إعداد
د. محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي العام
جامعة محمد الأول-وجدة
تقديم:
تعتبر ألمانيا واحدة من أهم الدول الأوروبية، بفضل موقعها الاستراتيجي في قلب القارة من ناحية والقدرات الاقتصادية الكبيرة التي تملكها بجانب القاعدة العلمية والبحثية المتطورة والقدرات البشرية المعروفة بمهاراتها وتفانيها في العمل، وقد واجهت ألمانيا خلال الفترة الماضية بعض المشكلات الاقتصادية والمالية الهيكلية، والتي كانت من ضمن الأسباب الرئيسية التي دفعت للذهاب لإنتخابات مبكرة ، والتي جرت بالفعل في 23 فبراير 2025، واسفرت عن تغيير كبير في بعض التوازنات في الخريطة السياسة الألمانية المحلية، قد يكون له ما بعده، خاصة فيما يتعلق بصعود الأحزاب اليمينية وسيطرتها على المشهد السياسي الألماني.
إن قراءة نتائج هذه الإنتخابات دون ربطها بالسياقات الحالية في السياسة الأوروبية الراهنة والتطورات العالمية التي أخذت مناحي دراماتيكية وربما صدامية في طابعها العام مع الإدارة الأمريكية للرئيس ترامب، لن يعطي الصورة كاملة حول مدى حساسية اللحظة التي جرت فيها هذه الإنتخابات ومدى أهمية متابعة السياسة الألمانية في المرحلة الراهنة وخلال الفترة المقبلة، بفضل ثقل ألمانيا الإستراتيجي والحضاري، والذي يجعلها بوصلة مهمة يمكن من خلالها وعبرها قياس واستشراف توجهات الكثير من الدول الأوروبية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
المشهد السياسي قبل الإنتخابات الأخيرة:
نُذكر بأن المشهد السياسي الراهن في ألمانيا قد جاء على خلفية انهيار الائتلاف الحاكم الذي كان يقوده المستشار اولف شولتز، الذي كان قد خسر تصويت على الثقة في ديسمبر 2024 ، ومعروف أن هذا الإئتلاف كان يضم الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر. ونُذكر أيضاً أن هذا الإنهيار قد جاء بسبب مشكلات إقتصادية ومالية تتعلق بسياسة كبح الديون التي نتج عنها عجز كبير في الميزانية الفيدرالية وعدم القدرة على تغطيته من خلال سياسات الإقتراض، التي تم تكبيلها بنص دستوري في عام 2009 .
هذه الأزمة المالية أدت إلى مراهنة المستشار السابق “شولتز” على خيار انتخابات مبكرة، لعله يستطيع تصحيح الأوضاع لصالح حزبه، وهو بالفعل ما جرى في الاسبوع الثالث من شهر فبراير 2025 ، غير أن نتائج تلك الإنتخابات لم تكن في صالحه بأي حال وخسر المعركة الإنتخابية، وبهزيمة تعتبر تاريخية في تاريخ الحزب من ناحية وبمكاسب تعتبر تاريخية أيضاً لصالح الخصوم والمنافسين والقادمين الجدد للبوندستاغ .
أما على مستوى سياسة ألمانيا الخارجية ، فقد وجد المستشار السابق “شولتز” أن بلاده لا تستطيع الاستمرار لفترة طويلة دون حكومة فاعلة في ظل التحديات الاقتصادية والجيوسياسية الراهنة. وتتمثل هذه التحديات في المواقف التي يتبناها الرئيس الأمريكي تجاه الحرب في أوكرانيا، والمخاوف المتعلقة بتماسك التحالف عبر الأطلسي، والتهديدات الأمريكية بفرض رسوم جمركية إضافية، بالإضافة إلى الأزمة التي يعاني منها النموذج الاقتصادي الألماني القائم على الصناعة، والذي يواجه منافسة شديدة من قبل الصين.
متغيرات الخريطة السياسية في ضوء نتائج الإنتخابات:
بلغت نسبة الإقبال على التصويت في هذه الإنتخابات التي جرت في 23 فبراير الماضي أكثر من 80% من بين 60 مليون ناخب يحق لهم التصويت، مما يعكس الأهمية الكبيرة لهذه الانتخابات من ناحية، وإحساس الناخب الألماني بدقة المرحلة الحالية وما تحتاجها من تغيير فعلي من ناحية أخرى.
تصدر المحافظين: وقد اسفرت الإنتخابات عن فوزًا مهماً للمحافظين بزعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي حيث حصل على نسبة تتراوح بين 28.5% و29% من الأصوات، مما يجعله الحزب الأكثر تمثيلاً في البرلمان الألماني .
صعود حزب البديل من أجل ألمانيا: وكان أبرز ملامح هذه الإنتخابات هو التقدم التاريخي لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، حيث تصدر المشهد الانتخابي في شرق البلاد. وعلى مستوى ألمانيا، حل الحزب في المرتبة الثانية بعد التحالف المسيحي المحافظ، محققًا نحو 20% من الأصوات، أي ضعف ما حصل عليه قبل أربع سنوات، في نتيجة غير مسبوقة لحزب يوصف بالتطرف في بعض الولايات منذ تأسيسه عام 2013 ، ويعرف “حزب البديل من أجل ألمانيا” (Alternative für Deutschland) بعداوته للجاليات المسلمة في ألمانيا، كونه يعتمد على الشعوبية المعادية للإسلام، وبات يحتل مكانا في برلمانات عشر ولايات. وكان الحزب قد أعلن في برنامجه الانتخابي منع الحجاب في الجامعات والمؤسسات العامة، ومنع ختان الأطفال المسلمين واليهود. كما يعمل على الضغط من أجل حظر المآذن والأذان والنقاب. ونقل عن ألكسندر غوالاند، نائب رئيس الحزب أن: “أسلمة ألمانيا تمثل خطرا يجب أخذه بعين الاعتبار”.
انهيار الحزب الاشتراكي الديمقراطي(SPD): في المقابل، كانت الانتخابات كارثية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي تراجع إلى أدنى نسبة تصويتية له في انتخابات وطنية، إذ انخفضت حصته من 25.7% في 2021 إلى 16.4% فقط. وكان أداء الحزب في الشرق سيئًا للغاية، لكنه واجه أيضًا انتكاسات خطيرة في معاقله التاريخية في الشمال الغربي. فعلى مدار عقود، كانت مناطق “راين-روهر” الصناعية معقلاً للحزب الاشتراكي الديمقراطي، لكن الخريطة الانتخابية باتت تُظهر تقلص المساحات الحمراء بشكل كبير، حيث انتقلت العديد من الدوائر إلى الاتحاد الديمقراطي المسيحي. وفي تطور صادم، أصبحت “غيلسنكيرشن” أول دائرة في غرب البلاد يحقق فيها “البديل من أجل ألمانيا” المركز الأول وفقًا للتصويت القائم على القوائم النسبية.
حزب اليسار يعزز حضوره: رغم صعود “البديل من أجل ألمانيا”، نجح “حزب اليسار” في الحفاظ على موطئ قدمه في شرق البلاد، وهي قاعدته التقليدية.فقبل أسابيع من الانتخابات، كان الحزب يعاني من تراجع حاد في استطلاعات الرأي، حتى أنه أطلق حملة مكثفة لضمان فوز ثلاثة من مرشحيه على الأقل بشكل مباشر، للحفاظ على تمثيله في البوندستاغ. لكن يوم الأحد 23 فبراير 2025، استفاد الحزب من موجة دعم متأخرة، حيث حصل على نحو 9% من الأصوات وستة مقاعد مباشرة. وبالإضافة إلى معاقله في الشرق، سجل الحزب مكاسب في أجزاء واسعة من برلين، وحتى في بعض مناطق الغرب.
مسارات المشهد السياسي الألماني المقبل وحالة اللايقين:
يكتنف المشهد السياسي الراهن في ألمانيا عدة إشكاليات، تجعل حالة عدم اليقين تسيطر على حدود الرؤية السياسية ، فمعضلة تشكيل الائتلاف الحكومي المقبل وكيفية التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، والأثر الذي سيحدثه وصول أحزاب اليمين للمرتبة الثانية في البرلمان ومدى تأثير ذلك على القضايا المطروحة على البرلمان وقضايا السياسات العامة بجانب السياسة الخارجية والسياسة الأمنية الألمانية.
فدستورياً، يتعين على البرلمان الألماني الجديد الانعقاد في موعد لا يتجاوز 30 يوما بعد الانتخابات أي في 25 مارس الجاري، لكن رغم ذلك لا يُتوقع اتخاذ القرار بشأن الحكومة المستقبلية إلا بعد أسابيع أو أشهر من الانتخابات. وسيكون البرلمان الجديد أقل حجما بشكل كبير بفضل إصلاح يقضي بتحديد عدد أعضاء البرلمان بـ 630 عضوا، أي أقل من العدد الحالي بأكثر من 100 عضو.
أما على صعيد الممارسة السياسية على الأرض فكل الإحتمالات تتحدث عن أن البلاد أمام محادثات ائتلافية قد تطول لأشهر وهو ما يعني أن أكبر اقتصاد في أوروبا قد يواجه فترة صعبة من عدم اليقين السياسي مما يطيل من ركوده الحالي، وتدور ملامح هذا الإئتلاف حول ما يلي:
المسار الأول: التحالف الثنائي: وذلك بالتحالف إما مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي أو بالتحالف مع حزب البديل من أجل ألمانيا ( وإن كان الأخير مستبعد نظرياً بسبب الإلتزام السياسي الذي تعهدت به بعض الأحزاب الألمانية بعدم التحالف مع أحزاب اليمين المتطرف) ، وفي الحالة الأولى لن يحدث تغيير كبير في شكل الخارطة السياسية الألمانية ، التي ستحافظ غالباً على توازنات معينة ومحاولة استقطاب مقاعد بعض الأحزاب الصغيرة مثل الخضر وغيرها للوصول لعتبة الأغلبية ، وفي إطار هذا السيناريو يسعى حزب “ميرتس” إلى تشكيل ائتلاف حكومي مع الحزب الاشتراكي-الديمقراطي، الذي حلّ في المرتبة الثالثة بحصوله على 16% من الأصوات. وفي هذا السياق، صرّح “ميرتس” من مقرّ “الاتحاد المسيحي الديمقراطي” في برلين: “أنا عازم على إجراء محادثات سريعة وجادّة وبنّاءة مع الاشتراكيين-الديمقراطيين لتشكيل حكومة ائتلافية… بحلول عيد الفصح”، أي في موعد أقصاه 20 أبريل المقبل، حيث يجد فريدريش ميرتس نفسه مضطرًا إلى تشكيل ائتلاف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهو الشريك التقليدي. ومع ذلك، لن يكون هذا الائتلاف كبيرًا، حيث حصل الحزب الاشتراكي الديمقراطي على نسبة 16.4% فقط من الأصوات، ما يعادل 120 مقعدًا، مما جعله يتراجع إلى المرتبة الثالثة في البرلمان، وهو أسوأ نتيجة له منذ أكثر من قرن.وقد بدأ المحافظون في ألمانيا، بقيادة الفائز بالانتخابات فريدريش ميرتس، أولى جولات المحادثات يوم الجمعة 28 فبراير 2025 مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي لبحث إمكانية تشكيل حكومة ائتلافية، وذلك في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه البلاد على المستويين الداخلي والخارجي. وفي بيان مشترك، أكد كل من التحالف المسيحي (المكوّن من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي) والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) (يسار الوسط) أن “المحادثات الاستكشافية بدأت في أجواء منفتحة وبناءة”، في إشارة إلى جدية الطرفين في استكشاف إمكانيات التعاون السياسي خلال المرحلة المقبلة. ويمكن القول، أنه في حال نجاح فريدريش ميرتس في تشكيل ائتلاف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي، سيجد نفسه أمام تحدٍّ مزدوج: التوفيق بين مطالب تياره المحافظ وتوجهات الاشتراكيين الديمقراطيين من جهة، والوفاء بتعهداته الانتخابية ضمن مشهد سياسي متنوع أفرزته صناديق الاقتراع من جهة أخرى. غير أن معضلة ميرتس تتمثل في تحقيق توازن دقيق بين صورته كسياسي حازم استقطب الناخبين المحافظين، وبين البراغماتية التي يفرضها العمل الائتلافي، والتي تتطلب منه تخفيف حدة الخلافات مع الاشتراكيين الديمقراطيين. كما أنه بحاجة إلى ضبط خطابه السياسي وإظهار انضباط أكبر في ظهوره الإعلامي، لتجنب ترسيخ الانطباع بأنه يفتقر إلى السيطرة الكاملة على تصريحاته.
وقد يضطر ميرتس ( اليمين المسيحي/ يمين الوسط) لعمل تحالف مع حزب البديل من أجل ألمانيا ( يمين متطرف) خاصة تجمعهم مواقف متقاربة بشان قضايا الهجرة والأمن خلال الحملة الانتخابية، والتي كانت حاضرة بقوة في حملة الانتخابات البرلمانية الألمانية، علاوة على كونهما الأحزاب التي تملك أكبر عدد من المقاعد بالفعل وفق النتائج.
المسار الثاني: التحالف الثلاثي: تعتبر ظاهرة التحالفات الثلاثية نادرة في السياسة الألمانية، حيث اعتبر تحالف الثلاثي الذي سقط مؤخراً بزعامة شولتز أول تحالف ثلاثي في التاريخ الحديث لألمانيا، مع ذلك فإن هذه الظاهرة قابلة للتكرار مرة أخرى في ضوء حالة الإنقسام والتشرذم الحالي بعد الإنتخابات وتفتيت الكتل الكبيرة للأحزاب التقليدية التي ظلت مسيطرة على السياسة الأملانية خلال العقود الماضية. وضمن هذا المسار من الممكن أن يأخذ التحالف الثلاثي عدة أشكال وهي :
الاحتمال الأول. تحالف الاتحاد المسيحي مع الاشتراكي الديمقراطي وينضم إليهما الحزب الديمقراطي الحر إذا نجح في تخطي عتبة ال5% المطلوبة لدخول البرلمان.
الاحتمال الثاني. تحالف الاتحاد المسيحي مع الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، ويطلق عليه ” تحالف كينيا” نظراً لتشابه ألوان أحزابه مع ألوان علم دولة كينيا .
القضايا الأكثر إلحاحا على جدول الحكومة المقبلةً:
إصلاح السياسة المالية. تمثل قاعدة “كبح الديون” مبدأً دستورياً في ألمانيا، أُدرج عام 2009 خلال الأزمة المالية العالمية في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، بهدف تعزيز الاستقرار المالي للدولة. جاء هذا الإجراء استجابةً للأعباء المالية الكبيرة التي تحملتها الحكومة نتيجة برامج الإنقاذ، والتي بلغت تكلفتها نحو 464 مليار يورو، مما أدى إلى ارتفاع الدين العام إلى ما يقارب 81% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2010. يحدد هذا النظام سقفاً صارماً للاقتراض الجديد للحكومة الاتحادية، بحيث لا يتجاوز 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي، باستثناء الظروف الاستثنائية. كما يحظر على الولايات الألمانية الست عشرة اللجوء إلى الاقتراض الجديد. ويهدف هذا الإجراء إلى ضبط الإنفاق العام وضمان عدم تجاوز الدولة لمواردها المالية المتاحة، مما يعزز الانضباط المالي ويحد من المخاطر المرتبطة بالديون السيادية.
لقد تعهدت الأحزاب الرئيسية بإحياء الاقتصاد من خلال تنفيذ سياسات متعددة، تشمل إما تخفيض الضرائب أو زيادة الإنفاق بشكل كبير لتحفيز النمو الاقتصادي. هذه الخيارات تتطلب تخفيف القيود المفروضة على الديون الحكومية. كانت الآلية المالية المعروفة باسم «كبح الديون» بمثابة نقطة خلاف رئيسية في السياسة الألمانية، حيث فرضت قيود صارمة على الاقتراض الحكومي، وأدى نقص التمويل إلى انهيار الحكومة الاتحادية السابقة، التي كانت تتألف من «الحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD» و«حزب الخضر Grüne» و«الحزب الديمقراطي الحر FDP». عند إعداد موازنة عام 2025، واجهت الحكومة عجزاً بقيمة 25 مليار يورو (26 مليار دولار). في محاولة لتعويض هذا العجز، اقترح «الديمقراطيون الاجتماعيون» و«الخضر» الاعتماد على القروض، بينما عارض «الحزب الديمقراطي الحر» هذا الاقتراح بشدة، وطالب بتخفيض الإنفاق الاجتماعي بدلاً من ذلك. نتيجة لعدم قدرة هذه الأحزاب الثلاث على التوصل إلى اتفاق، انهار الائتلاف في نوفمبر 2024.” لقد أدى نظام كابح الديون الدستوري في ألمانيا، والذي يحدد سقف العجز الفيدرالي عند 0.35 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، إلى تقييد الاستثمار العام بشكل كبير.
خفض الضرائب وزيادة الانفاق الدفاعي: سيكون مطلوباً من الحكومة الألمانية المقبلة تبني سياسات اقتصادية تركز على خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الدفاعي، مع تقليص المزايا الاجتماعية، وهو ما قد يتطلب إصلاح نظام كبح الديون ، لذلك من المتوقع أن يساهم التحالف بين الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) في تعزيز التنافسية الاقتصادية من خلال خفض الضرائب وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية. وفي هذا الإطار يقترح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والديمقراطيون الأحرار خفض معدل ضريبة الشركات المجمعة في ألمانيا من حوالي 30% إلى أقل من 25%، مما يجعله أقرب إلى متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 23.85%..
إدارة العلاقات مع الرئيس ترامب: لن تقل التحديات الخارجية للحكومة الجديدة عن التحديات الاقتصادية الداخلية، بل أنها وثيقة الصلة بها، حيث تأتي الحكومة الألمانية الجديدة في توقيت بالغ الدقة للأوروبا، التي تواجه الرئيس ترامب بتدخلاته المثيرة للجدل في السياسة الأوروبية وأخرها ما قام به نائبه “دي فانس ” في مؤتمر موينخ للأمن قبل أسابيع، الذي انتقد بقوة الديمقراطية الغربية وأظهر تدخلاً واضحاً في الشأن الداخلي الأوروبي لصالح أحزاب اليمين، وتحدث عن أن الصين وروسيا ليسوا هما العدو الأول للولايات المتحدة بل الجهود التي تقوض الديمقراطية من الداخل الأوروبي بمنع الأحزاب الشعبوية من الوصول للسلطة، لذلك شاهدنا بمجرد إعلان فوز حزب فريدريش ميرتس في الانتخابات الألمانية العامة، أعرب السياسي المحافظ عن نيته جعل أوروبا مستقلة عن الولايات المتحدة ورئيسها المتقلب ترامب.
تعد المسألة التجارية أبرز خطوط الصدع في العلاقة بين الطرفين،. إذ تبنَّت إدارة ترامب – منذ ولايته الأولى – موقفاً حمائياً صارماً، مؤكدة على سياسات “أمريكا أولاً” التي تهدف إلى الحد من اختلالات الميزان التجاري الملحوظة. اتهم ترامب الاتحاد الأوروبي بشكل متكرر بالانخراط في ممارسات تجارية غير عادلة، وخاصة في قطاعات مثل السيارات والزراعة والخدمات الرقمية. وندَّد بفرض تعريفات جمركية عالية بشكل غير متناسب على السلع الأمريكية في حين استفاد من التعريفات الجمركية المنخفضة على صادراته إلى الولايات المتحدة.في هذا السياق، دخلت العلاقات بين واشنطن وبروكسل مرحلة جديدة من التوتر، بعدما أعلن ترامب عزمه فرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي “في القريب العاجل”، مما دفع بروكسل إلى التعهد برد “حازم وفوري”، واصفة الإجراء الأمريكي بأنه “عائق غير مبرر أمام التجارة الحرة والعادلة”.
وعند سؤاله عن نسبة الرسوم المرتقبة، صرح ترامب للصحافيين في البيت الأبيض قائلاً: “لقد اتخذنا القرار، وسنعلنه قريبًا.. وبشكل عام ستكون النسبة 25%”، مؤكدا عزمه فرض الرسوم على جميع السلع، لكنه ركز بشكل خاص على “واردات السيارات”، منتقدًا السياسات الأوروبية بقوله: “لقد استغلوا ثروتنا، فهم لا يقبلون سياراتنا ولا منتجاتنا الزراعية، بينما نفتح أسواقنا أمام كل شيء يأتي منهم”.
التكيف مع التحديات الأمنية الإقليمية في النطاق الأوروبي: جاءت التعهدات على النحو التالي، مساعدة أوروبا في الدفاع عن نفسها ولكن ترسيخها بقوة في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). كذلك الإنفاق الدفاعي بما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الهدف الحالي لحلف شمال الأطلسي. فضلا عن إعادة فرض الخدمة العسكرية، والتي تم تعليقها في عهد حكومة الحزب الديمقراطي المسيحي السابقة في عام 2011. بالإضافة إلى إنشاء سوق داخلية في الاتحاد الأوروبي للسلع الدفاعية بقواعد تصدير مشتركة، وتبسيط عمليات شراء الدفاع.ويؤيد ميرتس بشكل مشروط تزويد أوكرانيا بصواريخ توروس ذات المدى الأبعد، وهي الخطوة التي لم يتخذها شولتز.
وفي تصريحات أخرى ” في 21 فبراير 2025 للمحطة العامة الثانية “ZDF”، وهيئة الإذاعة والتلفزيون الألمانية ARDقال “ينبغي لنا الاستعداد لإمكان ألا يسمح دونالد ترامب بتطبيق تعهّد المساعدة المنصوص عليه في اتفاقية الناتو بلا قيود”، في إشارة إلى الفصل الخامس حول التضامن بين الأعضاء. وتطرّق إلى ضرورة مناقشة الردع الأوروبي بالاستناد إلى القوّتين النوويتين فرنسا وبريطانيا. وأقرّ “طبعا هناك دوما مسألة القرار النهائي الأساسية” بشأن استخدام السلاح النووي.
الخلاصة:
يمكن القول أن نتائج الانتخابات الألمانية في فبراير 2025 شكلت لحظة حاسمة في مسار العملية السياسة الألمانية، والتي بلا شك ستلقي بظلالها أسلوب الحكم وتدبير الشأن الداخلي، كما ستترك تأثيرًا واضحًا على الأجندة الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن تغير ألمانيا، في عهد المستشار ميرتس، مسارها في بعض المجالات، مثل سياسة الهجرة والسياسة الدفاعية ومسألة الاستقلالية الأوروبية عن السياسة الأمريكية.
أمام هذا الأمر ستبرز تحديات أخرى ستتمثل في التعامل الألماني مع حالة المنافسة المحتملة ً بين فرنسا وبريطانيا على قيادة التكتل الأوروبي والتحدث باسمه في مواجهة الولايات المتحدة بشأن الملف الأوكراني وغيره من الملفات، ففرنسا تطرح حالياً توسيع المطلة النووية لها لحماية أوروبا بالكامل، بينما تطرح بريطانيا قيادة الجهد العسكري المشترك وقوات حفظ السلام ( القوة الأوروبية) في أوكرانيا حال تم تسوية الصراع في المدى المنظور.
فهل سيتمكن “فريدريش ميرتس” من إحياء القوة الاقتصادية الألمانية مرة أخرى؟ واستعادة الدور الألماني في القيادة الأوروبية وتنظيم العلاقات مع الولايات المتحدة بل وتنشيط الدور الألماني في الدوائر غير الأوروبية مثل أفريقيا والشرق الأوسط وغيرها . ذلك ما ستكشف عنه الفترة القادمة.