اعداد/ د. محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول-وجدة – المغرب
إشراف ومراجعة/ د. أكرم حسام
رئيس مركز السلام للدراسات الاستراتيجية
استضافت العاصمة الأمريكية واشنطن قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لعام 2024 خلال الفترة من 9 إلى 11 يوليو 2024، بمشاركة 32 دولة من دول الحلف، وقد جاءت هذه القمة في إطار ظروف عالمية وإقليمية معقدة ومتشابكة، فحالة الأمن والإستقرار الدولي عامة والأوروبي خاصة على المحك بسبب وضع الاستقطاب الذي تتسع هوته بسبب حرب أوكرانيا من جانب، وحرب غزة في الشرق الأوسط من جانب أخر، علاوة على توترات وحروب وصراعات عديدة لا تقل أهمية في مناطق أخرى من العالم، تقع ضمن مناطق الاهتمام الجيواستراتيجي لحلف الناتو ولبعض أعضاءه بشكل خاص.
تم توصيف القمة بالتاريخية، حيث الاحتفال بمرور ثلاث أرباع قرن على تأسيس أقدم حلف دفاعي استراتيجي في النظام الدولي الحديث، لذلك كانت هذه القمة من ناحية فرصة لدول الحلف لإعادة التأكيد على التضامن والقوة المستمرة للحلف عبر الأطلسي، إلا أنها كانت فرصة في الوقت نفسه لتسليط الأضواء على بعض التحديات والمخاطر التي تواجه الحلف حالياً وعلى المدى المنظور . يسلط هذا التحليل الضوء على نتائج هذه القمة من واقع الفرص والتحديات في البيئة الأمنية الأوروبية والعالمية، وكيف يمكن لمصر أن تستفيد من التعاون مع الناتو في السياقات الدولية المطروحة ووفق المفاهيم الجديدة للحلف وخططه المطروحة.
قمة واشنطن: السياقات والمستجدات الدولية:
يعقد حلف الناتو اجتماع قمة سنوي لقادة الحلف لمناقشة وتقييم الموقف الاستراتيجي العالمي وحالة الحلف والتحديات التي تواجهه واقتراح خطط العمل والمفاهيم الاستراتيجية الجديدة، التي يتمكن الحلف من خلالها من التكيف مع التغيرات في بيئة الصراع الدولي بشكل عام والصراعات التي ينخرط فيها الحلف بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك يحرص المحللون دائماً على الوقوف على الجديد في كل قمة مقارنة بالقمة التي سبقتها.
في هذا الإطار، عقدت قمة الحلف السابقة في مدينة فيلينوس بليتوانيا وكانت حرب أوكرانيا هي المسيطرة على مجريات تلك القمة بشكل كامل، بينما القمة الحالية 2024 تنعقد في ظروف لا تختلف كثيراً عن ظروف القمة السابقة إلا فيما يلي:
- وصول الموقف في أوكرانيا لمستوى صعب بسبب الضغط العسكري الروسي المتواصل والكبير ، وهو ما يستدعي من دول الحلف أن تطرح رؤى وخطط جديدة للإستجابة لهذا المتغير المهم ، حيث أنه وبدون زيادة مستوى الدعم من الحلف لأوكرانيا بل ورفع بعض الشروط والقيود التي سبق وضعها بشأن حرية أوكرانيا في استخدام أنواع معينة من الأسلحة وتحديد مدياتها وكذلك مناطق الاستهداف ، خشية استفزز روسيا إلى مستوى معين يجعلها تتجاوز هي الأخرى الخطوط الحمراء، ما قد يعرض الأمن الأوروبي والعالمي للخطر مع سيناريو محتمل لصدام روسي غربي مباشر.
- عودة مصطلح “أزمة الشرق الأوسط” للسياسة الدولية، كتعبير عن رؤية القوى الكبرى لمجريات حرب غزة الراهنة، وما يمكن أن تفضي إليه من ترتيبات جديدة بالمنطقة قد تطول مصالح بعض الدول، مع بقاء احتمالات تدهور الموقف الإقليمي نتيجة هذه الحرب خاصة مع إيران وحلفائها بالمنطقة.
- أنها أول مرة يجتمع فيها الحلف في صيغة 32 عضواً، بعد انضمام كلٍّ من فنلندا والسويد إليه.
- بداية تولى أمين عام جديد للحلف خلفاً لينس ستولتنبرغ، وهو مارك روتي .
- تنعقد القمة الحالية 2024 في قلب عام انتخابي ساخن بالولايات المتحدة، وهناك تخوفات من عدد من الدول العضاء للحلف من نجاح ترامب في العودة للبيت الأبيض، وترامب معروف بتوجهاته تجاه الحلفاء وفق رؤيته أمريكا أولاً ومسألة تحمل الحلفاء تكلفة وأعباء مظلة الحماية الأمريكية، وضغوطه على الحلفاء خاصة من الأطلسي لزيادة الإنفاق الدفاعي، حيث تخشى دول مثل ألمانيا وفرنسا من عودة لهذه الضغوط عليها، حال فاز ترامب في نوفمبر القادم.
أهم مخرجات ونتائج قمة واشنطن:
تقرأ مثل الاجتماعات من خلال المخرجات والنتائج التي تمخضت عنها، ومن بين أهم هذه المخرجات ما يلي:
- جيل جديد من خطط الحلف الدفاعية تدخل حيز التنفيذ. تغطي هذه الخطط كافة أراضي الناتو والمجالات، بدءا من الجو والبر والبحر وصولا إلى الفضاء والمجال السيبراني، وهي تمثل أول مجموعة من الخطط الدفاعية الشاملة التي طورها الحلف منذ نهاية الحرب الباردة. وقد استكمل الحلف الآن المخطط الكامل لتحديث نظام الدفاع الجماعي، والذي يشمل بنية قوات محدثة تعزز استعداد الحلف وقدرته على الاستجابة لأي سيناريو مع محرك موضوعي قائم على الظروف وخاص بالتخطيط والمشتريات الدفاعية للحلفاء.
- زيادة الإنفاق الدفاعي لنسبة 2% من الناتج المحلي. حيث وصل عدد الدول التي تنفق ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع إلى 23 دولة، حيث تضعف هذا العدد تقريبا مقارنة بالوضع الذي كان عليه الانفاق الدفاعي لدول الحلف قبل عام( تسعة أعضاء فقط).
- تحفيز القاعدة الصناعية لتجديد المخزون الاستراتيجي للذخائر. بهدف إنتاج الذخائر الضرورية الحاسمة في المعارك والحفاظ عليها، حيث وافق الناتو على عقود بقيمة عشرة مليارات دولار لإنتاج أسلحة وذخائر تتيح تجديد مخزونات الحلفاء، ليمثل ذلك التزاما كبيرا يتيح خلق فرص عمل في الولايات المتحدة.
- تأكيد الشراكات الدولية للناتو مع دول آسيا والمحيط الهادىء في مواجهة روسيا والصين. حيث وجه قادة الناتو للعام الثالث على التوالي دعوة للشركاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ – أستراليا واليابان ونيوزيلندا وجمهورية كوريا – للانضمام إلى قمة الناتو على أعلى المستويات، ويهدف مخططو السياسات الدفاعية والاستراتيجية للناتو من ذلك لمناقشة الربط المتزايد في مجال الأمن في المنطقة الأورو-أطلسية ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومحاولة تشكيل رؤية مشتركة بين الناتو وهذه الدول إزاء كلاً من روسيا والصين، كما يحاولون توسيع قاعدة الداعمين لأوكرانيا، ، لذلك شهدت قمة واشنطن 2024 إطلاق أربعة مشاريع رائدة جديدة تركز على : دعم أوكرانيا ، تعزيز التعاون في مجال الدفاع السيبراني ، تبادل المعلومات بشأن التحديات التي تمثلها المعلومات المضللة ، المشاركة بشأن الذكاء الاصطناعي من خلال مجموعة خبراء مشتركة.
- مكافحة الإرهاب. حدد مفهوم الناتو الاستراتيجي للعام 2022 الإرهاب كأكثر تهديد مباشر وغير متماثل للحلف، وعليه قام الحلفاء في قمة فيلنيوس 2023م بتحديث المبادئ التوجيهية الخاصة بمكافحة الإرهاب لضمان استجابة الناتو للتهديدات الإرهابية الراهنة، أما في قمة واشنطن 2024م فقد تم مراجعة التهديدات والتحديات القائمة والناشئة خاصة في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل، خاصة فيما يتعلق بالتحالف الدولي المُشكل لمحاربة داعش ودوره في المرحلة المقبلة، والإستجابة لتوسع نشاط داعش والتنظيمات المسلحة في دول الساحل التي تشهد منذ فترة تغيرات سياسية قوية ( أغلبها معادي للوجود الأمريكي والغربي).
- حزم مساعدات دفاعية لموجهة لقضايا المرأة والسلام والأمن . بغرض تعزيز جدول الأعمال المتعلق بالمرأة والسلام والأمن عبر المهام والمهمات الأساسية الخاصة بحلف الناتو، أجرى الحلفاء في قمة فيلينوس 2023 مراجعة لسياسة الحلف المحددة في العام 2018 لتحقيق التزام الحلف طويل الأمد تجاه قضايا المرأة والسلام والأمن في كافة العمليات التي ينفذها الحلف ، وتم في قمة واشنطن 2024م دمج التهديدات الأمنية الجديدة، بما في ذلك العنف القائم على النوع الاجتماعي والذي تيسره التكنولوجيا، وسوء استخدام التقنيات الجديدة والناشئة، والأمن المناخي، والعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات في قضايا المراة والسلام، وتخصيص للمرة الأولى جانب من المساعدات الدفاعية الموجههة لبعض الدول بما فيها اوكرانيا لتعزيز أهداف ذات صلة بالمرأة والسلام والأمن.
إنشاء مركز متكامل للدفاع السيبراني. قام الحلفاء في قمة فيلنيوس 2023م بتجديد تعهد الدفاع السيبراني بغية وضع حد أدنى جديد من ممارسات الأمن السيبراني، بينما في قمة واشنطن 2024م فقد تم الإعلان عن إنشاء مركز متكامل جديد للدفاع السيبراني يحدد نقاط الضعف ومعالجتها في أي مكان في دول التحالف.
حصاد عام : التحركات العملياتية للحلف :
يعتمد حلف الناتو على مزيج مناسب من القدرات الدفاعية النووية والتقليدية والصاروخية، تُكمّلها القدرات الفضائية والإلكترونية من خلال تعزيز الدفاع الجوّي والصاروخ، ونشير لأبرزها فيما يلي:
- تعزيز الجاهزية لقوة الرد السريع. تعد “قوة الرد السريع” بمثابة جدار الردع والحماية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) حيث تتشكل من وحدات قتالية متعددة الجنسيات جاهزة وعلى أهبة الاستعداد دائماً، ففي حالة الطوارئ تكون هذه الوحدات قادرة على التحرك إلى مناطق الأزمات في غضون (48) ساعة للقيام بمهام برية أو بحرية أو جوية.وتضم القوة (40) ألف جندي ومحورها قوة العمليات المشتركة “VJTF” المكونة من (8000) مقاتل وتضم لواء متعدد الجنسيات وكتائب مدعومة بوحدات جوية وبحرية وقوات خاصة، وقد تم تعزيز جهوزيتها من خلال عدد من التدريبات والتمارين المشتركة التي أجريت خلال عام تقريبا وأهمها ما جرى خلال الفترة من يناير إلى مايو 2024 تحت اسم “المدافع الصامد”، والتي اعتبرت أكبر مناورات مشتركة للناتو منذ الحرب الباردة، و شارك فيها أكثر من 90 ألف جندي من 32 دولة عضو في الناتو، بالإضافة إلى 50 سفينة حربية، و1100 مركبة قتالية.
- القوة المشتركة لأمن الطاقة وحماية المنشآت الاستراتيجية. شكل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في 11 يناير 2023 قوة مهام مشتركة معنية بتوفير حماية أفضل للبنية التحتية المهمة بالكتلة الأوروبية وتغطي البنية التحتية في مجالات النقل والطاقة والرقمنة والفضاء لتحديد التهديدات على البنية التحتية المهمة ودراسة نقاط الضغط الاستراتيجية. ويذكر أن ألمانيا والنرويج دعت حلف شمال الأطلسي “ناتو” إلى تشكيل مركز لحماية البنية التحتية البحرية لأوروبا بعد التفجيرات التي أصابت خطوط أنابيب الغاز “نورد ستريم” وإنشاء مكتب تنسيق لحماية البنية التحتية البحرية كمبادرة غير رسمية للتواصل بين الفاعلين المدنيين والعسكريين.
- نشر القنابل النووية التكتيكية.. تعتمد العقيدة الاستراتيجية لحلف الناتو الذي تم تحديثها في قمة مدريد في يونيو 2022، على أن ما دامت الأسلحة النووية موجودة سيظل الناتو تحالفاً نووياً وقررت دول الناتو على رأسها الولايات المتحدة . في 27 أكتوبر 2022 تسريع نشر القنابل التكتيكية النووية “B61-12” المطورة في أوروبا، وتسليمها إلى قواعد الناتو في أوروبا.
- تعزيز الأمن الجوي للناتو. عقد الحلف في يونيه الماضي 2024 المناورات العسكرية “لقاء النمر2024” في ألمانيا، بمشاركة طائرات وقوات من 11 دولة عضوا بحلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى جانب دولتي سويسرا والنمسا غير الأعضاء في الحلف، شارك في التدريبات نحو 60 طائرة ومروحية مقاتلة من دول عدة من الحلف، ونحو 1100 جندي، إلى سلاح الجو الألماني في المناورات. تهدف المناورات إلى تعزيز التعاون مع الشركاء وتبادل الخبرة الجوية والفنية، وتعد هذه المناورات واحدة من أكبر المناورات بالنسبة للعمليات الجوية المشتركة في أوروبا، كما أنها تقدم تجربة قيمة للقوات الجوية المشاركة، ونشير إلى قيام الحلف بنشر (8) طائرات هولندية من طراز F-35 في “مالبورك” بولندا، في الثالث من فبراير 2023 لتنضم إلى مهمة الناتو لتعزيز الموقف الدفاعي على طول الجانب الشرقي في فبراير ومارس 2023. بينما يتم توظيف (4)من مقاتلات الجيل الخامس لدعم حفظ الأمن في سماء المنطقة، تكون الطائرات الأربع الأخرى متاحة لإجراء هذا النوع من المهام التدريبية مع الحلفاء أو الاستعداد لزيادة المهمة الدفاعية عند الحاجة، كما انتقلت أولى وحدات حلف “الناتو” متعددة الجنسيات والمزودة بمنظومات الدفاع الجوي “باتريوت” إلى سلوفاكيا في 20 مارس 2022. حيث يعزز الحلف دفاعاته في جناحه الشرقي داخل قاعدة “سلياك” العسكرية وسط سلوفاكيا، قبل أن يتم نشرها في مناطق أخرى لحماية أكبر للحلف، كما أكد حلف الناتو نشر طائرات استطلاع لنظام الإنذار والمراقبة المحمولة جواً (أواكس) في بوخارست، رومانيا في 12 يناير 2023 وتقوم بدعم الوجود المعزز للحلف في المنطقة “يمكن لنظام أواكس الخاص اكتشاف الطائرات على بعد مئات الكيلومترات مما يجعلها قدرة رئيسية للردع والدفاع لحلف الناتو.
- حماية الأمن البحري للناتو. عزز حلف الناتو من قدراته الجوية للمراقبة على سواحل البحر الأسود المقابلة لروسيا، حيث نشرت القوات الفرنسية نظام دفاع متوسط المدى “مامبا” فى دولة رومانيا، وتتولى القوات الإيطالية الإشراف عليه. نظام “مامبا” مخصص للمراقبة وتزويد القيادة الرئيسية للحلف بكل الملاحظات والتطورات، بالإضافة إلى أنه مصمم لمواجهة صواريخ كروز ويمكن التعامل مع تهديدات متعددة من خلال قدراته على الإطلاق المتعدد، كما أجرى حلف “الناتو” في 18 يناير 2023 بمشاركة الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبولندا مناورات بحرية وجوية في ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا المطلة على بحر البلطيق. وأجرت قوات جوية وبحرية من فرنسا وبولندا وألمانيا والولايات المتحدة في 19 يناير 2023 تدريباً جوياً وبحرياً تكاملياً في ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، يشمل هجمات جوية لمقاتلات الدول الحليفة ضد أهداف أرضية”. يوجد لدى الناتو (5) مقار عالية القدرة وتعد “تورمارفور” إحدى قوات العمل البحرية عالية الجاهزية. وعزز الناتو من وحدة أسطول حلف شمال الأطلسي في شمال المحيط الأطلسي وكذلك في بحر الشمال وبحر البلطيق عبر إرسال فرقاطة كجزء من قوة التدخل السريع التابعة للناتو وعلى متنها طاقم يضم نحو (210) شخص للمشاركة في هذه المهمة لدعم الجناح الشمالي للحلف العسكري.
التحديات أمام تماسك وفاعلية الحلف على المدى المنظور:
- الانتخابات الرئاسية الأمريكية واحتمالات عودة ترامب. يعتبر بايدن حلف الناتو جزءاً أساسياً من موقف الولايات المتحدة العالمي ورصيد ضخم في أمن الولايات المتحدة وازدهارها ( حسب ما جاء في خطابه في قمة واشنطن الخامسة والسبعين)، في حين يعتبر ترامب أن حلف الناتو مثّل عبء على مدى عقود للولايات المتحدة وأنه صفقة سيئة بالنسبة لأميركا حيث دعمت واشنطن أمن حلفاء أغنياء ولا تحصل على الكثير في المقابل”، لذلك تدرس الدول الأخرى في التحالف المؤلف من 32 عضوًا، بقلق، احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل.
- المعضلة الأوكرانية وكيفية تفادي تجاوز الخطوط الحمراء مع روسيا . في ظل تعهد أعضاء الحلف بمواصلة دعم أوكرانيا بما قدره 40 مليار يورو سنويًا، لعام إضافي على الأقل، وتأكيد الولايات المتحدة، إلى جانب ألمانيا ورومانيا، أنها سترسل أنظمة “باتريوت” إلى أوكرانيا، بينما سترسل هولندا والدول الأعضاء الأخرى في الناتو مكونات لنظام آخر، فيما ستوفر إيطاليا نظام الدفاع الجوي SAMP-T.، واحتمالات إرسال طائرات مقاتلة إضافية من طراز F-16، وفي السياق نفسه، أعلن بيان مشترك بين الولايات المتحدة وألمانيا عقب انتهاء القمة، عزم واشنطن على نشر صواريخ كروز من طراز توماهوك وأسلحة أخرى بعيدة المدى على الأراضي الألمانية بشكل مؤقت اعتباراً من عام 2026، ذلك من أجل تعزيز الردع العسكري من جانب الولايات المتحدة لحماية الدول الأوروبية الشريكة في الحلف ضد أي تهديد روسي، بالإضافة للتخطيط لإنشاء قيادة عسكرية لحلف شمال الأطلسي في فيسبادن بألمانيا، لتصبح عنصراً من عناصر “الجسر إلى الناتو”، يمكن أن يسمح لأوكرانيا بالانضمام مستقبلاً. ويخشى من بعض هذه الخطوات أن تخرج الأمور عن السيطرة، ويتم قراءة الموقف من الجانب الروسي على أنه تجاوز للخطوط الحمراء، والتي يمكن بعدها أن تحدث مواجهة مباشرة بين الجيش الروسي وقوات الناتو ( السيناريو الكارثي على الأمن الأوروبي والعالمي).
- غموض المستقبل السياسي الداخل في أوروبا. يواجه زعماء حلف شمال الأطلسي أيضا حالة من عدم اليقين السياسي في أوروبا بعد المكاسب التي حققتها أحزاب اليسار واليمين المتطرف في فرنسا، وتراجع قوة ائتلاف المستشار الألماني أولاف شولتس عقب الأداء الهزيل في انتخابات البرلمان الأوروبي ، ففرنسا تواجه حالة سياسية مرتبكة بعد فوز اليسار المتطرف بالأغلبية في انتخابات البرلمان ، في حين جاء تكتل يمين الوسط الذي يقوده الرئيس ماكرون في المركز الثاني. وفي بريطانيا اجتاح حزب العمال المعارض الانتخابات النيابية ليطيح بحكومة حزب المحافظين. ومن ناحية أخرى، تعرض المستشار الألماني أولاف شولتس لصدمة قوية عندما جاء معسكر اليمين المتطرف في المركز الثاني في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت في الشهر الماضي. الأمر نفسه تكرر مع رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو الذي أصبح رئيس حكومة تسيير الأعمال بعد تفوق اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي ببلاده.ومما يزيد المشهد سوءا بالنسبة لحلف الناتو الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء المجري فيتكور أوربان الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، إلى أوكرانيا حيث دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى القبول بوقف لإطلاق النار مع روسيا بشروط يقول الأوكرانيون إنها غير مقبولة بالنسبة لهم. وبعد ذلك زار أوربان روسيا والتقى مع الرئيس فلاديمير بوتين وهي الزيارة التي شدد الاتحاد الأوروبي على أنه لا يباركها. وقالت أوروسولا فون دير لين رئيسة المفوضية الأوروبية على موقع إكس للتواصل الاجتماعي إن “الاسترضاء لن يوقف بوتين”.
- الاستراتيجية الأمثل للتعامل مع الصين. معضلة أخرى تقف أمام الحلف، وهي كيفية إعادة التفكير في علاقة الحلف مع الصين؛ إذ تتحدى القوة العسكرية والاقتصادية المتنامية للصين النظام الدولي القائم على القواعد الأوروبية الأمريكية، وتخلق العديد من المعضلات الأمنية للولايات المتحدة وحلفائها، كما تشكل الصين أيضا تهديدات لليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والفلبين وفيتنام وغيرها من الدول الأسيوية ( الشريكة للحلف). كما أن الترسانة النووية الصينية طويلة المدى تتزايد، وبنهاية العقد الحالي، من المتوقع أن تنشر مجموعة من القاذفات النووية الاستراتيجية على صواريخ باليستية أرضية وصواريخ باليستية تنطلق من الغواصات، وقاذفات بعيدة المدى.الاستراتيجية الحالية للحلف تعتبر أن الصين تمثل تحدياً لمصالح حلف شمال الأطلسي وأمنه وقيمه” بوصفها قوة اقتصادية وعسكرية لا تزال “غامضة فيما يتعلق باستراتيجيتها ونواياها وتعزيزاتها العسكرية”. ويتهم المفهوم الصين “باستخدام نفوذها الاقتصادي لخلق كيانات استراتيجية تابعة وتعزيز نفوذها”.تكمن المعضلة أيضاً في كون أن 40 في المائة من التجارة الأوروبية تمر عبر بحر الصين الجنوبي، كما أن هناك مخاوف من دول الحلف من التعاون العسكري الروسي المتزايد مع كوريا الشمالية والصين. وتثير دول شريكة للناتو مثل اليابان مخاوف من طموحات الصين، حيث يؤكد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا أن ما يحدث في أوكرانيا اليوم ربما يحدث في شرق آسيا غداً. من الناحية الأخرى تطالب الصين دول الحلف بـ “وقف تضخيم ما يسمى بالتهديد الصيني…”. بينما تقدم الصين نفسها طرفًا محايدًا في النزاع الأوكراني .
قمة واشنطن 2024 وفرص التعاون المصري مع حلف الناتو:
من المهم في مثل هذه التحليلات أن يتم تسليط الضوء على العلاقة المباشرة وغير المباشرة للموضوع المطروح على الأمن القومي العربي بشكل عام، وعلى دول بعينها من دول التماس خاصة مصر، فالمنطقة العربية ودولها الفاعلة كانت حاضرة في الرؤية الاستراتيجية لحلف الناتو منذ أكثر من ثلاثة عقود تقريبا في إطار عدة صيغ للشراكات الدولية وهي ( دول شركاء سلام، دول الحوار المتوسطي، دول مبادرة إسطنبول للتعاون، واتفاقية الشركاء الدوليين) وهذه الصيغ تضم حالياً 40 دولة من الدول المهمة في العالم في مناطق مختلفة، لكن هذه الرؤية تتعمق بمرور السنوات، ولعل قمة واشنطن 2024 كانت خير مثال على ذلك، حيث تمت دعوة عدة دول عربية للمشاركة في القمة منها مصر والأردن وقطر والبحرين ، كما تم الكشف عن رغبة الحلف في افتتاح مكتب تنسيق جديد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العاصمة الأردنية عمّان، بهدف تعزيز شراكات الحلف في المنطقة الجنوبية، سيُسهم هذا المكتب في تطوير برامج وأنشطة الشراكة في مجالات، مثل: الأمن السيبراني، وإدارة الأزمات.
يرتبط حلف الناتو مع أربع دول خليجية بما يسمى “مبادرة إسطنبول للتعاون”، وهي دول الإمارات والكويت وقطر والبحرين، كما تشارك عُمان والسعودية في بعض أنشطة المبادرة التي تم الإعلان عنها عام 2004. تعمل المبادرة على “التخطيط الدفاعي وإعداد الميزانية الدفاعية ومكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وكذلك ضمان الجاهزية المدنية” وهناك إهتمام من حلف الناتو بعدد من دول الخليج ، حيث أرسل الحلف عدة رسائل في هذا الإطار، فأمينه العام السابق ، ينس ستولتنبرغ، زار العاصمة السعودية الرياض، ديسمبر 2023، للمرة الأولى في تاريخ منصبه، معبّرا عن رغبته في “تعميق التعاون، كما أبرز بيان للحلف أن تعيّن مجموعة خبراء “لمراجعة نهج الحلف تجاه الخليج والشرق الأوسط وأفريقيا”، والتقى الأمين العام للناتو في الزيارة بالأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، جاسم البديوي.
وهناك “الحوار المتوسطي” الذي انطلق عام 1994، ويعمل على أهداف “المساهمة في الأمن والاستقرار الإقليميين، وتحقيق تفاهم متبادل أفضل، وتبديد أي مفاهيم خاطئة حول حلف شمال الأطلسي في الدول المشاركة”. وانضمت عدد من الدول العربية إلى هذه المبادرة، هي مصر وموريتانيا والمغرب وتونس الأردن والجزائر، وتوجد إسرائيل كذلك في هذا الحوار.
أثمر التعاون العربي مع دول الناتو عن نتائج إيجابية في برامج الناتو التدريبية والتعليمية في الشرق الأوسط ، خصوصا في مجال الدبلوماسية الدفاعية من خلال إنشاء شبكات دولية جديدة من القادة العسكريين”.
بالنسبة لمصر ، فإنها تقع في قلب النظرة الاستراتيجية لحلف الناتو للعالم العربي أو للشرق الأوسط أو المنطقة الجنوبية حسب مفهوم الحلف للمناطق الجغرافية المحيطة به ، فاعتبارات الموقع الاستراتيجي المتفرد ومكانتها الحضارية ودورها في المنطقة ومركزية دورها في أي عمليات للتعاون الخارجي مع دول العالم العربي، خاصة مشاريع التعاون في المجال الأمني والاستراتيجي تجعل من مصر دائما محطة مهمة من محطات التحركات الخارجية لحلف الناتو وبالفعل شهدت الفترة الماضية تبادل في الزيارات بين المسئولين من الحلف ومسئولين مصريين على المستوىين السياسي والعسكري، لتبادل وجهات النظر حول قضايا المنطقة والدور الذي تلعبه مصر في مواجهة عدة قضايا تهم دول الحلف ومنها ما يخص الهجرة غير المشروعة، توحيد الجيش الليبي وجهود الحل السياسي، الرؤية المصرية للموقف في غزة بأبعاده الإقليمية، قضايا الأمن البحري في البحر الأحمر وإمكانية التعاون المشترك ، الرؤية والدور المصري في إيقاف الحرب في السودان وغيرها.
تحتفظ مصر منذ عام 2017 بتمثيل دبلوماسى دائم لدى حلف شمال الأطلنطى وهو ما ساعد على تطوير العلاقات المصرية مع الناتو على المستوى الثنائي ومتعدد الأطراف ، وتنطلق مصر في ذلك من رؤيتها الاستراتيجية القائمة على مفاهيم التوازن والتعاون مع المنظمات الدولية الفاعلة ، خاصة وأن هذا الحلف يضم أغلب دول الإتحاد الأوروبي الذي يعتب رالشريك التجاري الأول لمصر، علاوة على وجود قضايا أمنية مشتركة يمكن التعاون بخصوصها ولابد من وجود جسور لهذا التعاون لمصلحة الأمن القومي المصري.
تدرك مصر أبعاد العقيدة الاستراتيجية الجديدة للحلف ومفاهيمه ذات الصلة والإرتباط بالأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، لذلك تنطلق في إجتماعاتها ولقاءاتها سواء على مستوى الخبراء أو على المستوى الرسمي في محاولة فهم أعمق لهذه المفاهيم، واستكشاف مناطق الإلتقاء والتعاون بخصوصها بما يضمن الاستقرار الإقليمي ويحقق لمصر رؤيتها للمنطقة وقضاياها.
فخلال العام الحالي ذادت وتيرة تبادل الزيارات رفيعة المستوى بين الجانب المصري وجانب الناتو لتدشين برنامج الشراكة المُصرية مع الناتو Individually Tailored Partnership Program (ITPP)، الذي ينظم العلاقات بين الجانبين في المجالات ذات الاهتمام المشترك، لا سيما في مجالات بناء القدرات ونقل الخبرات، مكافحة الإرهاب والعبوات الناسفة والمرتجلة C-IED، بالإضافة إلى التعاون في مجال إزالة الألغام، بالإضافة للتعاون المشترك من خلال مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام CCCPA، وجهود بناء القدرات التي يضطلع بها المركز في إفريقيا، لا سيما في موضوعات تغير المناخ، باعتباره أحد مراكز التدريب والتعليم الشريكة لحلف الناتو Partnership Training and Education Centers PTEC.
أخيراً، نؤكد على وجود فرص مشتركة لتعزيز التعاون المصري مع حلف الناتو ، خاصة في المجالات الخاصة بمكافحة الإرهاب ، خاصة في مناطق الشمال الافريقي ومنطقة الساحل وأفريقيا جنوب الصحراء، كما يمكن الاستفادة من بعض المبادرات المطروحة لتطوير البنى الرقمية والأمن السيبراني والمبادرات الخاصة بحماية منشآت الطاقة، خاصة بعد أن تحولت مصر لمركز إقليمي للغاز في منطقة شرق المتوسط، على أن يتم كل ذلك ضمن محددات السياسة المصرية الواضحة بشأن التعاون مع كل الدول والقوى الفاعلة بالعالم والمنطقة، وعدم الإنضمام لتحالفات أمنية تساعد على الاستقطاب الاقليمي وتعرض أمن المنطقة للخطر، والاستفادة من كل الفرص الممكنة لتعظيم مصالح الدولة المصرية على كافة المستويات.
الخلاصة:
تؤكد القمة الخامسة والسبعون لدول حلف شمال الأطلسي باعتبارها قمة تاريخية على عدة حقائق ومؤشرات وهي :
- أن حلف شمال الأطلسي يسجل من خلال هذه القمة قدرته على البقاء والاستمرار من خلال تجديد مبادئه وأهدافه والقيم المشتركة بين أعضاءه، علاوة على قدرته على صياغة مفاهيم مشتركة للمهددات، تحقق اجماع نسبي بين الدول الأعضاء، وتخلق فرص أيضاً للتعاون الجماعي بعيداً عن المجال الأمني فيما يتعلق بالطاقة والتعاون التقني والمناخ وقضاي المرأة والسلام وغيرها.
- من الواضح أن الهاجس الأمني الخاص بمواجهة روسيا ( الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو من قبل) قد عاد للواجهة مرة أخرى بعد أكثر من ثلاث عقود من التواري خلف قضايا ومفاهيم ثانوية مثل مكافحة الإرهاب وغيرها، كما ووضعت العقيدة الجديدة للحلف أسسا ومبادئ جديدة وتوجهات لعمل الحلف، تتعلق بالعمل في مناطق أخرى استراتيجية تحدد قوتها الولايات المتحدة الأمريكية( بحر الصين الجنوبي والباسيفيك).
- نجح الناتو بالفعل بقيادة وتخطيط أمريكي خلال السنتين الأخيرتين في استعادة ثقة حلفائه الأوروبيين من خلال سرعة الاستجابة ونشر القوات للتعامل مع تداعيات حرب أوكرانيا، لكن لا يجب ألا نغفل أن هذه الاستجابة جاءت مقابل استنزاف قدرات الدول الحليفة وبعضها بالفعل بدأ يشعر بالتململ من هذا الأمر ويعبر عنه في الغرف المغلقة، خاصة وأن استخدام أراضي الدول الأعضاء داخل الناتو وتصعيد الأنفاق العسكري سيكون له عائد سلبي على اقتصادات بعض الدول الأوروبية، بجانب مخاطره على الأمن الأوروبي، خاصة للدول القرريبة من المجال الحيوي الروسي.
- منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، ومع توقعات بعدم حلها قريباً تتزايد مكانة دول شرق أوروبا ودول البلطيق بالنسبة للقيادة الأمريكية المهيمنة على الحلف، إلى جانب الدول المركزية في الحلف مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتركيا ، لذلك أصبحت دول مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا الشمالية وصربيا أكثر أهمية من أي وقت مضى بالنسبة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، و بدأ الغرب بقيادة الناتو يدرك أهمية دول غرب البلقان، التي تعتبر منطقة نفوذ ثقافي وحضاري بالنسبة للروس، وهو ما يعني أن روسيا ستتعرض في المستقبل القريب لتحركات استفزازية فـي منطقـة البلقان من جانب حلف الناتو قد تؤدي لإندلاع المزيد من التوترات الجديدة في المستقبل القريب.