إعداد / رنا حمدي
باحثة في الشأن الصيني
مقدمة
ستظل تايوان نقطة احتكاك وصدام محتمل بين الصين والولايات المتحدة لذلك تحظى أي أخبار تتعلق بتايوان باهتمام عالمي، وفي هذا السياق لاحظنا حجم الإهتمام بالإنتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تايوان حيث صورتها بعض التقارير على أنها خط النهاية للصدام مع الصين بسبب صدور تصريحات صينية قوية معادية لبعض المرشحين المعارضين لإعادة توحيد الجزيرة مع الوطن الأم ، لكن المتابع للشأن الصيني خلال السنوات الأخيرة يلحظ استمرار هذ الخط المرتفع من التصريحات المهددة للجزيرة ولسياساتها التقاربية مع الولايات المتحدة ودول أخرى، كما استمرت الصين في الضغط الدبلوماسي والعسكري على الحكومة التايوانية لإثنائها عن الوصول للنقطة الحرجة وهي إعلان الإستقلال من جانب واحد ومعروف تبعات هذا الأمر حسب السياسة الصينية المعلنة.
في الإنتخابات التايوانية الأخيرة التي جرت هذا الشهر ( يناير 2024) فاز مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي لاي تشينغ- تي، الذي تعتبره الصين “خطر جسيم” بسبب مواقفه المؤيدة لاستقلال تايوان، وسيتولى منصبه في 20 مايو المقبل، ولا تزال تبعات هذا الفوز تتفاعل حتى الآن في صورة تصريحات صينية قوية ضد لاي -تي والتحذير من حماسه للمواجهة مع الصين وعواقبها وكذلك تحذيرالدول الداعمة لتايوان من تقوية الجناح المتشدد داخل تايوان وكأنه إدراك صيني مبكر لسيناريو اوكرانيا الذي تم اتباعه مع الروس وأمكن من خلاله جر روسيا للحرب وتطويقها اقتصاديا وسياسياً وجعلها تغرق في الوحل الأوكراني في حرب لم تنتهي بعد ولا يتوقع لها افنتهاء قريباً.
في هذا التحليل يرصد مركز السلام للدراسات الاستراتيجية أبعاد هذه الإنتخابات وأهميتها وما يمكن أن تقود إليه من سيناريوهات مختلفة للأمن والاستقرار الإقليمي في آسيا.
دلالات نتائج الانتخابات على المستوى المحلي:
يتحكم في المشهد السياسي التايواني اتجاهين أساسيين: الأول، الاتجاه المؤيد لإستقلال تايوان وإعلان الدولة والثاني، الإتجاه المؤيد لعلاقات ودية مع الصين والاحتفاظ بالوضع الراهن للجزيرة والحكم الذاتي. تتوزع الأحزاب السياسية الرئيسية تحت هذين الإتجاهين، حيث يمثل الحزب الديمقراطي التقدمي رأس الحربة للإتجاه الأول بينما يمثل حزب الشعب وحزب الكوميتانج الإتجاه الثاني. مع ذلك لا تمثل قضية العلاقة مع الصين الأولوية الأولى للناخب التايواني، فكل استطلاعات الرأى تظهر أن الاهتمام بالقضايا المحلية مثل الوظائف والضرائب والأحوال المعيشية تأتي في المرتبة الأولى، ويتحدد في ضوءها خيارات الناخبين ولعل أكبر دليل على هذه المعادلة هي خسارة الحزب الحاكم للانتخابات المحلية التي اجريت في نوفمبر 2022 حيث تعرَّض الحزب الديمقراطي التقدمي لأكبر هزيمة بينما تمكَّن حزب الكومينتانغ من الفوز بـ13 مقعداً من أصل 22 مقعداً، بينما حصل الحزب الديمقراطي على 5 مقاعد فقط وهو ما مكن حزب الكوميتانج من السيطرة على المجالس المحلية والتنفيذية والتشريعية. مع ذلك تمكن الحزب التقدمي من الفوز في الإنتخابات الرئاسية بتمكن لاي تشينغ- تي، نائب الرئيس المنتهية ولايته وعضو حزب “الحزب التقدمي الديمقراطي”. من الفوز بنسبة تفوق الأربعين في المئة من الأصوات، بتوجيه من الناخبين الذين يؤيدون استقلال تايوان، حيث حكم المشهد الإنتخابي قضية العلاقة مع الصين بالأساس وساعد على ذلك تصريحات الصين نفسها إزاء تفضيل أو رفض بعض المرشحين. بينما حصل هو يو-إيه، المرشح البارز لحزب “الكومينتانغ” الذي يدعو إلى التقارب مع الصين على نسبة 33.5 في المئة من الأصوات. وجاء المرشح الثالث، كو وين جي، من حزب الشعب التايواني والذي يقدم نفسه على أنه مناهض للنظام القائم في المركز الثالث بحصوله على 26,4 بالمئة من الأصوات.
وبذلك يعاد رسم الخريطة السياسية الداخلية في تايوان على النحو التالي:
- بقاء الأحزاب الرئيسة في دائرة التأثير وهي : حزب “الحزب التقدمي الديمقراطي” (DPP) الحاكم، وحزب “الكومينتانغ” (KMT)، وحزب “شعب تايوان” (TPP) الذي تأسس في عام 2019.
- يمتلك حزب “الحزب التقدمي الديمقراطي” حاليًا الأغلبية في البرلمان بواقع 63 مقعدًا، بينما يمتلك حزب “الكومينتانغ” 38 مقعدًا. ويمتلك حزب “شعب تايوان” خمسة مقاعد. ويبلغ إجمالي عدد مقاعد البرلمان 113 مقعدًا.
- احتفاظ حزب الكوميتانج بالسيطرة على المجالس المحلية والتنفيذية.
- عدم قدرة حزب الأغلبية ممثلاً في الحزب الديمقراطي التقدمي على التحرك منفرداً فلابد من تشكيل حكومة إئتلافية ستحد بلا شك من أي توجهات متطرفة تجاه الصين وثمثل في الوقت نفسه نقطة توازن هامة في المعادلة السياسية الداخلية والخارجية.
الإنتخابات التايوانية ومواقف القوى الدولية المعنية:
كما سبق أن اوضحنا أن مسألة تايوان من أكبر القضايا الخلافية في المنافسة بين الصين والولايات المتحدة الداعم العسكري الرئيسي للجزيرة فأي نزاع في مضيق تايوان سيكون كارثياً على السياسة و الاقتصاد، فالجزيرة تؤمن سبعين بالمئة من أشباه الموصلات في العالم ويمر أكثر من خمسين بالمئة من الحاويات المنقولة في العالم عبر هذا المضيق لذلك الصين والولايات المتحدة ودول أخرى مهتمة بالتحركات الصينية مثل اليابان واوروبا كانت على رأس المتابعين لنتائج هذه الإنتخابات.
الموقف الصيني
شدد وزير الخارجية الصيني وانغ يي، على أن تايوان «لم تكن يوماً بلداً» ولن تكون، محذّراً من عقاب «قاسٍ» لأي خطوات نحو استقلالها، كما أعربت الصين عن رؤيتها بأن “إعادة التوحيد مع تايوان حتمية” بعد انتخاب لاي تشينغ – تي رئيسًا للجزيرة. وقد دعت بكين الناخبين في تايوان إلى اتخاذ “القرار الصائب”، وتؤكد الصين التزامها بتوافق عام 1992، الذي يؤكد مبدأ الصين الواحدة ويعارض بشدة أي أنشطة انفصالية تستهدف استقلال تايوان وأي تدخل أجنبي في الشأن الداخلي لتايوان. ومن جانب أخر تشدد الصين على أن نتائج الانتخابات في تايوان لن تؤثر على المسار الحتمي لإعادة التوحيد مع الصين، وأن الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايوان لا يمكنه تمثيل غالبية الرأي العام في الجزيرة.
موقف الولايات المتحدة
أعرب الرئيس الأميركي جو بايدن عن عدم دعم الولايات المتحدة لاستقلال تايوان، في تعليقه على فوز لاي تشينغ تي في الانتخابات الرئاسية بتايوان بينما أشاد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بصلابة النظام الديمقراطي في تايوان. تسببت تصريحات الرئيس جو بايدن في إثارة الارتباك حيث تساءل البعض عما إذا كان هناك تغيير في السياسة الأميركية تجاه تايوان. ومع ذلك، قام البيت الأبيض فيما بعد بتوضيح الموقف وأكد استمرار الالتزام بالسياسة الحالية تجاه تايوان. هذا التراجع ساهم في تهدئة المخاوف وتوضيح الموقف الذي يعتمده الولايات المتحدة تجاه هذه القضية.
ومعروف أن الولايات المتحدة تنتهج سياسة الغموض الاستراتيجي تجاه تايوان، حيث تعترف بسياسة الصين الواحدة وتقيم علاقات رسمية مع الصين، وليس مع تايوان كدولة مستقلة. وعلى الرغم من ذلك، تواصل الولايات المتحدة تزويد تايوان بالدعم العسكري والسياسي، وتعهد بايدن أكثر من مرة منذ وصوله للرئاسة بـ”الدفاع عن تايوان.
الموقف الروسى
قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن بعض الدول تحاول استخدام الانتخابات الأخيرة في تايوان للضغط على بكين وزعزعة استقرار الوضع الإقليمي، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى نتائج عكسية، وفي تعليقه على الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تايوان، أكد المتحدث أن روسيا تعتبر تايوان جزءًا لا يتجزأ من الصين، وقال: “إن موقف روسيا بشأن قضية تايوان معروف جيدًا وثابت ولن يتغير.
مواقف دولية أخرى
رحب الاتحاد الأوروبي بإجراء الانتخابات في تايوان وهنأ جميع الناخبين الذين شاركوا في الاستحقاق الديمقراطي، كما أشادت وزيرة الخارجية اليابانية يوكو كاميكاوا بتنظيم الانتخابات بشكل سلس وهنأت لاي تشينغ تي على فوزه، معلنة عزمها على تعزيز العلاقات بين البلدين. كما أعرب مسؤول بوزارة الخارجية الكورية الجنوبية عن أمله في الحفاظ على السلام والاستقرار في مضيق تايوان، وأعرب عن رغبته في مواصلة تعزيز التعاون العملي مع تايوان في مختلف المجالات. وقد هنأ وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون أيضًا لاي تشينغ تي على فوزه ودعا الأطراف في مضيق تايوان إلى حل الخلافات سلميًا. وهنأ سانتياجو بينيا، رئيس باراجواي أيضًا لاي تشينغ تي على فوزه وعبّر عن سعادته لرؤية تايوان تؤكد مجددًا قيمها من خلال الانتخابات الديمقراطية.
رؤية مستقبلية:
لوضع هذه الإنتخابات في سياقها التحليلي السليم وتجنباً للتهويل من شأن نتائجها أو حتى التقليل منه فإن هناك عدد من المحددات الهامة التي ستحكم المشهد القادم سواء داخل تايوان او على مستوى علاقات تايوان مع الصين والولايات المتحدة ونبرزها فيما يلي:
- أن نتائج الإنتخابات الأخيرة لم تؤثر على التوازنات في المعادلة السياسية الداخلية في تايوان، بل يتوقع حكومة منقسمة، حيث ستسيطر أحزاب مختلفة على السلطتين التنفيذية والتشريعية. وهناك إحتمالات لحدوث حدوث جمود سياسي.
- سيساعد أداء الحكومة الإئتلافية بين الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب الكومينتانغ على تحقيق التوازن الصحيح بين تحفيز الاقتصاد والحفاظ على السلام مع الصين. لذلك سيكون أداء الحكومة الإئتلافية محل متابعة خلال الفترة المقبلة من زاوية طريقة إدارة التوافق بين الإتجاهات المتعارضة خاصة على مستوى قضايا السياسة الخارجية وفي القلب منها قضية العلاقات مع الصين .
- توقع ثبات الوضع الجيواستراتيجي الدولي لتايوان دون تغيير في معادلة العلاقة بين الصين من جانب والولايات المتحدة من جانب أخر ، فالقوتين العظمتين لا ترغبان في المواجهة في المرحلة الحالية، وهناك إحترام لتفاهمات معروفة ومنها إلتزام الولايات المتحدة بسياسة الصين الواحدة ، في مقابل إلتزام الصين بنهج التقارب السلمي والتوحيد الطوعي مع تايوان.
- على صعيد العلاقات التايوانية الصينية من غير المرجح أن نشهد تحسنًا كبيرًا في العلاقات بين الصين وتايوان، خاصةً بعد فوز لاي تشينج – تي واستمرار الحزب التقدمي الديمقراطي في السلطة.
- اما على صعيد العلاقات التايوانية الأمريكية فيتوقع استمرار سياسة تعزيز قدرات تايوان العسكرية والأمنية من جانب الولايات المتحدة، واستمرار العلاقات على المستوى السياسي مع تجنب تجاوز الخطوط الحمراء مع الصين، والهدف إبقاء تايوان ورقة ضغط على الصين في يد الولايات المتحدة فتايوان تقع ضمن ما يسمى بحزام الجزر الأساسية ( اليابان – كوريا الجنوبية – الفلبين ) والتي تعتبرها واشنطن حيوية في استراتيجيتها للأمن القومي في مواجهة الصين وروسيا.
- من المتوقع أن تستمر الصين في إتباع نفس سياساتها الحالية تجاه الجزيرة طالما لم تتجه نحو التصعيد بأي مستوى وتتمحور هذه السياسات فيما يلي:
- استمرار الضغط الدبلوماسي: تعمل الصين على إقناع الدول الأخرى بعدم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان. تهدف هذه الجهود إلى تقليل التأييد الدولي لتايوان وعزلها سياسيًا.
- القيود الاقتصادية: تفرض الصين قيودًا اقتصادية على تايوان، مثل فرض رسوم جمركية عالية على السلع التايوانية المستوردة، وتقييد الاستثمار الصيني في تايوان. تهدف هذه القيود إلى تقليل قدرة تايوان على تحقيق التجارة الحرة والاعتماد الاقتصادي.
- الردع العسكري. من خلال الإستمرار في إرسال الرسائل السياسية القوية إلى جانب بتنفيذ تدريبات عسكرية قرب تايوان وإجراء مناورات بحرية تهدف إلى توجيه رسالة تهديد محتمل لتايوان.
- العزل الدولي: تسعى الصين للتأثير على المنظمات الدولية وإبقاء تايوان خارجها أو تقليل مشاركتها فيها. تمنع الصين تايوان من الانضمام إلى المنظمات التي تتطلب الانتماء الحكومي، وتستخدم نفوذها السياسي لتحقيق هذا الهدف.
الخلاصة
استحوذت الإنتخابات في تايوان على إهتمام عالمي مبالغ فيه، وغلب على معظم التحليلات طابع التهويل والتخويف بقرب الحرب بين الصين وتايوان، على الرغم من حقيقة أن المعادلة السياسية الداخلية في تايوان لم تتغيير بهذا المستوى بل على العكس لن تُمكن نتائج الإنتخابات الحزب الديمقراطي التقدمي من الإنفراد بالقرار السياسي الاستراتيجي بل سيكون مضطراً للرضوخ لشركاءه في الإئتلاف وهو ما سيحقق التوازن ويضمن عدم التوجه بسياسات متطرفة ضد الصين. كما أن معادلات التفاهم الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة لم تتغيير حول تايوان.
مع ذلك وعلى المستوى العملي تتبع الولايات المتحدة سياسة جديدة تفرغ سياسة الصين الواحدة من مضمونها وهي سياسة الغموض الاستراتيجي التي يبدو فيها حالة من الغموض وعدم الوضوح احياناً التعارض في السياسة الأمريكية تجاه الصين ومسألة مضيق تايوان لذلك لا نستبعد وفق هذه السياسة أن تستغل الولايات المتحدة نتائج هذه الإنتخابات من أجل تقوية الاتجاهات الإستقلالية لتايوان وتشجيعها على المضي قدماً في هذه الخطوة على المدى المنظور . وكأنه تكرار لسيناريو اوكرانيا مع روسيا، وربما لم تنضج الظروف الدولية لتحقيق هذا السيناريو بعد، وانتظاراً للحظة التحدي المتوقعة والتي قد تأتي أيضاً من الجانب الصيني خصوصاً مع قيام شي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني بتشديد سياستهما تجاه تايوان وتصعيد الجهود لإجبارها على إعادة التوحيد، ما يجعل استمرار وثبات الوضع الراهن محل اختبار بشكل مستمر.