اعداد/ الباحث محمد عادل عثمان
باحث في العلوم السياسية
تقديم:
أثار حادث تحطم مروحية الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” ووزير الخارجية “حسين أمير عبد اللهيان” ومسؤولين آخرين رفيعي المستوى، موجة من الترقب على الساحة العالمية. وبدء يظهر سؤالًا مباشرا حول من سيخلفه في رئاسة البلاد. كونه يمثل السلطة التنفيذية حيث جرت العادة في إيران أن رئيس الجمهورية يتم انتخابه في عملية انتخابية دقيقة كل أربع سنوات.
أحد الأسئلة التي أثارتها مقتل “رئيسي” هو طبيعة التداعيات الداخلية والإقليمية والدولية التي ستترتب على مقتله؟ خاصة في الوقت الذي يشهد فيه العالم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والدور الإيراني في دعم ما يطلق عليه مجموعات “محور المقاومة” في لبنان واليمن والعراق وسوريا لشن هجمات على إسرائيل، إضافة لمعركة أخرى قد لا تكون ظاهرة للسطح وغير مطروحة في الوقت الراهن وهي تتعلق بخلافة “خامنئي” في منصب المرشد الأعلى خاصة مع تقدمه في العمر.
وبينما لا تزال ملابسات الحادث قيد التحقيق، يطرح هذا الحدث المأساوي أسئلة هامة حول شكل الفترة الانتقالية الحالية وهل يمكن أن تطول ، ومرحلة ما بعد الانتخابات المبكرة وما ستفرزه من نتائج وتحديات على مستقبل إيران السياسي ومسارها الإقليمي والدولي.
أولًا: إدارة الأزمة:
لا شك أن وقوع هذا الحادث بهذا الشكل الفجائي، يجعلنا نركز على طريقة إدارة الأزمة من الجانب الإيراني، لأنها تعطي مؤشرات معينة ومفيدة في عملية التحليل الكلي للمعلومات وتقييم الموقف، وقد أدارت إيران هذه الأزمة على أكثر من مستوى، وذلك كما يلي:
المستوى السياسي . وقاده المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي بنفسه من خلال ظهوره بخطاب للشعب الإيراني عقب ساعات قليلة من الحادث، دعا فيها الشعب إلى عدم القلق على مستقبل البلاد ودعا جموع الشعب الإيراني للدعاء للرئيس ومرافقيه ( على أمل النجاة)، كما خرجت بعض التصريحات الرسمية المقتضبة التي تؤكد وقوع الحادث، دون أن يتم تأكيد الوصول لأي معلومات حقيقية، وربما احتاج النظام الإيراني لاستهلاك الوقت لأقصى وقت ممكن حتى يتمكن من ترتيب الأوضاع من الداخل والاستعداد للتعامل بثبات مع وقع الحدث وضخامته.
المستوى الإعلامي . ركز التلفزيون الرسمي الإيراني، على لقاءات مقتضبة مع وزراء في الحكومة وبعض مسئولي الهلال الأحمر الإيراني، وتركزت الرسالة الإعلامية في أن سوء الأحوال الجوية هو السبب المرجح للحادث، مع تأكيدها على صعوبات المنطقة التي سقطت فيها الطائرة ، من طبيعة وعورة وطقس ممطر منخفض الحرارة ومناطق للغابات المليئة بالفهود والحيوانات المفترسة، ما يوحي للمشاهد بتقبل أن فرص النجاة محدودة للغاية .
المستوى الأمني . وقادته فرق من الجيش الإيراني وقيادة الحرس الثوري وركزت على الدفع بفرق الإنقاذ المتنوعة والدفع بمسيرات لمناطق الحادث والاعتماد على العناصر المحلية من أبناء المنطقة من المدربين على تسلق الجبال والتعامل مع طبيعة المنطقة بشكل عام، كما أجري قادة الحرس عدة لقاءات في محافظة أذربيجان الشرقية وبالقرب من منطقة الحادث.
فرق الإنقاذ . واجهت فرق البحث والإنقاذ صعوبات هائلة في العثور على حطام المروحية، فقد حالت التضاريس الجبلية الوعرة المكسوة بالغابات الكثيفة، بالإضافة إلى سوء الأحوال الجوية، دون وصولهم بسهولة إلى موقع التحطم. ورغم إرسال إيران (16) فريق إنقاذ وطائرة مسيرة للبحث، إلا أنها تلقت أيضاً مساعدة من فرق إنقاذ دولية عرضت المساهمة في عمليات البحث من روسيا وتركيا. كما عبرت العديد من الدول عن تضامنها مع إيران في هذه المحنة حيث فعل الاتحاد الأوروبي خدمات الأقمار الصناعية للمساعدة في العثور على حطام المروحية.
بشكل عام، يمكن القول إن نقص الشفافية في التعامل مع هذا الحادث يعتبراً درساً مهماً من دروس إدارة مثل هذه الأزمات، حيث ساعد غياب البيانات الرسمية الدقيقة على انتشار العديد من الأخبار المتضاربة والمغلوطة والتي قادت الجمهور سواء داخل إيران أو خارجه إلى التفكير في أن الحادث ربما يكون مدبر كعملية اغتيال تقف ورائها قوى خارجية (الإشارة هنا لإسرائيل وعلاقاتها القوية بأذربيجان) أو ربما يقف ورائها قوى من داخل إيران هدفها التخلص من ابراهيم رئيسي باعتباره الشخص الأكثر حظاً لخلافة المرشد الحالي.
مع ذلك لابد أن نؤكد أن المؤسسات الإيرانية كانت يقظة وقادرة على التحرك وفق رؤية تخدم المصلحة العليا للبلاد، والتي تستوجب أحيانا إبقاء المعلومات في المناطق الرمادية، بما يمهد الشارع الإيراني لتقبل الأمر، وبما يعطي مجال من الوقت لترتيبات سياسية وأمنية مطلوبة في مثل هذه الظروف.
ثانيا: أبرز ملامح مرحلة رئيسي:
كان الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” شخصية محورية في الحكومة الإيرانية منذ انتخابه عام 2021م حيث شهدت فترته سيطرة للمحافظين واعتبرت فترة رئاسته تحول مغاير عن سياسة “حسن روحاني” نحو سياسات داخلية أكثر حزمًا، مما أدى إلى اضطرابات ومظاهرات احتجاجية على تردي الأوضاع الاقتصادية. أما من الناحية الإقليمية فقد عمل على التقارب مع دول الخليج العربي والحد من المشاحنات والخلافات بينهم خاصة تجاه المملكة العربية السعودية. ودوليًا، فقد شهت فترة رئاسته تشدد قوي تجاه الولايات المتحدة والغرب من جهة والمنظمة الدولية للطاقة الذرية من جهة أخرى فيما يتعلق بالموقف من تخصيب اليورانيوم بشأن برنامج إيران النووي.
وبالإضافة “لرئيسي” فإن وزير الخارجية ” أمير عبد اللهيان” الذي لقى حتفه في الحادث، لعب دورًا كبيرًا في الكثير من قضايا السياسة الخارجية لإيران خاصة في إطار العلاقات مع المملكة العربية السعودية إلى جانب دوره في المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة والغرب وبخاصة ملف إيران النووي حيث جعل منه حجر الزاوية في استراتيجية بلاده الدبلوماسية والعسكرية. لذلك، فإن لحادث مقتل الرئيس الإيراني ووزير خارجيته تداعيات عبر ثلاثة مستويات أساسية هما المستوى الداخلي والإقليمي والدولي.
1.التداعيات على الداخل الإيراني:
يشير الدستور الإيراني ( المادة 131) إلى أنه في حال فراغ منصب رئيس البلاد يتم تكوين مجلس انتقالي يتكون من رئيس البرلمان ورئيس السلطة القضائية والنائب الأول للرئيس والذي يجب أن ينظم انتخابات رئاسية في غضون (50) يوم، لذلك جرى التوافق على تعين” محمد مخبر” كرئيس مؤقت للبلاد ولكن هناك مخاوف من أن يؤدى مقتل “رئيسي” إلى اضطرابات داخلية، وبخاصة أن الشارع الإيراني كان ينظر “لرئيسي” على أنه ظل المرشد الأعلى وبالتالي فإن مقتله قد يخلق احتجاجات مطالبة بالتغيير. وبخاصة أن عملية انتخابه عام 2021م كانت قد شهدت عدد من الملاحظات منها ما يشار حول مساعدة مجلس صيانة الدستور المعين من قبل خامنئي لرئيسي للوصول للسلطة، بعد أن استبعد العديد من المرشحين الأخرين من الترشح مما مهد له ليصبح رئيسا في انتخابات منخفضة الاقبال.
أيضا فإنه من التداعيات الأخرى لمقتل “رئيسي” أنه قد يكون هناك صراع بين التيارات السياسية الإيرانية حول ترتيبات الانتخابات الرئاسية التي ستنعقد بعد انقضاء مدة المجلس الانتقالي الحاكم في البلاد إلى جانب ذلك التداعيات الأخرى الخاصة بمنصب المرشد الأعلى خاصة وأن ” رئيسي” كان من بين المرشحين لخلافة “خامنئي” بعد وفاته، مما يعني شغور منصب المرشد، ولكن يكثر الحديث في إيران حتى قبل وفاة رئيسي حول نجل المرشد الأعلى ” محبتي على خامنئي” البالغ من العمر (55) عام. والذي لا يجد قبولًا لدى الشارع الإيراني، رغم تمتعه بدعم من الحرس الثوري.
2.التداعيات الإقليمية:
لا تزال الرواية الإيرانية تتحدث حول أن تحطم المروحية كان حادثاً ناتجًا عن سوء الأحوال الجوية. لكن إذا تبين لاحقاً أن هناك أي دليل على أن الحادث وقع كعملية اغتيال مدبرة من الخارج، فقد يؤدي ذلك إلى تصعيد كبير وتوتر في المنطقة .
- التداعيات على الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة: من المتوقع ألا يؤثر مقتل” رئيسي ” على هذه الحرب والهجمات التي يشنها “حزب الله وجماعة الحوثي” على إسرائيل، وذلك لأن هذا يعد جزء أساسي من سياسة إيران في مواجهة إسرائيل بل على العكس في حال أن ثبت تورط الأخيرة في حادث التحطم، فإن هذه الفصائل سوف تكثف من ضرباتها.
- التداعيات على العلاقات الخليجية الإيرانية: اتسمت فترة ” رئيسي” بتحسن علاقات إيران مع دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، لذلك فإنه من المتوقع أن تستمر هذه العلاقات. لان ذلك ينصب في مصلحة الطرفين حتى مع الرئيس المؤقت الجديد. كما أنه من مصلحة إيران عدم فتح جبهات لخلافات مع قوى إقليمية أخرى. إلى جانب ذلك لن تتجه دول الخليج العربي لتغير سياسة عدم المواجهة مع إيران في ظل حالة التوترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. ولكن ربما تتجه إيران إذا حدثت احتجاجات شعبية ضد سياسات النظام بعد ” رئيسي” لمحاولة تصدير أزمات الداخل نحو خلق مناوشات مع دول الخليج في محاولة لكسب الصف الداخلي. وربما يكون ذلك من خلال الحرس الثوري الإيراني الذي قد يتجه نحو التأثير في السياسة الخارجية بعد” رئيسي”.
3.التداعيات الدولية:
من المتوقع أن تستغل القوى الغربية مقتل “رئيسي” في محاولة الضغط على الرئيس الجديد للبلاد للحد من تخصيب اليورانيوم. خاصة أن فترة ” رئيسي” كما سبقت الإشارة اتسمت باستمرار إيران في تخصيب اليورانيوم بشكل أكبر من أي وقت سابق وإلى مستويات عالية. ولذلك فإن تعيين “علي باقري “، النائب السياسي السابق بوزارة الخارجية والنائب السابق لأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، كوزير للخارجية المعروف بدوره في اتفاق إطلاق سراح السجناء المبرم مع الولايات المتحدة في 2023م، يعكس استمرار لموقف إيران في مفاوضتها الدولية، حيث كشفت تقارير أن هناك مباحثات تجرى خلف الأضواء بين إيران والغرب كان قد بدأ بها ” عبد اللهيان ” قبل وفاته بشأن وقف تصعيد الصراع الإقليمي ومستقبل برنامج إيران النووي لذلك سارعت في اختيار ” باقري” كامتداد لنهج عبد اللهيان في الحفاظ على ثوابت تلك المحادثات.
ثالثًا: معضلات الداخل:
معضلة خلافة المرشد. أعلن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “آية الله علي خامنئي” عن تولي ” محمد مخبر” الذي شغل منصب نائب أول لرئيسي قبل وفاته. وذلك بشكل مؤقت وفقًا لما ينص عليه الدستور الإيراني. ومع ذلك قد تكون خطط الخلافة طويلة المدى معقدة، خاصة وأن “رئيسي” كان منافسًا قويًا لخلافة المرشد الأعلى “آية الله علي خامنئي”. ومن بين المرشحين المحتملين الآخرين للرئاسة وربما حتى القيادة العليا، “مجتبى خامنئي”، نجل المرشد الأعلى، الذي يتمتع بنفوذ داخل الدوائر السياسية الإيرانية.
- إطالة أمد الفترة الانتقالية: ربما يدفع تعيين “محمد مخبر” كرئيس للبلاد بشكل مؤقت إلغاء إجراء انتخابات رئاسية سريعة في إيران خاصة أنه من الناحية النظرية يمكن للمرشد الاعلى أن يقرر أنه مع بقاء عام واحد فقط على الانتخابات الرئاسية المقبلة، بالإضافة إلى أن النظام في إيران لا يحظى بشعبية واسعة تتيح له إجراء انتخابات سريعة، وبالتالي فإن الإقدام على خطوة الانتخابات قد يؤدي إلى خروج احتجاجات شعبية غاضبة لذلك سيروج النظام أنه ربما لا تكون هناك حاجة لإجراء انتخابات سريعة، ويمكن “لمخبر” أو المجلس الانتقالي” الإعلان عن إنهاء ولاية” رئيسي” البالغة أربع سنوات وإجراء الانتخابات في الموعد المحدد لها في يونيو 2025، حيث يعد ” مخبر”، أحد المقربين من المرشد الأعلى، ويحتل مكانة بارزة في المشهد الاقتصادي الإيراني باعتباره القائد السابق لمنظمة “تنفيذ أمر الإمام الخميني” التي تتمتع بتكتل اقتصادي ونفوذ كبير في قطاعات الطاقة والاتصالات والخدمات المالية.
- إعادة ترتيب البيت الإيراني من الداخل: من المرجح أن تشهد فترة الـ (50) يوم التي حددها الدستور الإيراني للمجلس الانتقالي الذي يتولى إدارة البلاد العمل على الترتيب للمرحلة المقبلة للانتخابات. كما أنه من المتوقع عدم حدوث أي تغير في السياسة الإيرانية خاصة أن ” محمد مخبر” يشبه إلى حد كبير ” إبراهيم رئيسي” من حيث رؤيته السياسية بالإضافة إلى قدرته على التفاوض فقد كان عضوًا بارزًا في الفريق الإيراني الذي تفاوض مع روسيا حول صفقات الأسلحة الإيرانية لروسيا وذلك في أكتوبر 2022م. ولذلك قد يتجه المحافظين بإيران في هذه الفترة على محاولة البقاء في السلطة والتمهيد للانتخابات القادمة بما يخدم مصالحهم.
- صراع حول نائب منصب المرشد الأعلى “التحدي الأصعب”: يعني مقتل “رئيسي” أن نجل المرشد الأعلى ” مجبتي” سينظر إليه على أنه يملك طريقا واضحا لكي يخلف والده. ولكن هذا سيكون أيضًا تعيينًا محفوفًا بالمخاطر. بسبب الرفض الشعبي لمفهوم الحكم الموروث خاصة أن خامنئي يمثل امتداد للخميني. ولكن في نهاية الأمر فإن قرار اختيار المرشد الأعلى سيكون بيد ” مجلس خبراء القيادة” وعلى الرغم من أن نجل خامنئي يعتبر الاختيار المفضل لدى المجلس فإنه قد يتجهون في النهاية لاختيار نائب أخر لخامنئي خوفًا من الاحتجاجات التي قد تنشأ.
الخلاصة:
ألقى رحيل الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” بظلاله على مستقبل إيران، تاركاً وراءه فراغًا سياسيًا ينذر بصراعات على السلطة واحتمال للاضطرابات .فمع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، تشير الدلائل إلى احتمال حدوث صراع بين القوى السياسية الإيرانية المحافظة والمعتدلة ، حتى داخل التيارات نفسها، ويرجح أن تكون صراعات الأجنحة داخل التيار المحافظ هي الأبرز خلال الفترة المقبلة.
من المبكر حسم مسار الأحداث بشكل دقيق، فالمستقبل مرهون بتطورات الأيام القادمة، وقرارات السياسيين داخل إيران، ومدى قدرة النظام على احتواء الأزمات الداخلية والخارجية. ومع ذلك، فإن الحادث يمثل نقطة تحول رئيسية في تاريخ إيران الحديث، وسيشكل تحدياً جديد للنظام الإيراني ولحالة التوازن الحالية سواء على مستوى السياسي ( التيارات السياسية) أو الأمني ( الجيش – الحرس)، كما يسلط الضوء على نقاط الضعف في القدرات اللوجستية لإيران، وتحديدا قطاع الطيران، الذي تضرر كثيراً من سياسة العقوبات الغربية، وربما يكون عنصر ضاغط مستقبلاً في اتجاه استعداد إيران لتقديم تنازلات سياسية في مقابل رفع العقوبات عنها.