إعداد: غدي قنديل
باحثة دكتوراه في العلوم السياسية
أعادت جزيرة لامبيدوزا الإيطالية معضلة الهجرة غير الشرعية في أوروبا إلى الواجهة، إذ وصل أكثر من 120 ألف مهاجر إلى إيطاليا منذ بداية العام الجاري، أي ضعف العدد المسجل في نفس الفترة من عام 2022، ما فاق القدرات الاستيعابية للجزيرة، ومن ثم جاءت الدعوة إلى تضامن أوروبي لمساعدة روما على إدارة تدفق المهاجرين الوافدين عبر البحر المتوسط.
وبينما كانت دول مثل ألمانيا على استعداد لتوفير الملاذ لضحايا الصراع في سوريا، بل وللفارين أيضا من مناطق الحرب في دول أخرى كالعراق وأفغانستان وليبيا، فإن دولاً مثل اليونان وإيطاليا، الواقعتين على شواطئ المتوسط، المركز الرئيس لأزمة المهاجرين، لم تكونا متحمستين لاستقبال كل هذا العدد من اللاجئين الباحثين عن ملاذ آمن في أوروبا، بل وكشفتا عن سياسة متشددة للحد من الهجرة غير النظامية، مثل حماية الحدود وزيادة وتيرة الترحيل.
أفضت تلك المواجهة إلى نزاع دبلوماسي واضح بين ألمانيا وإيطاليا، حول كيفية معالجة أزمة الهجرة، حيث كشف التراشق العلني بين روما وبرلين عن التوترات العميقة بين دول الاتحاد الأوروبي في قضية المهاجرين، وهي توترات لم تزل قائمة على الرغم من محاولات دول مثل بلجيكا المتكررة لإيجاد أرضية مشتركة لمعالجة الأزمة.
وفي ظل هذا التضارب في نهج دول الاتحاد الأوروبي إزاء ملف الهجرة، تطرح مستجدات الوضع الحالي تحديًا مضاعفًا أمام الاتحاد الأوروبي الطامح إلى تطوير سياسة أوروبية مشتركة للجوء، وضمان تقاسم الأعباء بشكل عادل بين الدول، ما يفرض تساؤلاً محوريًا حول تقييم خطوات السياسة الأوروبية لذا تسعى هذه الورقة للإجابة عن فرص نجاح سلسلة القمم الأوروبية من – قمة روما المنعقدة في 23 يوليو الماضي، مروراً بقمة مالطا في 29 سبتمبر الماضي وأخيرًا قمة غرناطة في 5 أكتوبر الماضي- في اجتياز أزمة المهاجرين المحتدمة.
سياق الأزمة الحالي
في إطار مبدأ التضامن الإلزامي بين الدول الأوروبية لتخفيف معاناة البلدان التي تقف على الخط الأول في مواجهة الهجرة غير النظامية، مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان، وهي الدول التي تحملت العبء الأكبر لأنشطة مهربي البشر، حيث ارتفع عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين استقبلتهم الشواطئ الإيطالية خلال عام 2023، مع وصول أكثر من 83 ألف مهاجر غير شرعي إلى البلاد، بالمقارنة مع 34 ألف فرد خلال الفترة نفسها من عام 2022، وبالإضافة لطالبي اللجوء من مختلف دول العالم التي تشهد أزمات وحروب، فإن حوالي 1.1 مليون لاجئ حرب قدموا من أوكرانيا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية.
وتأتي سلسلة التحركات الأوروبية في سياق إعلان مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن أكثر من 2500 مهاجر قضوا نحبهم أو فُقدوا في أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، منذ مطلع العام وهو عدد أكبر بكثير مما كان في الفترة نفسها عام 2022، وهو ما دفع الحكومات الأوروبية للتحرك سريعاً للتعامل بصورة أكثر حسماً مع هذه الظاهرة.
ففي الوقت الذي لا تستطيع إيطاليا حماية سواحلها من المهاجرين غير الشرعيين، فمعظم الذين عبروا البحر خلال عام 2023 لم يتم إنزالهم بواسطة سفن الإنقاذ من منظمات الإغاثة، لكنهم وصلوا إلى الموانئ الإيطالية باستخدام زوارق المهربين، ويتوقع أن يكون العدد الحقيقي أكبر بكثير لأن العديد من المهاجرين لا يتم تسجيلهم، يقيم حاليًا في ألمانيا -الوجهة الأولى للمهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء الذين يصلون إلى دول الاتحاد الأوروبي- ما يقدر بنحو 280 ألف مواطن أجنبي في ألمانيا دون تصريح إقامة ساري المفعول، وسُمح لنحو 80% منهم بالبقاء حتى الآن، في حين يبلغ عدد المهاجرين الذين يمكن ترحيلهم بشكل فوري نحو 54 ألفًا، لذا وضعت الحكومة قواعد جديدة للترحيل تهدف إلى التشديد ضد الهجرة غير الشرعية، وتضمن إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
حيث أطلقت الحكومة الألمانية عمليات تفتيش مؤقتة على الحدود عند المعابر مع بولندا والتشيك، كما أوقفت القبول الطوعي للاجئين القادمين من إيطاليا، وأعلنت عن خطط لتشديد قوانين الترحيل، مما قد يؤدي إلى سجن المهاجرين بشكل غير نظامي، وهو ما أثار أزمة جديدة بين البلدان الأوروبية الرامية لسياسة مشتركة تضمن حل موحد ضد أزمة الهجرة غير الشرعية.
قمة روما 23 يوليو2023
زعم وزراء الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي أنهم توصلوا أخيرًا إلى اتفاق على الركائز الأساسية لإصلاح سياسة الهجرة الأوروبية، ومنها إدخال تدابير حدودية إلزامية وسريعة لمعالجة قضايا المهاجرين، ولإقرار مبدأ التضامن الإلزامي بين الدول لتخفيف معاناة البلدان التي تقف على الخط الأول في مواجهة الهجرة غير النظامية، حيث أن دعم هذه الدول أمرًا حاسمًا في توفير الأغلبية المناسبة التي يتطلبها قانون الاتحاد الأوروبي للموافقة على القواعد الجديدة.
حيث وافق الاتحاد الأوروبي، بمقتضى شروط السياسة الجديدة، على الحد الأدنى لعدد المهاجرين الذين يرحلون سنويًا من دول الأعضاء، مثل إيطاليا واليونان، اللتين يدخلهما معظم من يفد إلى الاتحاد الأوروبي، وإعادة توطينهم في دول مثل ألمانيا، الأقل تعرضًا لمثل هؤلاء المهاجرين، وقد حدد الاتحاد العدد بـ30 ألفًا، تحت ما يسمى بنموذج المال مقابل المهاجرين، بينما وضع الحد الأدنى للمساهمات المالية سنويًا بمبلغ 20 ألف يورو لكل عملية ترحيل وإعادة توطين.
لكن اختلاف وجهات نظر العواصم الأوروبية الكبرى في التعامل مع الأزمة دفع جورجيا ميلوني إلى محاولة صياغة سياسة إيطالية منفصلة في هذه القضية، مع استضافة روما قمة دولية حول الهجرة في شهر يوليو الماضي شارك فيها زعماء من بعض دول حوض المتوسط والشرق الأوسط، حيث شجعوهم على تطوير تعاون أوثق، وتم الإعلان خلال الاجتماع الذي احتضنته العاصمة الإيطالية، عن مسار جديد للتعاطي مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية، تقود من خلاله روما المبادرة لمكافحة أنشطة الهجرة غير الشرعية، وما يتخللها من جرائم عابرة للحدود، فضلاً عن تحقيق نوع من التعاون بين دول المقصد والدول الأم، بالإضافة إلى دول العبور؛ لضمان عدم تعرض المهاجرين للاستغلال من قبل تجار البشر والعصابات الإجرامية، بجانب تحسين الأوضاع المعيشية بصفة عامة بالدول الأم، وبناء إطار قانوني وشرعي لاستقبال الدول الأوروبية للمهاجرين بصورة شرعية.
واستنادًا على هذا، وافق مسؤولو دول مطلة على البحر الأبيض المتوسط وأخرى من الشرق الأوسط وأفريقيا على عدة إجراءات ترمي إلى إبطاء وتيرة الهجرة غير النظامية ومعالجة بعض المشاكل التي تدفع المهاجرين إلى الخروج من بلادهم ومحاولة الوصول إلى أوروبا، حيث وافق المشاركون الذين يمثلون أكثر من 20 دولة على توفير التمويل اللازم لدعم مشاريع التنمية فيما أطلقت عليه جورجيا ميلوني اسم “عملية روما” التي ستستمر لعدة سنوات، كما رحبت بالتعهد الذي أعلنته الإمارات بتقديم 100 مليون دولار حيث اعتبرت أن الخطوة التالية لهذه العملية هي تنظيم مؤتمر للمانحين.
غير أن الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي لعبت دورها في تقييد هذه السياسة، إذ صوتت ضد هذا التشريع كل من بولونيا والمجر، المعارضتين دائمًا لسياسة الهجرة التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، بينما امتنعت بلغاريا ومالطا وليتوانيا وسلوفاكيا عن التصويت، وتغيب كل من فرنسا وألمانيا، اللتين انتقدتا بشدة نهج ميلوني المتشدد، لكن رغم هذا، فإن مسار روما مثل البداية لبروز المزيد من المبادرات الفردية والثنائية والجماعية الهادفة إلى معالجة ظاهرة الهجرة غير الشرعية، في ظل تصاعد حدة الظاهرة بمعدلات مقلقة خلال الأشهر الأخيرة.
قمة مالطا29 سبتمبر 2023
عقدت قمة مالطا تحت اسم “ميد 9 ” لمحاولة إيجاد حل متناغم لأزمة الهجرة حيث دعت الدول التسعة كرواتيا وقبرص وإسبانيا وفرنسا واليونان وإيطاليا ومالطا والبرتغال وسلوفينيا إلى استجابة موحدة وهيكلية، تهدف لتخفيف الضغط عن الدول الواقعة في خط المواجهة الأمامية، مثل إيطاليا واليونان، من خلال نقل بعض الوافدين إلى دول أخرى في أعضاء الاتحاد، لذا اجتمع قادة الدول المتوسطية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في 29 سبتمبر الماضي في مالطا لإجراء محادثات حول تفاقم أزمة الهجرة في البحر المتوسط.
كان الهدف من عقد قمة مالطا ضبط مواقف بلدان جنوب أوروبا التي غالبًا ما تكون على الخطوط الأمامية في قضية الهجرة، قبل الاجتماعات الحاسمة للاتحاد الأوروبي في غرناطة بإسبانيا في الخامس والسادس من أكتوبر الماضي، ثم في بروكسل نهاية شهر أكتوبر وفي شهر ديسمبر، وطالبت القمة بالتبني السريع لميثاق الهجرة الأوروبي، الذي ينص على إصلاح نظام اللجوء إلى الدول الأعضاء السبع والعشرين، من خلال معالجة القضية من جذورها، من خلال شراكات قوية وشاملة مع دول جنوب البحر الأبيض المتوسط على غرار الاتفاق المبرم مع تونس بسعي من إيطاليا وفرنسا.
وفي هذا السياق، توصل سفراء دول الاتحاد الأوروبي في الرابع من أكتوبر الماضي خلال اجتماعهم في بروكسل، إلى اتفاق حول نص رئيسي لإصلاح سياسة الهجرة في أوروبا، متغلبين على التحفظات الإيطالية، قبل انعقاد قمة التكتل في إسبانيا، حيث يهدف النص إلى تنسيق استجابة مشتركة في حال تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي، كما حدث أثناء أزمة اللاجئين 2015-2016، مما يسمح خاصة بتمديد مدة احتجاز المهاجرين على الحدود الخارجية للتكتل[9].
وخلص الاجتماع إلى اتفاق بشأن تقاسم مهمة رعاية اللاجئين والمهاجرين في حالات الأزمات، سيشكل أساس المفاوضات بين الدول الأعضاء والبرلمان الأوروبي، ويمنح الدول خيارات لتعديل قواعد اللجوء والهجرة في أوقات الأزمات، ويمكن من خلاله للدول الأعضاء، التي تواجه تدفقات كبيرة من المهاجرين تسريع الإجراءات وطلب إسهامات تضامن من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى فيما يتعلق بنقل طالبي اللجوء أو تلقي مساعدات مالية.
وقد واجه النص، وهو الجزء الأخير من ميثاق اللجوء والهجرة الأوروبي والذي يتطلب موافقة الدول الأعضاء، اعتراضات من ألمانيا لعدة أشهر، وتم التوصل أخيرًا إلى توافق في نهاية سبتمبر الماضي، لكن إيطاليا أعربت بعد ذلك عن عدم موافقتها، وطالبت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني بأن تقوم المنظمات غير الحكومية التي تنقذ المهاجرين في المتوسط، بإنزالهم في البلدان التي ترفع أعلامها على السفن التي تستخدمها، واتهمت روما برلين بتمويل العديد من منظمات الإغاثة غير الحكومية في المتوسط.
كما امتنعت كل من النمسا وسلوفاكيا وتشيكيا عن التصويت، وعارضته بولندا والمجر، ومن المفترض رغم ذلك اعتماد هذا الميثاق الذي عرضته المفوضية الأوروبية والذي يتضمن حوالي عشرة تشريعات، قبل الانتخابات الأوروبية المقررة في يونيو 2024.
قمة غرناطة 5 أكتوبر 2023
ناقشت اجتماعات أوروبية موسعة قضايا الدفاع والهجرة وتوسعة الاتحاد الأوروبي والاستقلال الاستراتيجي لأوروبا والنزاعات التي تشهدها القارة وعلى رأسها النزاع بين روسيا وأوكرانيا، يومي الخميس والجمعة الخامس والسادس من أكتوبر المنصرم، بين أعضاء الاتحاد الأوروبي الـ 27 خلال قمة غير رسمية بمدينة غرناطة الإسبانية للتهيئة لقمتهم المنتظرة نهاية العام.
وضمن الملفات الثقيلة لتلك القمة، ناقش زعماء الاتحاد الأوروبي مسألة الهجرة، وضرورة معالجة الهجرة غير الشرعية على الفور وبطريقة حازمة، ومن أجل اتباع نهج شامل بشأن الهجرة، يلزم التركيز على؛ زيادة العمل الخارجي، والحماية الفعالة للحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، والشراكات الشاملة ذات المنفعة المتبادلة مع بلدان المنشأ والعبور، وضرورة معالجة الأسباب الجذرية للهجرة، وتعزيز فرص الهجرة الشرعية. في ظل التزام الاتحاد الأوروبي أيضًا بمكافحة الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر والتهريب، بما يتوافق مع القانون الدولي ومبادئ الاتحاد الأوروبي وقيمه، وحماية الحقوق الأساسية[11].
ورغم أن القمة ناقشت قضية الهجرة، التي تتزايد حدتها في الفترة الأخيرة، لكنها فشلت في صياغة موقف مشترك بشأنها، حيث أخفق زعماء الاتحاد الأوروبي الـ27 في اعتماد إعلان نهائي بشأن الهجرة غير القانونية في غرناطة يوم الجمعة 6 أكتوبر الماضي ، بسبب اعتراض بولندا والمجر، اللتين أثارتا مخاوف بشأن السياسة الجديدة، ورفضتا التوقيع على الوثيقة، ويأتي فشل زعماء الاتحاد الأوروبي بعدما وُصف اتفاق يوم الأربعاء بـالمنعطف التاريخي، حيث تم إحراز توافق مبدئي حول بنود النص الرئيسي لإصلاح سياسة الهجرة في أوروبا.
إلا أن اعتراض بولندا والمجر حال دون اعتماد إعلان نهائي، حيث عطلت بولندا والمجر الاتفاق، وطالبتا بإعادة التفاوض بشأن اتفاق توزيع طالبي اللجوء على بلدان التكتل، وبالتالي تم التخلي عن النص المرتبط بالهجرة الذي تم إعداده ليصدر باسم جميع بلدان الاتحاد الأوروبي الـ27، إذ اتهم رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي دول الاتحاد الأوروبي بالسعي إلى تحويل اتفاق تشارك عبء المهاجرين إلى عملية إجبارية لا طوعية، فلا توجد إمكانية لتوزيع المهاجرين غير الشرعيين دون موافقة الدول الأعضاء بشكل فردي، بينما رفضت المجر التوقيع وأعلنت أنه لا يمكنها القبول بأي قاعدة إلا إذا اتفقت دول الاتحاد الأوروبي عليها بالإجماع.
وتعتبر هذه اللائحة الجزء الأخير من ميثاق الاتحاد الأوروبي للجوء والهجرة الذي سيتم التفاوض بشأنه مع البرلمان الأوروبي، وحظيت بموافقة الدول الأعضاء بالأغلبية المؤهلة كما تنص المعاهدات، وليس بالإجماع إذ صوت كل من بولندا والمجر ضد النص، بينما امتنعت النمسا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك عن التصويت، ما يعكس الطبيعة المعقدة لملف الهجرة وسط الخلافات التاريخية بين دول الاتحاد حول هذا الملف.
بين روما ومالطا وغرناطة.. هل نضمن حل نهائي للهجرة غير الشرعية في أوروبا؟
تتباين التقديرات حول مدى إمكانية نجاح مثل هذا المسار الجديد التي انتهجه الاتحاد الأوروبي في الشهور القليلة الماضية للحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وخلق مسارات بديلة للمهاجرين بصورة شرعية وقانونية، يطرح هذا عدد من المؤشرات تتمثل في:
1- الانقسام الأوروبي: ظهرت محاولات متنوعة من قبل دول الاتحاد الأوروبي للتعاطي مع أزمة المهاجرين غير النظاميين، وتمثلت آخر هذه المحاولات في اجتماع يونيو في بروكسيل، ثم في يوليو في روما، وفي نهاية سبتمبر في مالطا ومنذ أيام في غرناطة، للتوافق على خطة جديدة لحل هذه الأزمة، خاصةً مع تصاعد وتيرة حوادث الغرق في سواحل البحر المتوسط لقوارب الهجرة غير الشرعية، وبروز مثل هذه الخلافات حول الطريقة المثلى للتعاطي مع أزمة اللاجئين، وتصاعد حدة الخلاف بين إيطاليا وعدد من الدول الأوروبية – خاصة فرنسا – قد يمنع انخراط الدول الأوروبية الأخرى بقوة في مسار الحل، وهو ما قد يقلل من فرص نجاح الخطة الأوروبية.
وبيد أنه وفقًا للأطر القانونية للاتحاد الأوروبي، يمكن إقرار مثل هذه القوانين في حالة حصولها على موافقة ودعم أغلبية أعضاء الاتحاد، إلا أن رفض بولندا والمجر للقانون كما حدث في قمة غرناطة من شأنه أن يرجئ التصويت عليه إلى طاولة قمة الاتحاد الأوروبي القادمة في بروكسل في نهاية الشهر الجاري، التي يتوقع ألا تشهد إقراراً لذات القانون مع امتلاك الدولتين حق الفيتو خلال طرح المشروع للتصويت.
2- تغليب الاتفاقيات الثنائية على حساب الجهود الجماعية: دفعت بعض الدول الأوروبية أيضاً نحو عقد اتفاقيات ثنائية مع دول العبور أو طرف ثالث، يتعهد بموجبها هذا الطرف باستقبال المهاجرين وطالبي اللجوء عبر أراضيه، في مقابل الحصول على دعم مالي كبير من الدول التي كانت هدفًا رئيسياً للمهاجرين وطالبي اللجوء، وقد كانت بريطانيا من أوائل الدول الأوروبية التي دخلت في مثل هذه الاتفاقيات حيث تم التوافق بينها وبين حكومة رواندا على اتخاذ طالبي اللجوء في بريطانيا من رواندا موطناً لإقامة به.
وقد توصلت دول الاتحاد الأوروبي بدورها إلى اتفاق مماثل مع تونس في يوليو الماضي؛ حيث تم الإعلان عن توقيع الاتحاد اتفاق شراكة استراتيجية بقيمة مليار يورو لمجابهة الهجرة غير الشرعية، في مقابل تعزيز تونس قبضتها الأمنية على حدودها البحرية، ومنع هجرة الأفراد عبر سواحلها إلى الجنوب الأوروبي، وهو ما يعني أن هذا المسار يمكن أن يتحول إلى مبادرة ثانوية تدعم هذه الاتفاقيات الثنائية، دون تحولها إلى مظلة عامة تجمع جميع الفواعل تحت إطارها، وتقدم رؤية موحدة لمعالجة الظاهرة.
3- الإدانة الحقوقية للموقف الأوروبي: على الرغم من مشاركة عدد من المؤسسات المعنية بشؤون اللاجئين في الاجتماعات الأوروبية ، فإن هناك بعض التخوفات من المساس بحقوق الإنسان في سبيل الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، خاصة في ظل تعزيز سياسة العزلة الأوروبية، وهي السياسة التي يروج لها اليمين الأوروبي، ويفتح الباب أمام تبرير المزيد من الانتهاكات التي تمارسها السلطات الأوروبية ضد مراكب المهاجرين غير الشرعيين، فضلاً عن تجاهل إمكانية خلق مسار بديل للهجرة بصورة شرعية للأفراد الأقل حظاً في المستوى التعليمي والثقافي والاجتماعي وبالتالي لا يتم قبولهم في برامج الهجرة القانونية التي تروج لها عدد من الحكومات الأوروبية باعتبارها مساراً بديلاً للهجرة غير الشرعية، لذا فمن الجدير بالاهتمام ألا يؤدي اندفاع دول الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق إلى تهميش حقوق الإنسان في هذه العملية.
الخاتمة
تمثل أزمة الهجرة الحالية فرصة عظيمة لليمين المتطرف في دول أوروبا، حيث يعتبر الوقود الانتخابي الذي سيتم استغلاله ضد سياسات الحكومات الأوروبية في هذا الملف، حيث تأتي الأزمة في عام انتخابي أوروبي حاسم، إذ تحاول قوى اليمين إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للبرلمان الأوروبي، حيث نجح تيار اليمين المتطرف في اختبار قوته في المجر وبولندا وإيطاليا وسلوفاكيا وإسبانيا واليونان.
ومن ثم تفرض الأزمة أيضًا تحديات كبيرة على سياسة الهجرة الأوروبية، ففي الآونة الأخيرة، حظيت الصفقة الموقعة مع تونس باهتمام إعلامي كبير، في مقابل المساعدات الاقتصادية الصعبة والدعم السياسي الكبير من المؤسسات المالية الدولية، تعهدت تونس بمحاربة شبكات الاتجار بالبشر التي تتدفق بالمهاجرين على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، ولكن التحدي الرئيسي الذي تفرضه أزمة الهجرة وفقا للمعطيات السابقة، يشكل اختباراً غير مسبوقًا للتضامن الأوروبي في هذا الملف، فإما أن تتمسك أوروبا بأساسيات التضامن وتقاوم الضغوط الخارجية والداخلية، وإما أن تتصدى لهذه القضايا وتنغمس في اختبار أبدي حول المشروع الأوروبي المشترك.
فقطعًا الانتخابات الأوروبية المقبلة المقرر إجراؤها في يونيو المقبل سوف تتمحور حول قضية واحدة؛ ألا وهي قدرة جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي على النضال بفعالية وإنسانية ضد موجات الهجرة في ظل إصرار قادة الاتحاد الأوروبي أنهم يسيرون في المسار الصحيح وأن القمم الأوروبية على مدار الأشهر الماضية مثلت خطوات تاريخية في سبيل معالجة وتنظيم ظاهرة الهجرة غير الشرعية في القارة.
ورغم أن إدارة أزمة الهجرة تعد أولوية مطلقة لأعضاء الاتحاد الأوروبي، من خلال الدعوة إلى التبني السريع لميثاق الهجرة الأوروبي، الذي ينص على إصلاح نظام اللجوء إلى الدول الأعضاء السبع والعشرين، فإن المفاوضات تظل مضنية، خاصةً وأنه من المقرر أن تبدأ المفوضية الأوروبية الجديدة والبرلمان الأوروبي العمل في العام المقبل، وقد يرغبان في تعديل الاتفاقية، مما يزيد من خطر انهيارها، لاسيما وأن البلدان ذات الحكومات المناهضة للمهاجرين؛ المجر ثم بولندا سوف تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي بعد الانتخابات في يونيو 2024.