إعداد \ د. حسام يونس
باحث فلسطيني
تقديــــــــم:
بينما تخطف حرب غزة أنظار وإهتمام العالم منذ إنطلاقها وحتى اليوم بكل تبعاتها السياسية والإنسانية والعسكرية، فإن ما يجري بالضفة الغربية لا يقل خطورة – من الناحية الجيوسياسية- عن ما يجري في قطاع غزة، فأوضاع القتال والمواجهات الجارية هناك منذ فترة بين القوات الإسرائيلية وعصابات المستوطنين مع سكان الضفة، وما يمارس ضد فلسطيني الضفة من عمليات قتل وهدم للمنازل وتجريف للأراضي الزراعية وتهجير قسري، يجعل معانأة السكان لا تقل بشاعة عما يجري في غزة، وقد تكون تلك التطورات ليست تحت دائرة الأضواء أو لم يسلط الإعلام الإسرائيلي والدولي الإهتمام عليها بشكل يتناسب مع خطورتها، وقد يكون ذلك متعمداً، لتعمية الحقائق وسرق الإحداث وتشتيت الإنتباه عما يجري من تغيرات حقيقية على الأرض في الضفة الغربية التي تشكل جغرافيتها عدة أضعاف مساحة قطاع غزة ويشكل سكانها ما يقرب من ضعف سكان القطاع أيضاً، وبالتالي الضفة الغربية هي مركز الثقل الفلسطيني الحقيقي مساحة وسكاناً.
لقد طرح مفهوم اليوم التالي في غزة ليعبر عن تصور الأطراف المعنية بما فيها الجانب الإسرائيلي لمرحلة ما بعد الحرب وما ستتضمنه من ترتيبات سياسية وأمنية جديدة، بينما لم يتطرق كثيرون للتصور الخاص باليوم التالي في الضفة الغربية، بمعنى ماذا بعد وقف الحرب والمواجهات الحالية والأهداف المرتبطة بها، وكيف سيكون الحال بالنسبة للضفة الغربية ذات الأهمية الاستراتيجية والتاريخية المعروفة وبتعقيداتها البشرية والجغرافية والدينية كذلك، لذلك اهتم مركز السلام للدراسات الاستراتيجية بالتعرف على ملامح اليوم التالي في الضفة الغربية من وجهة النظر الإسرائيلية بالأساس، وذلك من خلال هذه الورقة التحليلية التي ستسلط الضوء على أبعاد ما يجري في الضفة الغربية وأهدافهمن واقع استقراء الأهداف الإسرائيلية والآليات المستخدمة في التخطيط الاستراتيجي للإسرائيلي للمخيمات الفلسطينية للضفة الغربية في ضوء العملية العسكرية الإسرائيلية السور الحديدي – وفق تسمية الاحتلال الإسرائيلي- لإعادة هندسة وتشكيل مخيمات اللاجئين في محافظات شمال الضفة الغربية، ونقل نموذج غزة في الهدم والتدمير إلى تلك المخيمات في الضفة الغربية، مع تحليل التداعيات المحتملة على الأمن الإقليمي ومستقبل القضية الفلسطينية.
الرؤية الإسرائيلية لما يجري بالضفة الغربية وقطاع غزة:
وضعت الحكومة الإسرائيلية الحالية في أجندتها إمكانية تحقيق ما عجزت الحكومات السابقة عن تحقيقه، وهو مشروع ضم الضفة الغربية وتغيير واقعها الجيوسياسي، وقد جاء هذا المشروع نتيجة لتزايد تأثير القوى السياسية اليمينية المتطرفة داخل الحكومة وهو ما انعكس بشكل ملحوظ على استراتيجيات الحكومة الإسرائيلية التي شهدت تحولات جذرية في التعامل مع القضية الفلسطينية. فالحكومة الإسرائيلية الحالية، التي يقودها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تضم في تركيبتها السياسية عناصر من التيارات اليمينية المتطرفة التي تتبنى رؤى قومية ودينية متطرفة، تسعى إلى تعزيز الأمن الإسرائيلي على حساب الحقوق الفلسطينية، بل في إبادة الشعب الفلسطيني، وطرح خطط واستراتيجيات للهجرة لمن بقي حياً، وتدمير كافة مقومات الحياة في قطاع غزة والضفة الغربية.
أحد أبرز مظاهر هذه السياسات هو التخطيط الاستراتيجي للحكومة الإسرائيلية في مواجهة التحديات الأمنية التي تتمثل في محاولة التخلص من الوجود الفلسطيني، عبر تهجير الشعب الفلسطيني أو بالإبقاء على عدد محدود منه، وتحقيق هدف استراتيجي يتمثل في تثبيت السيطرة العسكرية والأمنية على الأراضي الفلسطينية، تمهيداً لضمها، وهذا ما أعلن عنه صراحة مسئولي الحكومة الحالية، خاصة في المناطق التي تشهد تزايدًا في النشاطات المقاومة ضد الاحتلال، والعمليات العسكرية الأخيرة في مخيمات جنين ونابلس وطولكرم تعد نماذج واضحة لهذه الاستراتيجية.
من جهة أخرى، شكلت الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م جزءًا من سلسلة من العمليات العسكرية التي تهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية، هذه الحرب لا تقتصر على الجانب العسكري، بل تترافق مع مساعي لتغيير الواقع السياسي والجغرافي في المنطقة، حيث تسعى إسرائيل إلى فرض معادلات جديدة قد تمنع أي تقدم سياسي نحو تسوية سلمية مع الفلسطينيين، في ضوء العدوان على لبنان واليمن وإيران، في ظل الحديث الإسرائيلي المتكرر عن فرصة تاريخية غير مسبوقة لتغيير الميزان الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
إن التخطيط الاستراتيجي الذي تتبعه الحكومة الإسرائيلية في سياق العمليات العسكرية في الضفة الغربية وغزة يعكس استراتيجية طويلة المدى تسعى إلى استكمال مشروع الاحتلال وتحقيق السيطرة الدائمة على الأراضي الفلسطينية. في هذا الإطار، تزداد سياسة الاستيطان في الضفة الغربية، وتستمر عمليات التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية بشكل تدريجي، ما يساهم في تغيير الواقع الديموجرافي والجغرافي في المنطقة لصالح إسرائيل.
السياق العام للعملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية
صنف الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية بأنها تُعتبر منذ اندلاع الحرب على غزة “نقطة قتال” وليست “جبهة حربية” بالمعنى التقليدي، أي تعني تصعيدًا وتكثيفًا للعمليات العسكرية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. وذلك بسبب قلق الاحتلال الإسرائيلي من تحول الضفة إلى ساحة حرب على غرار قطاع غزة، وذلك في أعقاب إعلان فصائل المقاومة الفلسطينية عن عودة العمليات التفجيرية داخل العمق الإسرائيلي، بعد غياب لأكثر من 20 عاماً، منذ الانتفاضة الثانية().
فبعد مرور أكثر من عام على بدء جيش الاحتلال الإسرائيلي لعملياته العسكرية الهجومية شمالي الضفة الغربية مستهدفا مخيماتها بالدرجة الأولى باسم المخيمات الصيفية في 28 أغسطس 2024م، أعلن مرة أخرى عن عملية عسكرية أخرى باسم السور الحديدي والتي بدأت بعد 48 ساعة فقط من سريان وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في 19 يناير 2025م، شارك في عملية السور الحديدي أكثر من 12 كتيبة عسكرية، وجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، وشرطة الحدود في واحدة من أكبر العمليات العسكرية وأكثرها اتساعاً في الضفة الغربية منذ عملية السور الواقي في عام 2002م.
وتختلف الهجمات الإسرائيلية عن العمليات العسكرية ففي تلك العمليات، نفذت إسرائيل تدميراً جزئياً للمخيمات، في حين يبدو اليوم أنها تهدف إلى تدميرها بحيث تصبح غير صالحة للسكن.
تكتيكياً، ارتبط توقيت عملية السور الحديدي بوقف إطلاق النار في غزة، إذ أن الإعلان عن هذه الإجراءات جاء عشية اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو ما يمكن تفسيره تكتيكيا على أنه جزءا من الثمن الذي أبقى وزير المالية سموتريتش في الحكومة للمحافظة على الائتلاف الحكومي اليميني ، خاصة وأن اليمين الإسرائيلي يبني سياساته في الحكومة على ضم الضفة الغربية والقيام بكل ما شأنه ضم الضفة الغربية من خلال محاولات القضاء على صمود الشعب الفلسطيني في الضفة()، كما أن الإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية تتسق مع قدوم ترامب” إلى البيت الأبيض، الذي قام بتعيين لكبار المسؤولين في البيت الأبيض بما يعرف عنهم بانحيازهم الكبير لإسرائيل، وتعيين مايك هاكابي سفيراً للولايات المتحدة الذي يعرف بأنه يميني متشدد، لا يؤمن بالوجود الفلسطيني كشريك في المنطقة.
ويمكن القول أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية تأتي في إطار عدد من السياقات والظروف وأهمها ما يلي:
- مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضغوطًا شديدةً من حلفائه من اليمين المتطرف بعد موافقته على الهدنة وتبادل الأسرى مع حركة حماس، فقد اعتبر هؤلاء الحلفاء أن هذه الخطوة تمثل تراجعًا في السياسة الأمنية لإسرائيل، مؤكدين أنها قد تعزز من تراكم قوة حماس، وتزيد من قدرتها على شن هجمات مستقبلية. وستهدد مصالح إسرائيل الإستراتيجية. وبذلك، تعكس هذه الضغوط الداخلية التحديات السياسية التي يوجهها نتنياهو في إدارة الصراع.
- إلغاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العقوبات التي فرضها جو بايدن على المستوطنين الإسرائيليين المتورطين بجرائم ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، بالتزامن مع وقف إطلاق النار، الذي استمر لمدة ستة أسابيع قبل أن ينهار مؤخراً بعودة إسرائيل للحرب وعدم الدخول ف يالمرحلىة الثانية المقررة له، الأمر الذي يطرح احتمال قوي أن العملية العسكرية في الضفة الغربية هي صفقة مع دونالد ترامب بعد ضغوطه لإنهاء الحرب على قطاع غزة.
- استمرار عمليات المقاومة الفلسطينية ضد المستوطنات والمستوطنين وفي الوقت نفسه، اعترفت إسرائيل إن التهديدات من الضفة الغربية ضد مستوطنيها في تزايد. بل ادعت إسرائيل أن قبل نحو عام، حاول مقاومين من مخيمي نور الشمس، وطولكرم إطلاق صواريخ على وسط إسرائيل، وخططوا لهجمات مماثلة للهجوم الذي قادته حماس في 7 أكتوبر 2023م، من غزة، مما أدى إلى تأجيج دعوات من قادة المستوطنين إلى شن حملة صارمة في المنطقة، خصوصاً وأن المستوطنين متقاربين سياسياً وفكرياً وأيديولوجياً مع الحكومة اليمينية الحالية. بل إن قادة المستوطنين في الضفة الغربية يتحدثون بأن الهجوم العسكري على مخيمات الضفة الغربية باعتبارها نتيجة متأخرة لجهود الضغط التي بذلوها. ووفقاً لإسرائيل جانز، الذي يرأس مجلس يشع- وهي منظمة مظلة للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية- إنه كان يضغط على نتنياهو وسموتريتش لأكثر من عام، لتطبيق نفس التكتيكات التي استخدمها جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة على الضفة الغربية، لاستئصال ما وصفه “بالبنية التحتية الإرهابية المزدهرة الممولة من إيران”().
- ادعاء الاحتلال أن الحرب في الضفة الغربية هي جزء من مواجهة إيران و”الإسلام السني المتطرف” على حد زعم وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس الذي وصف العملية العسكرية بأنها جزء من صراع إسرائيل الأكبر ضد إيران وحلفائها المتشددين في جميع أنحاء المنطقة، قائلاً “سنضرب أذرع الأخطبوط حتى تنكسر”().
- أجندة الحكومة الإسرائيلية الحالية فقد وضعت ضمن أهم أهدافها ضم الضفة الغربية عبر توسيع المستوطنات وتعزيز الوجود العسكري في الضفة، وتهجير سكانها، وتغيير التركيبة الديموغرافية للضفة الغربية، فقد دعا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى توسيع نطاق عمليات جيش الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة والانتقال من مرحلة “الدفاع إلى الهجوم”()، وأصدر تعليمات للتحضير لبسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، موضحا أنه يأمل تطبيق هذه الخطة خلال العام الحالي((.
الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية
على الرغم من إعلان الاحتلال الإسرائيلي أن عمليته العسكرية في الضفة الغربية قد تستمر لأسابيع وأنه لن ينسحب بسرعة من بعض المناطق، إلا أنه لم يحدد هدفًا واضحًا ومحددًا لهذه العملية، حيث أن القرار النهائي بيد المستوى السياسي، كما أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية(). ويتضح كذلك أن هناك عدة أهداف استراتيجية ترمي إسرائيل لتحقيقها وأبرزها ما يلي:
- حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني بدلاً عن إدارة الصراع والتعايش معه، باعتبار أن الفترة الحالية هي فترة تاريخية لإسرائيل لفرض سياستها وخططها في ظل تواطؤ المجتمع الدولي وصمته اللاإنساني تجاه حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فما يحدث في الضفة الغربية ليس مفصولاً عما لا يزال يحدث في قطاع غزة”، بل كان أيضاً تبريراً للمقاومة الفلسطينية لهجوم السابع من أكتوبر 2023م، كما أن الضفة الغربية هي ساحة الصراع حيث يرغب الاحتلال إلى أن تحاكي الضفة الغربية المشهد الدامي الذي يشهده قطاع غزة.
- التغيير في مفهوم الأمن الذي يتبناه الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية والمتمثل في ضمان عدم تكرار هجمات المقاومين الفلسطينيين ضد المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة الغربية في أعقاب انتهاء العملية العسكرية، كما هو متبع بحسب المداهمات المتكررة في قطاع غزة، كما تهدف إسرائيل إلى تعزيز وجود قواتها في المنطقة لضمان استمرار السيطرة على الأراضي واحتواء أي تحركات مقاومة قد تهدد الاستقرار الأمني في المستوطنات.
- القضاء على المقاومة الفلسطينية واجتثاثها بكافة صورها، من جهةٍ أخرى، تسعى إسرائيل إلى تجنب إشعال الوضع في الضفة الغربية كي لا تتحول إلى جبهة جديدة في المواجهة. ومن ثم تهدف إلى القضاء على المقاومة هناك مهما كان الثمن، لضمان عدم تحولها إلى تهديد أمني مستمر، وعدم بقائها كورقة ضغط ومساومة من جانب الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، في الوقت نفسه، تسعى لتثبيت الأمن في المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة، مع الحفاظ على سيطرتها العسكرية في المنطقة، بهدف تقليل أي احتمالات تصعيد قد تؤثر على بقاء الاحتلال واستمراره في المستقبل.
- القضاء على رمزية وهوية المخيمات الفلسطينية بما تحويه من ذاكرة تجسد معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فقد حافظ المخيم على اسمه في الوعي الجمعي للفلسطينيين، كنوع من الرغبة اللاواعية بأن يكون مكانًا طارئًا للإقامة المؤقتة رغبة منهم في العودة مرة أخرى إلى مدنهم وقراهم التي أجبروا على الخروج منها، وتمكن المخيم الفلسطيني كرمز للعودة، وأداة للمقاومة أيضًا، من إعادة إنتاج الوحدة المعنوية إلى الشعب الفلسطيني، بل إن وجوده يؤكد على أن قاطنيه بأنهم مهجرين، لم يتركوا أماكنهم بمحض إرادتهم، وتضمن صفة لاجئ للفلسطيني حق المطالبة بالعودة.
ملامح السياسة العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية
تطبق إسرائيل في شمال الضفة الغربية مبادئ أساليب وتكتيكات عسكرية استمدتها من عدوانها المستمر على غزة، وفق سياسة عسكرية يمكن الوقوف على أبرز ملامحها فيما يلي:
- الغارات الجوية العشوائية. من خلال تصعّيد الغارات الجوية على المناطق المكتظة بالسكان، وتبنى قواعد اشتباك متساهلة إلى حد كبير، مما يؤدي غالبًا إلى وقوع خسائر مدنية عشوائية وغير متناسبة. كما تعمد إلى تهجير السكان من المناطق التي أعلنها الجيش مناطق قتال. تعكس هذه الإجراءات ما يمكن وصفه بـ”عملية غزة” في الضفة الغربية، والتي باتت واضحة في شمالها، وسط توقعات، استنادًا إلى تصريحات مسؤولين إسرائيليين، بامتدادها إلى مناطق أخرى، وقد تم نشر أكثر من 30 كتيبة من جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية.
- اجتياحات وتدمير للبنية التحتية . من خلال قيام الجرافات بتمزيق الطرق. ونصب بوابات لخنق الوصول إلى المدن. كما يتم قطع إمدادات المياه والكهرباء في مخيمي جنين وطولكرم للاجئين، مما يجبر السكان على المغادرة، كذلك تفجير بعض المنازل لإفساح المجال لطرق أوسع وهدم منازل أخرى دون سبب واضح (). كما تعمد القوات الإسرائيلية لتدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والاتصالات، بل وسوّت حيًا سكنيًا بأكمله بالأرض من خلال تفجيرات مُتحكّم فيها في مخيم جنين. فحسب بعض الإحصائيات الفلسطينية فقد دمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي نحو 480 منزلاً بالكامل، حيث يضم مخيم جنين يضم نحو 3300 منزل، منها 480 منزلاً دمر بالكامل بالحرق أو الهدم أو التفجير أو التجريف. وتعرضت معظم المنازل الأخرى لأضرار جزئية. بالإضافة إلى ذلك، حولت قوات الاحتلال عدة منازل إلى مواقع عسكرية. ومع استمرار التصعيد، اضطر نحو 18 ألف فلسطيني إلى الفرار من المخيم، في مواجهة أزمة إنسانية متفاقمة().
- تغيير خصائص المخيمات شمال الضفة. إن عمليات الهدم واسعة النطاق هذه تشكل نمطًا جديدًا مثيرًا للقلق. ولها تأثير غير مسبوق على اللاجئين الفلسطينيين وتسعى إلى تغيير خصائص المخيمات في شمال الضفة الغربية بشكل دائم، فما يجري هو عبارة عن نسخة مصغرة من غزة. حملة متعمدة للتدمير، وجعل الحياة غير صالحة للعيش، وإرسال رسالة إلى جميع سكان المخيم والمدينة بمغادرة أماكنهم والبحث عن مكان آخر، فضلاً عن معاناة النازحين أصلًا من نقص في الإمدادات الحيوية، كالماء والكهرباء. وفي حديث وزير الدفاع يسرائيل خلال مؤتمر “فيدرالية الصهيونية” في تل أبيب يوم 7 مارس 2025م، صرح كاتس -وفقا لصحيفة “إسرائيل اليوم”- أنه وجه القوات الإسرائيلية بالحفاظ على السيطرة على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية حتى نهاية عام 2025 على الأقل. كما اعترف بالتهجير القسري لـ 40 ألف فلسطيني من مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم ونور شمس، وسط الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر( ).
- إطلاق نيران بدون قيود منذ بدء الهجوم، قُتل واستشهد أعداد كبيرة من الفلسطينيين المدنيين، بالإضافة إلى إصابة واعتقال العشرات، وتهجير أكثر من 9 آلاف مواطن من مخيم نور شمس، و12 ألفاً من مخيم طولكرم(). فقد طلب الجيش الإسرائيلي من جنوده اليد الخفيفة على الزناد، ويتمركز قناصة إسرائيليون على أسطح المنازل في المخيم ومحيطه، كما منح جيش الاحتلال في الضفة الغربية حرية واسعة لإطلاق النار على أي شيء وأي شخص يُعتبر “مشتبهًا به”.
- تهجير اللاجئين من المخيمات . أجبر العنف الشديد والدمار الهائل السكان على مغادرة منازلهم، سواء خوفًا على سلامتهم أو بسبب الأضرار التي لحقت بالمنازل والبنية التحتية في المنطقة. في بعض الحالات، لم يتمكن السكان من العودة. ومع ذلك، قدمت إسرائيل هذه الأعمال على أنها أضرار جانبية()، في حين يدعي مسؤولون في جيش الاحتلال الإسرائيلي إنهم أجلوا المدنيين من أجل سلامتهم، وتم تدمير الطرق لمنع المسلحين من زرع العبوات الناسفة البدائية، إن أي قطع للمياه والكهرباء كان عرضيًا وبعد الأسبوع الخامس منذ بدء عملية السور الحديدي، امتدت العملية لتشمل ثلاث مخيمات أخرى للاجئين في شمال الضفة الغربية، مما أدى إلى نزوح 20 ألف شخص إضافي من مخيم طولكرم، ومخيم نور شمس، ومخيم الفارعة. ويزعم الجيش الإسرائيلي استهدافه لجماعات المقاومة المسلحة في هذه المناطق، لكنه لم يُقدّم سوى أدلة ضئيلة على إنجازاته في هذا الصدد(). وأدى ذلك إلى إفراغ أربع مخيمات للاجئين ــ جنين ونور شمس وطولكرم والفارعة – من سكانها، وأُجبر آلاف اللاجئين على الإخلاء بعد أن دمرت القوات الإسرائيلية مئات المباني وسوَّت الكثير من بنيتها التحتية بالأرض، كما يخشى السكان من انتقام إسرائيلي لإيوائهم النازحين جراء الهجوم. وقد قدمت لجنة خدمات مخيم طولكرم شققا سكنية بمساحات صغيرة للنازحين من المخيم في حي ذنابة، بعد استئجارها وتسكين النازحين فيها، وبحسب لجنة خدمات مخيم نور شمس فإن قرابة 11 ألفاً و325 مواطناً نزحوا من المخيم إلى 5 مراكز إيواء، يتوزعون بين قاعة وجمعيات ومدرسة وجمعية اتحاد نسائي، في كل من عنبتا وكفر اللبد وذنابة(). توزع النازحون من مخيم جنين،على عدة مراكز إيواء. استقبل مركزا جمعية الكفيف والمركز الكوري في المدينة نحو 4200 نازح، في حين لجأ قرابة 4700 شخص إلى بلدة برقين غرب جنين، كما توزعت أعداد أخرى من النازحين على قرى جنوب جنين، مثل قباطية وبير الباشا وعرابة وجبع().
- عزل مخيمات شمال الضفة عن باقي المناطق . فرض جيش الاحتلال قيودًا صارمة على الحركة في جنين، وكذلك في جميع أنحاء الضفة الغربية، وتتميز هذه القيود بإغلاق الطرق، وكافة المداخل بالسواتر الترابية، والتأخير لفترات طويلة عند نقاط التفتيش، وتركيب بوابات جديدة عند مداخل القرى. وهذا يجعل كل رحلة معقدة، سواء للذهاب إلى العمل أو زيارة الأقارب أو طلب الرعاية الطبية. ومنذ ذلك الحين، أُغلقت الطرق في جميع أنحاء المخيمات المستهدفة.
- شق الطرق العسكرية داخل المخيمات. إلى جانب عمليات التجريف الواسعة، عمد الاحتلال إلى شق الطرق العسكرية في مخيمات شمال الضفة الغربية لعدة أسباب منها، أولاً إعادة تشكيل ملامح المخيمات الفلسطينية عبر الهندسة الديموجرافية والجغرافية، ثانياً مساعدة الاحتلال إلى الوصول السريع لكافة مناطق المخيم، إعاقة أعمال المقاومة الفلسطينية في الإعداد والتجهيز لجيش الاحتلال، ثالثاً التخلص من الكثافة السكانية في المخيمات، رابعاً: منع أي عملية بناء للمنازل كما كانت سابقاً، ويترافق ذلك مع السماح بعملية البناء على حواشي الشوارع الجديدة. وهو أمر ترى إسرائيل أنه سيفضي إلى السيطرة على المخيم وتحويله إلى مكان يمكن الوصول إليه في أي وقت.
- مفاقمة الوضع الإنساني. ووفقًا للأمم المتحدة، فإن 68% من نقاط الخدمات الصحية في الضفة الغربية غير قادرة الآن على العمل لأكثر من يومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع، وتعمل المستشفيات بنسبة 70% فقط من طاقتها. في جنين وطولكرم، الوضع أكثر خطورة، حيث يعاني السكان من نقص الغذاء والماء والوقود بسبب الحصار والهجمات المتكررة()، وجدير بالذكر أن الاحتلال منع سيارات الإسعاف أمر روتيني، حيث يُجبر المسعفون على الانتظار عند نقاط التفتيش، مما يتسبب في نزيف المرضى قبل إجلائهم. ويزيد تدمير الطرق والبنية التحتية من تفاقم الأزمة، في عدم إسعاف الجرحى. وفي مخيم جنين أغلقت الطرق الرئيسية المؤدية إلى مستشفى جنين الحكومي.
ملامح اليوم التالي في الضفة الغربية
من الواضح أن ملامح اليوم التالي في الضفة الغربية تنسجم مع التصريحات المتكررة لليمين الإسرائيلي المتشدد، الذي يدعو إلى إعادة ضم الضفة الغربية، وعلى رأسه وزير الأمن القومي المستقيل إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. يُعرف سموتريتش بتبنيه لمفهوم “إسرائيل الكبرى” وهو صاحب المقترح الداعي إلى إلغاء الإدارة المدنية في الضفة الغربية، التي تشكّل غطاءً للحكم العسكري.
تستعد الحكومة الإسرائيلية لما بعد الحرب في الضفة الغربية أيضًا بخطط بعيدة المدى وفقاً للقناة 14 الإسرائيلية، من المتوقع أن تؤدي العملية إلى تغيير المنطقة سواء من المنظور العسكري أو من المنظور المدني، حيث سيتم تشكيل فريق تخطيط يضم عدة عناصر من المؤسسة العسكرية، وسيكون دوره قيادة إعادة تصميم منطقة شمال الضفة الغربية في عدة جوانب: التعليم، والتضاريس، والتوظيف.
أولاً: التعليم، حيث تريد الحكومة الإسرائيلية تغيير الواقع التعليمي ف يالضفة الغربية، بحيث لا يكون لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” أي دور فيها ، حيث سيقوم هذا الفريق بضمان مراجعة المحتوى والمناهج في المدارس ورياض الأطفال، والهدف هو أن يكون الفريق مشاركاً في المحتوى التعليمي لمنع انتشار معاداة السامية و”الإرهاب” منذ سن مبكرة.
ثانياً: والأهم وجه الأرض، بحيث يتم بناء المزيد من المباني الجديدة الشاهقة، والطريق ذات المسارين، وبعبارة أخرى أن تبدو المخيمات شبيهة أكثر برام الله، وأقل شبهاً بجباليا.
ثالثاً: التوظيف. من خلال تسهيل الحصول على التعليم والعمل، ومن المحتمل أن تكون هناك خطط بعيدة المدى في هذه المجالات، بحيث ينشغل الفلسطينيون بالعمل ولقمة العيش بدلاً عن المطالبة بحقوقهم السياسية ومهاجمة اليهود.
وفي ضوء أهداف الهجوم العسكري على مخيمات شمال الضفة الغربية وسيناريو اليوم التالي فمن المتوقع التداعيات التالية:
- تقويض حق العودة من خلال إلغاء الهوية القانونية للمخيمات كأماكن لجوء، مما يمهد لإسقاط صفتهم كلاجئين وفق القانون الدولي، خاصة في ظل محاولات تقليص دور الأونروا، بما يسهل تبرير إزالتها لاحقًا.
- دفع السكان نحو الانتقال إلى مناطق أخرى داخل المدن الفلسطينية قسرياً من خلال الضغط الاقتصادي، وتقليل الخدمات، أو تسهيل عمليات شراء العقارات خارج المخيمات، وفتح قنوات الاتصال مع المنظمات الدولية لتشجيعها على تبني مشاريع تطويرية تجعل المخيمات تبدو كأحياء عادية بدلًا من كونها مراكز لجوء.
- تدهور أوضاع اللاجئين الفلسطينيين المعيشية، تفاقم الأزمة الإنسانية وزيادة معدلات الفقر والبطالة داخل المخيمات.
- تقليل عدد سكان المخيمات سيؤدي إلى تحويل المخيمات إلى بؤر يمكن السيطرة عليها أمنيًا مما سيجعلها نقاط عزل لسكان المخيمات.
- ستترك حرب الإبادة المستمرة على مخيمات شمال الضفة تداعيات خطيرة على مهام ودور السلطة الوطنية الفلسطينية، فطالما أعلن اليمين الإسرائيلي رغبته في إنهاء دورها، واستلام العشائر الفلسطينية السلطة بدلاً عنها، وذلك بغرض القضاء نهائياً على مشروع حل الدولتين رسميًا، مع فرض خيار الحكم الذاتي المحدود للشعب الفلسطيني في “كانتونات” صغيرة.
الخلاصة
تحمل التداعيات السابقة تداعيات خطيرة على الفلسطينيين، ويعكس استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والجغرافي في الضفة الغربية، كما أن الهجمة الإسرائيلية الشرسة على مخيمات شمال الضفة ستكون مرحلة أولى سيعقبها هجمات أخرى على مخيمات وسط وجنوب الضفة الغربية.
في المقابل، يتطلب التصدي لهذه المخططات استراتيجيات إسلامية وعربية فلسطينية قائمة على التصدي لتلك الاستراتيجية، وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني في أرضه. وهذا يتطلب على المستوى الوطني إعادة توحيد الصف الفلسطيني بين الفصائل لمواجهة المخططات الإسرائيلية، وتعزيز التحركات القانونية بالتعاون مع الدول الصديقة ضد إسرائيل في المحاكم الدولية لإثبات جرائم الحرب والتهجير القسري.
وعلى المستوى العربي ضرورة الضغط على الدول العربية لوقف أي تطبيع مع إسرائيل في حال تنفيذ قرار الضم، الذي سيعني عملياً تصفية كاملة للقضية الفلسطينية، وتعزيز الدعم الدولي عبر الأمم المتحدة والمحاكم الدولية لعرقلة الضم سياسيًا وقانونيًا، وتعزيز حملات مقاطعة اقتصادية لإسرائيل للضغط عليها عبر الرأي العام العالمي. وضرورة استغلال حاجة الولايات المتحدة الأمريكية للاستثمارات العربية الخليجية والتي ستتجاوز التريليون دولار، كفرصة سانحة من أجل الضغط على إسرائيل
المراجع
. أحمد حافظ، محمد وتد، لماذا صنّفت إسرائيل الضفة الغربية منطقة قتال ثانية بعد غزة؟، موقع الجزيرة نت، 5/9/2024، فقرة 3-6.
https://n9.cl/4t7xn Accessed 11/3/2025
. موقع RT، بعد صفقة غزة.. لماذا وسعت إسرائيل عملياتها في الضفة الغربية؟، 22/1/2025، فقرة 2-3.
https://n9.cl/hjk0ol Accessed 11/3/2025
Gerry Shih, Miriam Berger, Heidi Levine and Claire Parker, As Israel widens war in West Bank, settlers see their influence pay off,The Washington Post, 6/3/2025,para.,9
https://n9.cl/yssoq Accessed 11/3/2025
/ . محمد الصياد، وزير الدفاع الإسرائيلي: سنغير مفهوم الأمن في الضفة الغربية، موقع قناة الحرة، 22/1/2025، فقرة 4.
https://n9.cl/0fmzo Accessed 9/3/2025
. موقع الجزيرة نت، سموتريتش يدعو لتوسيع عمليات جيش الاحتلال بالضفة، 7/1/2025، فقرة 1-2.
https://n9.cl/ihjav Accessed 9/3/2025
. موقع الجزيرة نت، سموتريتش: أصدرت تعليمات للتحضير لبسط السيادة على الضفة، 11/11/2024، فقرة 2-4.
https://n9.cl/e463o Accessed 11/3/2025
. موقع الجزيرة نت، تفاصيل وأهداف عملية “السور الحديدي” الإسرائيلية شمال الضفة الغربية،5/2/2025، فقرة 7
https://n9.cl/6vsp2d Accessed 9/3/2025
Gerry Shih, Miriam Berger, Op.Cit.,para.,25
Watan News Website, Israel Destroys 480 Homes in Jenin as Military Assault Displaces Thousands, 9/3/2025,para.5
https://n9.cl/zk5je Accessed 11/3/2025
WAFA News Agency, Day 31 of Israeli aggression: Tulkarm remains under military escalation, 11/3/2025,para.,9
https://n9.cl/8bnpdp Accessed 11/3/2025/
Btselem Website, Since the “ceasefire,” Israel has displaced 40,000 in the West Bank,10/3/2025,para.,3
https://n9.cl/nab0zh Accessed 11/3/2025
Hanno Hauenstein, Worse than the Second Intifada’: West Bank refugees reel from Israeli offensive, +972 magazine Website.21/2/2025,para.4-6
https://n9.cl/qomza Accessed 15/3/2025
. موقع الجزيرة نت، أين يذهب المهجرون من مخيمات شمال الضفة الغربية؟، 16/3/2025، فقرة 6-9.
https://n9.cl/m47w5 Accessed 17/3/2025
. المرجع السابق، فقرة 11-13.
Médecins Sans Frontières Website, Violence in The West Bank: Three Things You Should Know,5/2/2025.para.,10
https://n9.cl/qhgc8 Accessed 15/3/2025