إعداد: أريج جمال
باحثة في العلاقات الدولية
يُعتبر ملف الهجرة غير الشرعية، ضمن أكثر الملفات تعقيدًا بالنسبة للحكومات الأوروبية عمومًا، والحكومة الإيطالية على وجه التحديد، بعدما شهدت ارتفاعًا غير مسبوق في أعداد المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلي سواحلها، مما دفع الحكومة الإيطالية الجديدة برئاسة “جورجيا ميلوني” لاتخاذ مواقف متشددة للحد من تداعيات تلك الأزمة، وذلك عبر وضع سياسات جديدة بالتعاون مع دول الإتحاد الأوروبي المتضررة جرّاء توافد المهاجرين غير الشرعيين، بعدما وصلت أعدادهم عبر البحر المتوسط قبالة السواحل الأوروبية إلي 36 ألف مهاجر منذ مطلع هذا العام -حتي الثلاث شهور الأولي -، والتي كان لإيطاليا النصيب الأكبر من هذا العدد.
بناءًا على ذلك؛ يتناول هذا التحليل عدد من المحاور المتعلقة بأزمة الهجرة غير الشرعية؛ من حيث استعراض أسبابها، وتأثيرها على الداخل الإيطالي، بجانب بحث سبل التعاون الأوروبي لمواجهة تداعياتها المختلفة.
أولاـ مُحفزات الهجرة إلى إيطاليا
تعتبر إيطاليا أبرز الوجهات التي يقصدها المهاجرون، لاسيما الوافدين من الدول الأفريقية، حيث أظهرت البيانات أن غالبية المهاجرين جاءوا من دول تشهد توترات أمنية، وأوضاع معيشية غاية في الخطورة، كمالي والسودان والكونغو الديمقراطية ونيجيريا وساحل العاج وليبيا[1]، وتتعدد الأسباب التي تدفع المواطنين إلى سلك هذ الطريق، ويمكن استعراضها على هذا النحو:
1ـ العوامل الطاردة
- تدهور الأوضاع الاقتصادية: تشكل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وتدني مستويات المعيشة، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر المدقع، ناهيك عن ندرة فرص العمل، والأجور المنخفضة التي لا تتناسب مع احتياجات المواطنين، ضمن الأسباب الرئيسية الطاردة للأشخاص، بحثًا عن أوضاع معيشية آدمية، وهو ما يدفعهم لسلك كافة السبل، حتى لو كانت محفوفة بالمخاطر، كي يصلوا لهدفهم.
- عدم الاستقرار السياسي: تعتبر الدول التي تعاني أوضاع سياسية وأمنية هشة أكثر الدول المصدرة للمهاجرين، فعل سبيل المثال نجد دول أفريقيا جنوب الصحراء، باعتبارها أكثر مناطق العالم التي تواجه موجة من النزاعات والصراعات، ناهيك عن الانقسامات الداخلية الناجمة عن فشل الأنظمة الحاكمة في ضبط وإدارة التعددية العرقية، كل ما سبق كان له دور في تحول إقليم جنوب الصحراء إلى مصدر رئيسي للمهاجرين[2]، فخلال مارس الماضي أعلنت السلطات التونسية احباطها قرابة 501 عملية هروب غير شرعي، وتمكنوا من ضبط 14406 مهاجر عبر سواحلها كانوا في محاولة للوصول إلى السواحل الأوروبية، كما تمكنت السلطات من إلقاء القبض على 63 شخص تورطوا في التوسط في عمليات هجرة غير شرعية.
- العوامل الديموغرافية: أفادت إحصائيات أممية بأنه من المتوقع أن ترتفع نسبة الجنوب من سكان العالم إلى 84% بحلول عام 2025، مما يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، ودفع السكان الأصليين للهجرة[3]. من جهة أخرى تشكل الانقسامات المجتمعية نتيجة تعدد العرقيات المكونة للمجتمع، بجانب فشل الحكومة المركزية في ضبط هذا التنوع، كل ما سبق من شأنه أنه يؤدي لحالة من التهميش سواء سياسيًا أو اقتصاديًا او اجتماعيًا، الأمر الذي يعزز من دفع المواطنين للابتعاد عن بلدانهم وسلك الهجرة غير الشرعية كسبيل لذلك.
- تغير المناخ: يُساهم تغير المناخ بدور كبير في تعزيز الهجرة، حيث تؤدي الكوارث الطبيعية كالفيضانات والعواصف والجفاف، وما يترتب عليها من آثار؛ كارتفاع درجات الحرارة، وندرة الطعام، وانتشار الأمراض والاوبئة، إلي زيادة عدد المشردين والنازحين، الذين لايجدون امامهم سوي الهجرة بطريقة غير شرعية لدول أوروبا، والتي تعتبر الأمل الباقي لهم في حياة أدمية نسبًيا.
2ـ العوامل الجاذبة
وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “لوموند الفرنسية”، تعتبر إيطاليا دولة المواجهة الأولي مع الهجرة غير الشرعية، حيث تستقبل كل عام ما يقارب من 56% من أعداد المهاجرين العابرين من البحر المتوسط، ويرجع ذلك لعدة عوامل جاذبة، يأتي على رأسها تمكنها من توفير فرص عمل بأجور مرتفعة، مقارنة بما يحصل عليه المهاجر في بلده الأصلي، كما تقدم خدمات صحية واجتماعية للمهاجرين إليها، بالإضافة إلي توفير سُبل الإعاشة للناجين من الغرق، عن طريق احتجازهم في مراكز مجهزة، حتي يتمكنوا من العودة إلي دولهم، وتعد إيطاليا من الدول الأوروبية ذات التكلفة المنخفضة في المعيشة، مما يجعلها الوجهة الأولى لغالبية المهاجرين.
علاوة على ذلك؛ فإنها تولي اهتمامًا بالغًا بالقاصرين من المهاجرين، عن طريق إيداعهم في جمعيات للإيواء، في نفس الوقت الذي تحاول فيه التواصل مع أسرهم لتسليمهم وإعادتهم، وهو ما أكدته المسئولة المختصة بشئون الهجرة الإيطالية في تصريح صحفي لها: “بأن القاصرين يحظون برعاية خاصة بموجب القانون”.
وتعطي إيطاليا مميزات عديدة للمهاجرين في حالة تقديمهم لطلب اللجوء، حيث يتمكن المهاجر من الحصول على الإقامة الدائمة حال مرور خمس أعوام من وجوده فيها، كما تساعد المهاجرين أو طالبي اللجوء من الاندماج في المجتمع، عبر إطلاق مبادرات تعلم اللغة الإيطالية، ليتمكنوا من التواصل مع المواطنين المحليين بسهولة.
المصدر: موقع CNN
ثانياـ تداعيات تدفق المهاجرين غير الشرعيين
اسفرت الموجات المتتالية للمهاجرين غير الشرعيين إلى إيطاليا، عن تداعيات بالغة الخطورة على الأوضاع الداخلية للبلاد، فوفقا لتصريحات صادرة عن وزير الحماية البحرية والمدنية “نيلو موسوميسي”، فقد شهدت أعداد المهاجرين إلى إيطاليا ارتفاعا حادا هذا العام، مقارنة بنفس الفترة من العام السابق، بزيادة تقدر بنسبة 300%، وفي هذا الصدد، يمكن استيضاح أبرز تداعيات تلك الظاهرة على النحو التالي:
- على المستوى الاقتصادي: رغم ترحيب حكومة “جورجيا ميلوني” في مناسبات عدة بالمهاجريين القانونيين، حيث توفر إيطاليا عشرات الآلاف من تأشيرات العمل للمهاجريين سنويا للمساعدة في تنمية قطاعها الاقتصادي خاصةً الزراعة، إلا أن التزايد الكبير في أعداد المهاجرين، انعكس بشكل واضح على موارد الدولة ومؤشرات تنامى اقتصادها، من حيث ارتفاع معدلات البطالة، والضغط علي المالية العامة، نتيجة التكاليف التي تخصصها الدولة لتأمين احتياجات اللاجئين والمهاجرين، فيما يتعلق بتجهيز مراكز لإيوائهم، وترحيلهم علي نفقتها، كما أنها توفر لهم مساعدات في هيئة مبالغ مالية شهرية، بالإضافة للتكاليف التي تتحملها إيطاليا لعمليات الإغاثة البحرية والمساعدات الصحية التي تقدمها للناجين من الغرق. وفيما يخص سوق العمل، فإن المهاجرين يقدمون مهارات إنتاجية مختلفة، تكمل مهارات السكان الأصليين، وتؤدي إلى رفع الانتاج على المدي البعيد، ولكن في ذات الوقت، يصبح هناك حالة من التنافس بين العمال الأصليين والمهاجرين وفقًا لنظرية العرض والطلب، الأمر الذي يؤدى لمواجهات تسفر في أحيان عدة عن إصابات، ما من شأنه تهديد الأمن العام.
- على المستوى السياسي: أدت أزمة الهجرة إلى حالة من الانقسام النخبوي داخل إيطاليا، حيث تعددت التيارات التي تبنت مواقف مختلفة إزاء هذا الملف، ما بين تيار يدعو للحد من أزمة الهجرة، ومحاولة السيطرة على الحدود البحرية للبلاد بالتنسيق مع الدول الأخرى، واقتصار الدعم الإيطالي للمهاجرين على مجرد تقديم المساعدات الإنسانية، فيما دعت تيارات أخرى إلى ضرورة إدماج المهاجرين في المجتمع الجديد، والدعوة إلى مبادرات داخلية لتقاسم الأعباء، والنظر إلى تلك المسألة من منظور إنساني، من جهة أخرى أدت أزمة الهجرة غير الشرعية إلى مشكلات بين إيطاليا وعدد من الدول الأوروبية، كما حدث مؤخرًا مع ألمانيا وفرنسا، بعد رفضهما استقبال عدد من المهاجرين غير الشرعيين، تخفيفا للأعباء على الداخل الإيطالي، واكتفوا بتقديم الدعم المادي فقط، الأمر الذي أثار غضب ميلوني معلنة أن بلدها لم تعد قادرة على استيعاب هذه الأعداد من المهاجرين، داعية الدول الأوروبية إلى ضبط مراقبة الحدود.
- على المستوى الاجتماعي: أدى تنامي أعداد المهاجرين بشكل متزايد إلى انتشار المناطق العشوائية، ذات الخدمات المتدنية، نتيجة تكدس المهاجرين واللاجئين، كما تباين تأثير الأزمة علي داخل المجتمع الإيطالي، حيث أنقسم المجتمع إلي تيارين؛ أحدهما أبدى استعدادًا جيدًا للمساعدة في حل الازمة، في حين أبدى التيار الأخر العداء والرفض للمهاجرين، وربط المهاجرين دائمًا بالجرائم والإرهاب المهدد لاستقرار السكان الأصليين، الأمر الذي أدى لحالة من الانقسام السياسي، التي كان لها دور في إفشال سياسات مواجهة وحل الظاهرة على مدار السنوات الماضية. في المقابل ظهر تيار معاكس تناول ظاهرة الهجرة باعتبارها ضمن الأمور الإيجابية التي ينبغي على الدول الأوروبية استغلالها، حيث يرى التيار أن توالي موجات الهجرة من شأنه تحسين الوضع الديموغرافي، شريطة التمكن من إحداث دمج للمهاجرين الجدد داخل المجتمع الإيطالي، وتنظيم فكرة التدفق العشوائي لهم.
وقد نصح مفوض حقوق الانسان في مجلس أوروبا “نيلز مويزنيكس” بعدم استخدام مصطلح المهاجريين غير الشرعيين، لأن إلحاق كلمة المهاجرين بكلمة غير الشرعيين يعطي إنطباعًا لسكان إيطاليا الأصليين بأن هؤلاء المهاجرين يمثلون تهديدًا للمجتمع، في حين أنهم ضحايا لظروف اقتصادية، واجتماعية غير عادلة، او لدول غير مستقرة سياسيًا، مما دفع معظم المنظمات الدولية المعنية بشئون اللاجئين لاستخدام مصطلح “المهاجرين غير النظاميين” الذي من شأنه الاسهام في تخفيف حدة الصورة الذهنية للمهاجرين.
ثالثاـ إجراءات معالجة الأزمة
تعتبر الحكومة الإيطالية الحالية برئاسة “جورجيا ميلوني” أكثر الحكومات صرامة، فيما يتعلق بسياستها إزاء ملف الهجرة، فخلال حملتها الانتخابية اقترحت فرض حصار بحري على الهجرة عبر البحر المتوسط، ودعت إلى وقف تدفق الهجرة عبر البحر تمامًا، كما شددت على أن هناك مهمة أوروبية مشتركة مع دول شمال أفريقيا، للعمل على وقف إتجار البشر، وإنشاء نقاط تتم إدارتها من الجانبين، وخلال الأشهر الماضية اتخذت حكومة ميلوني عدة اجراءات لمعالجة أزمة المهاجرين، يمكن استيضاحها كالتالي:
- قانون كواترو: اقترحت الحكومة الإيطالية برئاسة ميلوني في ظل الزيادة المضطردة في اعداد المهاجرين، مجموعة من القوانين والتشريعات الجديدة التي عرفت بإسم “مرسوم كوترو”، نسبةً إلي اسم بلدة بالقرب من موقع فقد فيه 94 مهاجر حياتهم –غرقًا- في فبراير 2022، حيث ينص القانون علي إلغاء الحماية الخاصة الكلية، والتي تٌمنح عادةً لطالبي اللجوء في إيطاليا، فيما إنقسمت المعارضة والأحزاب بسبب هذا المرسوم، حيث وصل عدد مقترحات التعديل إلي 300 مقترح، مما أدي إلي تجميد هذا القانون، ولكن في النهاية، تم تمريره لما يتمتع به الحزب الحاكم من أغلبية في البرلمان.
- مؤتمر روما: علي غرار الاتفاق الموٌقع بين الاتحاد الأوروبي وتونس -والمنعقد باسبوع سابق علي هذا المؤتمر- الذي يهدف للحد من تدفق المهاجرين، استقبلت ميلوني -يوم 23 من يوليو لعام 2023- قادة دول البحر المتوسط في اجتماع استمر ليوم واحد، حيث ناقشوا فيه الاسباب التي تدفع المهاجرين للخروج من بلدهم، كما أكدت علي وجوب التعاون بين ايطاليا والدول الافريقية لتنمية الأخيرة وتحسين ظروفهم المعيشية، وحددت ميلوني خلال المؤتمر أولوياتها، وهي محاربة الهجرة الغير شرعية، وإدارة تدفق المهاجريين غير النظاميين، ودعم اللاجئين، وضرورة التعاون بين دول حوض البحر المتوسط لإدارة تدفق المهاجرين.
- مراكز الاحتجاز: وعدت ميلوني بتشديد اتخاذ الاجراءات القانونية، للحد من تزايد أعداد المهاجرين، ومد فترة احتجازهم إلي 18 شهرًا، حيث يُرسل المهاجرين فور وصولهم لسواحل إيطاليا إلي مراكز حكومية، واقعة بالقرب من مناطق الإنزال، حيث تُقدم لهم الرعاية الصحية، حتي يتم النظر في طلبات لجوءهم، كما خصصت الحكومة بتكليف من ميلوني مبلغ 42 مليون يورو لإنشاء مراكز احتجاز جديدة .
- فرض حالة الطوارئ والحصار البحري: في إطار مواجهة أزمة الهجرة غير الشرعية، أعلنت الحكومة الإيطالية في بيان صدرعن رئيسة الوزراء “ميلوني” في الثاني عشر من أبريل من هذا العام، فرض حالة الطوارئ ولمدة ست أشهر، ويأتي ذلك في اطار مواجهة أزمة الهجرة، وتزايد أعداد المهاجرين بطريقة غير مسبوقة، مما أدي إلي اكتظاظ مراكز احتجاز المهاجرين، وخصصت لهذا القرار مبلغ 5 ملايين يورو للحالات الطارئة، التي قد تحدث تبعًا لهذا القرار، كما لوحت جورجيا ميلوني مرارًا بفرض حصار بحري، من خلال إتباع استراتيجية تمنع اقتراب السفن الحاملة للمهاجرين من سواحل إيطاليا، كما طالبت بإرسال مهمة بحرية لمنع سفن المهاجرين من الوصول لسواحلها، وهو ما يعتبر إعادة احياء لمهمة صوفيا البحرية، والتي نُفذت عام 2015، وأستمرت لخمس سنوات، كانت مهمتها الأساسيه ملاحقة عصابات الإتجار بالبشر، ووقف تدفق سفن المهاجرين من شمال إفريقيا.
- العمل المشترك بين إيطاليا ودول الاتحاد الأوروبي: قامت رئيسة المفوضية الاوروبية “اورسولا فون دير لاين” بزياره لجزيرة لامبيدوسا -والتي يقع عليها العبء الأكبر في استقبال المهاجرين- حيث دعت خلال زيارتها إلي ضرورة التضامن الأوروبي ومساندة إيطاليا في مواجهتها لأزمة المهاجرين، كما دعت ميلوني الأمم المتحدة إلي ضرورة زيادة مشاركتها في مواجهة الزيادة الرهيبة في أعداد المهاجرين، محذرةً من أن النتائج المترتبة علي الأعداد الهائلة الوافدة إلي إيطاليا، والتي تفوق قدرة استيعابها لن تقف فقط عند حدود إيطاليا، بل ستمتد إلي كافة دول الاتحاد الأوروبي، وبدورها أعادت فتح مسألة توزيع طلبات اللجوء علي كافة دول الاتحاد الأوروبي، ودعت لتقاسم اعباء استقبال الوافدين.
استنادًا إلى ما سبق، يبدو أن ملف الهجرة غير الشرعية سيظل ضمن قائمة أولويات الحكومة الإيطالية، ورغم المجهودات التي بذلتها روما خلال الفترة الأخيرة لحسم مسألة الهجرة غير القانونية، إلا أن تلك الإجراءات لم تؤت ثمارها حتى الآن، وهو ما يرجع لضعف الشراكة بين الدول الأوروبية فيما يتعلق بهذا الملف، الأمر الذي يضغط على إيطاليا نتيجة تصدرها المشهد بحكم الموقع الجغرافي لها، لذا ففي ظل تدهور الوضع الإنساني لهؤلاء اللاجئين، أصبح هناك حاجة ملحة لتعاون وتضافر مجهودات المجتمع الدولي لمواجهة تداعيات تلك المسألة.