدول محل الصراعات ولعل رفض السودان مؤخراً لطرح منظمة الإيجاد بإيفاد بعثة لحفظ السلام في السودان خير دليل على ذلك، وخرجت تصريحات سودانية رسمية تشكك في حيادية الإيجاد ونوايا بعض الدول التي تقود التحرك السياسي بداخلها.
وكمركز متخصص في دراسات السلام والحرب يقدم مركز السلام للدراسات الإستراتيجية رؤية تحليلية حول هذا الموضوع ، للباحثين المهتمين بدراسات النزاعات وكذلك للمنظمات الإقليمية والدولية ذات الصلة بعمليات حفظ السلام وكذلك للحكومات المختلفة التي تشارك في هذه العمليات ضمن الجهود الدولية لضمان الاستقرار في العالم وعلى رأسها جمهورية مصر العربية التي تعد من أكبر الدول العربية والشرق أوسطية والأفريقية مساهمة في عمليات حفظ السلام حول العالم.
الأدوار الجديدة لقوات حفظ السلام الأممية بإفريقيا:
تُعد عمليات حفظ السلام اليوم واحدة من الأدوات المحورية التي تستخدمها الأمم المتحدة للحفاظ على السلام والأمن الدوليين حول العالم، لكن وفي سياق يعاني فيه السلام العالمي من هشاشة حادة بفعل نزاعات مسلحة دامية خلفت الملايين من الضحايا، تتصاعد حدة التحديات التي تواجه حفظ السلام، ومن ثم حماية المدنيين في مناطق النزاعات المسلحة، وتعد إفريقيا أكثر البؤر توترا من حيث النزاعات والحروب والأزمات الإقليمية، والتي شكلت امتحانا صعبا لبعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام، جعلتها تواجه تحديات صعبة في إتمام مهامها.
مرت عمليات حفظ السلام بأجيال كثيرة منذ تأسيسها وإلى اليوم، وفي كل جيل من هذه الأجيال هناك فرص وتحديات، واليوم نحن أمام ظاهرة جديدة تخص مستقبل عمليات حفظ السلام، فخلال السنوات الماضية حدث تحول في المفهوم التقليدي لـ «حفظ السلام»، من مجرد عملية تعتمد على مبادئ ثلاثة: (الحياد، وقبول الأطراف المعنية، وعدم استخدام القوة إلا للدفاع عن النفس)، إلى عمليات أوسع نطاقًا بمهام متزايدة: كأدوار الوساطة بين أطراف النزاع، وتقديم خدمات أساسية، وتعزيز سيادة القانون، وإدارة مراكز الاحتجاز، وتوفير الحماية لمخيمات اللاجئين والنازحين. بكلمات أخرى، صارت عمليات حفظ السلام اليوم «متعددة الأبعاد»، إذ لا يُطلب منها فقط صون السلام والأمن، وإنما حماية المدنيين، وتسهيل العملية السياسية، والمساعدة في نزع سلاح المحاربين السابقين، وإعادة دمجهم في عملية سياسية أكثر شمولًا، وتقديم الدعم الفني للانتخابات، وتعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون.
وكان من شأن هذا الاتساع في المهام، أن أفرز مفاهيم أخرى كحفظ السلام، وبناء السلام، وصنع السلام، وفرض السلام، ودعم السلام. ويعني هذا المفهوم الأخير «الأساليب اﻟﻤﺘﺒﻌﺔ من قبل الأمم المتحدة لتخفيف اﻟﺘﻮﺗﺮ، ودﻋﻢ وقف إطلاق اﻟﻨﺎر، أو اﺗﻔﺎﻗﻴﺎت السلام، أو إﻧﺸﺎء منطقة ﻋﺎزﻟﺔ ﺑﻴﻦ اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻤﺘﺤﺎربة، ﻣﻦ أﺟﻞ تعزيز الظروف اللازمة لتحقيق السلام الدائم». وقد أضحى المظلة الكبرى التي تشمل الأنواع المختلفة للعمليات التي تقوم بها الأمم المتحدة لحفظ السلم والأمن الدوليين.
وبملاحظة الموقف الراهن لعمليات حفظ السلام في افريقيا نجد تراجع في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لصالح المبادرات الإقليمية، وهو التحول الذي كان جاريا على قدم وساق منذ ما يقرب من عقد من الزمن. ولكن مع تعزيز عمليات حفظ السلام الإقليمية لدورها في القارة، فسوف تكون هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود لزيادة استقلالها المالي وشرعيتها العملياتية.
حالتي مالي وجمهورية الكونغو:
لعل نهاية اثنتين من أطول بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام، في مالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية، تمثل نقطة تحول بالنسبة لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا. كما يعكس إغلاق البعثتين اتجاهات أوسع تواجه بعثات الأمم المتحدة في الوقت الذي تواجه فيه مشاعر متزايدة معادية للغرب وسخطًا داخليًا. فالقيود المفروضة على العمليات التي تقوم بها بعثات السلام الأممية تضعها في بعض الأحيان في موقف حرج، حيث يعتبرها مواطنون بأنها تؤثر سلبا على استقرار الأوضاع المضطربة في بعض البلدان الأفريقية التي تنتشر بها. ففي مالي، احتج بعض السكان في وقت سابق على تواجد بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام، فيما طلب المجلس العسكري في مالي من بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي – المعروفة باسم MINUSMA – الانسحاب بسرعة وسط تصعيد إقليمي للعنف في دول الساحل في غرب أفريقيا. وكان هذا القرار جزءًا من مسار باماكو الجديد المناهض للغرب والذي شمل إنهاء الدعم العسكري الذي تقدمه فرنسا ونشر مجموعة فانغر الروسية. ونص القرار 2690 على إنهاء مهمة البعثة في مالي “اعتبارا من 30 يونيو 2023 ووقف أنشطة جنود حفظ السلام ابتداء من أول يوليو 2023 تمهيدا لتنظيم عودة هؤلاء “بحلول 31 ديسمبر2023”.
يعود نشر قوات حفظ السلام الأممية في مالي إلى ما قبل عشر سنوات، إذ كان انتشارها يرمي إلى إنهاء تمرد شنته جماعات جهادية مسلحة في شمال مالي، لكن مؤخرا وعقب الانقلاب اتهمت الحكومة قوات حفظ السلام بتورطها في تصعيد التوترات في هذا البلد الأفريقي.
تم نشر بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي MINUSMA منذ عام 2013، ثم اكتمل انسحابها بحلول ديسمبر 2023. وبالمثل، اختارت جمهورية الكونغو الديمقراطية إنهاء بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار (المعروفة باسم MONUSCO)، التي كانت تعمل في شرق البلاد لأكثر من عقدين من الزمن، بحلول نهاية عام 2020. 2024. واجهت بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية انتقادات عامة في جمهورية الكونغو الديمقراطية لنجاحها المحدود في كبح جماح الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة، وضمان حماية المدنيين وتحقيق السلام الدائم.
حالة الإيجاد والأزمة السودانية:
في إطار رد فعلها على اندلاع الحرب في السودان في 14 ابريل 2023م ، حاولت منظمة الإيجاد فرض حلول قسرية تشمل تدخل عسكري في الشأن السوداني واتخاذ إجراءات تنتقص من سيادة السودان، وهو ما كان محل رفض من الحكومة السودانية الشرعية منذ البداية ، وسبق أن حذر السودان من استمرار هذا النهج، بل تحدثت الحكومة السودانية صراحة عن عدم حيادية بعض دول منبر الإيجاد وأن لبعضها مصالح خاصة مع قائد ميلشيا الدعم السريع تجعلها غير محايدة في مواقفها الفردية أو في إطار الإيجاد.
استمرت محاولات الإيجاد للعب دور في الأزمة السودانية ، حيث قررت قمة ايجاد والتي عقدت في العاصمة الأوغندية كمبالا في يناير 2023 وضع جداول زمنيه محددة لخارطة الطريق الأفريقية لحل الأزمة السودانية المعلن عنها في يونيو 2023م والتي تشمل: وقف اطلاق النار بشكل دائم وتحويل الخرطوم لعاصمة منزوعة السلاح، إخراج قوات طرفي القتال الى مراكز تجميع تبعد 50 كيلو مترًا عن الخرطوم، نشر قوات أفريقية لحراسة المؤسسات الاستراتيجية في العاصمة.، معالجة الأوضاع الانسانية السيئة الناجمة عن الحرب، اشراك قوات الشرطة والأمن في عملية تأمين المرافق العامة، البدء في عملية سياسية لتسوية الأزمة بشكل نهائي.
وقد رفض الجيش السوداني بقيادة البرهان تلك الخطة معترضًا على نشر قوات تدخل أفريقية في الأراضي السودانية معتبرًا ذلك انتهاك للسيادة الوطنية، كما رفض المساواة بينه وبين قوات الدعم السريع في ترتيبات الحل السلمي باعتبارها قوات متمردة عن الشرعية في البلاد . وعقب انعقاد قمة “إيجاد” في العاصمة الأوغندية كمبالا يوم الخميس 18 يناير وإصدار سكرتارية المنظمة بيانًا حول توافق قادة “إيجاد” على وضع جدول زمنى محدد بخارطة طريق لحل الأزمة السودانية والتي اعتمدتها القمة العادية الرابعة عشر لرؤساء دول وحكومات الهيئة الحكومية للتنمية “إيجاد” ، وإطلاق عملية سياسية خلال شهر واحد بقيادة سودانية من أجل تشكيل حكومة ديمقراطية في السودان، كذلك التنسيق مع الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي لحشد الدعم اللازم لعملية السلام واعادة البناء والإعمار، فضلًا عن دعوة قائدي الجيش والدعم السريع للوفاء بتعهدهما السابق باللقاء المباشر خلال أسبوعين منا تاريخ انعقاد القمة. الأمر الذي دفع الحكومة السودانية إعلان تجميد عضويتها بشكل كامل في الهيئة الحكومية للتنمية ” إيجاد” رسميا يوم السبت الموافق 20 يناير وعدم التزامها بكل ما يصدر عن المنظمة الاقليمية في الشأن السوداني، وقد بعث البرهان برسالة إلى رئيس جيبوتي باعتباره رئيس الدورة الحالية لــ ” إيجاد” أبلغه فيها قرار حكومة السودان تجميد عضويتها بسبب تجاهل المنظمة لقرار السودان بوقف انخراط السودان في المنظمة وتجميد تعامله معها في أي موضوعات تخص السودان.
الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) وأزمة النيجر:
مثلت الأحداث التي شهدتها النيجر منذ منتصف 2023م – والتي لا تزال تتفاعل لليوم – اختبار حقيقي الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) ، اختبار لقوتها ومدى فعالياتها على معالجة الأزمات داخل نطاق عملها خاصة أنها جاءت بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها مالي وغينيا وبوركينافاسو ، وهو ما دفع المنظمة إلى التعهد بعدم التسامح مع الانقلابات في المنطقة والتحرك عبر الأصعدة كافة لمواجهة المجلس العسكري القابع على السلطة بالنيجر لتجنب تداعيات امتداد الفوضى الداخلية على الأمن والاستقرار الإقليمي.
وضمن إطار معالجة الأزمة في النيجر، أعلنت الإيكواس اتخاذ جميع الإجراءات لاستعادة النظام الدستوري في النيجر، وفي سبيل ذلك اتبعت ثلاث مسارات تمثلوا في فرض العقوبات الاقتصادية ووقف المساعدات ومحاولة الوساطة مع المجلس العسكري الحاكم والتهديد بما فيها استخدام القوة العسكرية كحل أخير، وذلك على النحو الآتي:
أ. فرض العقوبات الاقتصادية ووقف المساعدات: حاولت الإيكواس أن تتخذ مع النيجر نفس المسار الذي تعاملت به مع الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي في مايو 2021، من خلال فرض عقوبات اقتصادية أدت لتراجع واردات الدولة بنسبة 30%، وهو ما أجبر المجلس العسكري في مالي على التوصل لاتفاق مع الإيكواس ينص على تعيين حكومة مدنية ووضع خارطة طريق لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في يوليو 2022. إلا أن سياسة فرض العقوبات الاقتصادية والوساطة لم تنجح في إنهاء سيطرة المجلس العسكري على الحكم في النيجر، ويرجع ذلك إلى أن تأثير العقوبات الاقتصادية لم يكون مؤثر خاصة على المدى القصير.
ب. محاولة الوساطة مع المجلس العسكري الحاكم: اتجه الإيكواس نحو المسار الثاني للتعامل مع الأزمة في النيجر من خلال الرئيس السابق للنيجر “محمد يوسوفو” للوساطة بين المجلس العسكري والرئيس بازوم من أجل الوصول إلى تهدئة للأوضاع وإعادة بازوم للسلطة مرة أخرى، إلا أن هذا المسار لم يحقق أهدافه في تهدئة الأوضاع على الأرض بسبب تمسك كل طرف بمطالبه، كما أن اختيار يوسوفو أيضًا لإجراء الوساطة لم يكون الخيار الأمثل بسبب ما يشاع حول دعم يوسوفو للمجلس العسكري الحالي بالنيجر لإزاحة بازوم عن السلطة.
ج. التدخل العسكري في النيجر: ينظر (الإيكواس) إلى انقلاب النيجر على أنه اختبار حقيقي لقوته الإقليمية وسط سلسلة من الانقلابات التي شهدتها عددًا من أعضائه؛ إذ يرى قادة الإيكواس أن نجاح المجلس العسكري في عزل الرئيس بازوم يعني أن قوة التنظيم الإقليمية قد تلاشت، وهو ما أكد عليه مبعوث الأمم المتحدة الخاص لغرب أفريقيا والساحل “ليوناردو سانتوس سيماو” في نظرته لدور الإيكواس في إنهاء الوضع المتأزم بالنيجر، حيث أعلن أن الدول الأعضاء في تجمع الإيكواس قد تلجأ إلى القوة إذ لزم الأمر، مستدلًا على ذلك بالقوة الأمنية التي أنشأتها في عام 2022 والمعنية بالتدخل ضد الجماعات المتطرفة ومنع الانقلابات العسكرية.
وقد وضح من خلال تطورات الأزمة فيما بعد أن دور الإيكواس في الأزمة ظل مرهوناً بضوء أخضر خارجي بالأساس من ناحية ، كما كان الموقف المضاد من العسكريين في النيجر الذين هددوا بقتال الدول التي ستشارك في أي عمليات تحت أي مسمى داخل اراضيها دور مهم في تقييد دور الايكواس، مع الوضع في الاعتبار وجود شرط مهم وهو موافقة الدولة العضو .
عمليات دعم السلام الإقليمية:
منذ عام 2016، انخفضت بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا بشكل مطرد من حيث العدد والحجم (من حيث الميزانيات وعدد الأفراد المنتشرين)، ومن المتوقع أن تنخفض بمجرد انسحاب بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية . ومع إغلاق بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي وبعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لم يتبق سوى أربع عمليات في القارة (في جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان ومنطقة أبيي المتنازع عليها والصحراء الغربية). قبل عقد من الزمان كان هناك أكثر من ضعف هذا العدد، ولم تبدأ أي بعثات جديدة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة في القارة منذ ذلك الحين.
وبالتوازي مع ذلك، نمت عمليات دعم السلام التي تقودها أفريقيا PSOs -كما تعرف عمليات حفظ السلام المحلية في المنطقة -من حيث العدد والنطاق تحت رعاية هيكل السلام والأمن الأفريقي لعام 2002 التابع للاتحاد الأفريقي. حفزت الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام 1994 لأول مرة على زيادة الملكية الأفريقية لبعثات حفظ السلام. وفي وقت لاحق، استجاب تشكيل الاتحاد الأفريقي في عام 2002 للحاجة إلى التحول من نهج “عدم التدخل” إلى نهج “عدم اللامبالاة” فيما يتعلق بالتهديدات التي يتعرض لها السلام والأمن، من بين اعتبارات أخرى. هناك ثلاثة أنواع واسعة من PSOs الأفريقية. أولا، تلك التي يكلف بها الاتحاد الأفريقي ويقودها مباشرة، مثل بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال (الأتميس) ATMIS في الصومال. ثانيا، المنظمات الداعمة للخدمة التي بدأتها الجماعات الاقتصادية الإقليمية مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). ثالثا، يمكن تشكيل تحالفات مخصصة من قبل دول تتقاسم تهديدا أمنيا، كما في حالة قوة العمل المشتركة المتعددة الجنسيات في منطقة بحيرة تشاد.
وبالمقارنة مع عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، تنتشر منظمات الأمن العام الأفريقية في مجموعة متنوعة من السياقات: فبالإضافة إلى عمليات السلام والأمن، كانت هناك بعثات لمكافحة الأوبئة مثل الإيبولا، ودعم العمليات الانتخابية والحد من الاضطرابات الداخلية. منذ عام 2000، تم إنشاء 38 PSOs بقيادة أفريقية، مع عشرة PSOs نشطة تعمل في 17 دولة في القارة في عام 2023. في عام 2022 وحده، تم تفويض أربع عمليات جديدة أو تفويضها أو إطلاقها من قبل الاتحاد الأفريقي.
ديناميات أمنية جديدة في أفريقيا
إن التحول التدريجي خلال العقد الماضي نحو عمليات حفظ السلام التي تقودها الجهات الفاعلة الإقليمية جاء في نفس الوقت الذي حدثت فيه تغييرات عميقة في الصراعات المسلحة في أفريقيا. وقد حدث تصاعد في مستويات العنف وصعود الجماعات الجهادية وانتشار الجماعات المسلحة غير الحكومية ذات الدوافع والقدرات والنطاقات المتنوعة وسط تجاهل متزايد للقانون الإنساني الدولي وضعف آليات حل النزاعات. ونتيجة لذلك، أصبحت الصراعات المسلحة في أفريقيا مجزأة وطويلة الأمد على نحو متزايد.
وسط تصاعد التوتر الجيوسياسية والانقسامات الداخلية داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة -الهيئة التي تخول بعثات حفظ السلام -يشير النفوذ المتزايد للدول غير الغربية والشركات العسكرية والأمنية الخاصة إلى تحول زلزالي عن الأساليب التقليدية التي تركز على الغرب. ويؤكد هذا الاتجاه تضاؤل شرعية عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في أفريقيا، والتي ينظر إليها الآن إلى حد كبير على أنها أداة متأثرة بالغرب مرتبطة بولايات محدودة أقرها مجلس الأمن الدولي.
التحديات المقبلة :
سيؤدي إغلاق بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي وبعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى إعادة تقييم استراتيجي لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. في نهاية عام 2023، استهلكت البعثتان معا 35٪ من ميزانية حفظ السلام السنوية للأمم المتحدة البالغة 6.45 مليار دولار أمريكي وثلث أفراد حفظ السلام النظاميين العالميين التابعين للأمم المتحدة. ومع ازدياد طول أمد الصراعات واستعصاءها، يلزم التفكير الجاد في نطاق ولايات عدة بعثات وطموحها المفرط وأطرها الزمنية غير المحددة. ولكي تظل عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام ذات صلة، فإنها ستحتاج أيضا إلى الإبحار والتكيف مع عالم مجزأ جيوسياسي.
إن الوضع في مالي هش ومحفوف بالمخاطر، ومن الضروري أن تفي مالي بالتزاماتها الدولية، بما في ذلك ضمان حماية المدنيين والقيام بعمليات عسكرية بما يتماشى مع حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.يتعين على قوات حفظ السلام الأفريقية – التي يعطلها غياب الإرادة السياسية – أن تكون مستعدة لملء الفراغ الأمني، كما يتعين على المجتمع الدولي أن يدعم بقوة هذا التحول. وفي مشهد أمني سريع التطور من الضروري تكييف وتطوير استراتيجيات فعالة لتحقيق السلام الدائم في أفريقيا.
الخلاصة:
أثبتت التجربة أن عمليات حفظ السلام يجب أن تتبع المبادئ الأساسية التي وضعت في الممارسة العملية على مدى فترة طويلة، ولا سيما مبدأ موافقة البلدان المعنية، وينبغي للبعثات أن تحافظ على الاتصال بحكومات البلدان المعنية وأن تحافظ على علاقة من الثقة والتعاون المتبادلين، وهو شرط مسبق لسلاسة عمليات حفظ السلام. ويجب أن يسعى مجلس الأمن دائما إلى تعزيز التعاون بين عمليات حفظ السلام والبلدان المعنية كأولوية قصوى وأن يعمل بلا كلل لتحقيق تلك الغاية.
وفي الوقت الحاضر، تواجه العديد من البلدان الأفريقية، بما في ذلك بلدان منطقة الساحل، تهديدات متعددة، مثل الإرهاب والأزمات الإنسانية والتحديات التي تواجه الحد من الفقر والتنمية، فضلا عن تغير المناخ. وتظهر هذه التحديات أيضا في أن قوات حفظ السلام الأممية عجزت عن كسب ثقة البلدان التي تتمركز بها، نظرا لصعوبة ضبط سلوك الأفراد المشاركين في قوات الأمم المتحدة في الميدان في بعض الأحيان، خاصة بعد أن جرى اتهام بعضها بالاستغلال والانتهاكات الجنسية. إذ شهد نوفمبر 2023 إصدار الأمم المتحدة قرارا بإعادة وحدة مؤلفة من 60 عسكريا تنزانيا “بعد ادعاءات خطيرة موجهة ضد أفراد من قوة حفظة السلام بارتكاب أعمال استغلال وانتهاكات جنسية”، وفقا لبيان أممي. ويرى البعض أن عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام ليست سوى حيلة من القوى الغربية لإعادة تأكيد سلطتها وسيطرتها على البلدان التي تعمل فيها قوات السلام الأممية.
كما تواجه عمليات حفظ السلام في إفريقيا تعقد العلاقة بين بعثة الأمم المتحدة والدول المضيفة، وهو ما يظهر من خلال مقاومة بعض هذه الدول لأداء بعثات الأمم المتحدة لبعض مهامها، أو زعم بعض الدول المضيفة تبعية قوات الأمم المتحدة لها. من ناحية ثانية تبرز مشكلة عدم تناسب أهداف الأمم المتحدة من عمليات حفظ السلام مع متطلبات الدول المضيفة للعمليات، من ناحية ثالثة، تتعرض قوات حفظ السلام للاستهداف من قبل الجماعات المسلحة، ويزيد خطر ذلك مع محدودية قدرة تلك القوات على الدفاع عن نفسها بسبب عدم معرفة أفرادها، في بعض الأحيان، بالبيئة السياسية والأمنية والاجتماعية التي يعملون فيها، وعليه نقول أن مستقبل حفظ السلام في أفريقيا عند مفترق طرق، متأثراً بالقيود المالية، والديناميكيات الدولية المتطورة، والتحديات التي تواجه فعالية بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام في المنطقة.