إعداد/ أحمد جمال الصياد
باحث في العلوم السياسية
إشرف وتحرير/ د. أكرم حسام
رئيس مركز السلام للدراسات الاستراتيجية
تقديم:
بينما تتركز الأنظار على الأبعاد الإقليمية لحرب لبنان وربطها بمسار حرب غزة من ناحية وبالتوتر الإيراني الإسرائيلي من ناحية أخرى، هناك بُعد أخر لا يقل أهمية – ربما لم تظهر ملامحه بشكل كامل بعد- لكنه بالتأكيد يتفاعل مع هذه الحرب، وهو البعد الخاص بالقراءة الداخلية لهذه الحرب من منظور الشعب اللبناني وأحزابه والقوى السياسية الفاعلة به.
تكتسب زاوية التحليل هذه أهميتها من الهدف الاستراتيجي الذي أعلنت عنه إسرائيل وهو تغيير ميزان القوة في الشمال – حال تمكنت من تحقيقه – من خلال تكسير قدرات الحزب العسكرية وضرب الهياكل المؤسسية للحزب وبنيته التحتية من مقرات ومنظمات خدمية وتعليمية وصحية، وصولاً لنزع سلاح حزب الله، لذلك فإن تبعات هذه العملية – وحال تحققت أيضاً ستتجاوز مسألة إجبار الحزب على الإنسحاب شمال نهر الليطاني، فعلى ما يبدو أن التركيبة المناطقية الديمغرافية للبنان ستتغير وأن حدود وتوازنات جديدة سترسم بالنار، من خلال إجبار السكان على إخلاء بعض المناطق والنزوح منها تمهيداً للسيطرة عليها وإعلانها مناطق مغلقة أو مناطق عسكرية عازلة.
كما أن إضعاف حزب الله داخلياً كقوة سياسية وازنة في المعادلة الداخلية، سيترتب عليه أيضاً إعادة رسم خريطة التوازنات الداخلية بين القوى والكتل المختلفة على الساحة اللبنانية، كما لا ننسى متغير مهم قد تظهر نتائجه وفق تطور هذه الحرب وما ستوقعه من دمار للبنان وهو الرأى العام اللبناني وموقفه من الحرب ومدى تقبله لنتائجها ومن المسؤل عنها. وفي هذا الإطار يسعى مركز السلام للدراسات الاستراتيجية لتقديم تحليل لتداعيات التصعيد الإسرائيلي المستمر على الداخل اللبناني، وذلك في محاولة لوضع إطار يمكن من خلاله فهم تأثير هذه الديناميكيات على استقرار لبنان الداخلي خلال الفترة المقبلة، ووفق السناريوهات التي ستتوقف عندها هذه الحرب.
التأكل التدريجي للقوة السياسية لحزب الله في المسرح اللبناني قبل الحرب:
مرّ حزب الله كقوة سياسية لبنانية بثلاثة مراحل أساسية ، تكشف لنا خلفيات الحزب ومصادر قوته وبالتالي تساعدنا على إدراك طبيعة التغيرات المحتملة القادمة – حال نجحت إسرائيل في تنفيذ الهدف الاستراتيجي من حربها الحالية ضد لبنان والحزب بالأساس- حيث بدأ الحزب في المرحلة الأولى كحركة مقاومة مسلحة، ركزت على مواجهة إسرائيل والفصائل ( الكتائب المحلية المتحالفة معها) وامتدت هذه المرحلة من عام 1982 وصولاً الى 1990. لم يُظهر الحزب طابع سياسي أو أداء ومشاركة سياسية خلال هذه الفترة إلا في لمحات محدودة.
أما المرحلة الثانية فبدأت بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 وأمتدت إلى عام 2005 وهنا اتجه الحزب للدخول لمعترك السياسة الداخلية اللبنانية ( دخول مجلس النواب عام 1992 ، واتصالات بطبيعة الحال مع القوى السياسية في حينه)، مع الاستمرار في تطوير البنية التنظيمية والخدمية للحزب في مناطق سيطرته ونفوذه.
ثم جاءت المرحلة الثالثة: التي امتدت من فترة ما بعد حرب 2006 وحتى العام الحالي (2024م ) وهي المرحلة التي تعمق فيها النفوذ المحلي للحزب بصورة كبيرة، وتحول من مجرد قوة سياسية في الساحة اللبنانية لقوة متحكمة ووازنة في المشهد الداخلي وفي القرار السياسي الخارجي أيضاً، خاصة في ملف إدارة العلاقات مع إسرائيل ( ترسيم الحدود البرية والبحرية – التحكم في وتيرة الصراع مع إسرائيل وقرار التصعيد أو التهدئة بحسابات داخلية / إقليمية ، جاءت أغلبها بمعزل عن الحكومة اللبنانية القائمة). وخلال هذه الفترة استفاد الحزب من مرحلة الهدوء النسبي على الجبهة الجنوبية مع إسرائيل، وعمل لتقوية قدراته العسكرية ( تسليحاً- تدريباً – تجنيداً) كما استفاد الحزب من بعض الأحداث الداخلية مثل اغتيال الرئيس رفيق الحريري والفراغ الذي تركه ، واستفاد كذلك من تجربة الصراع في سوريا ، والتي أصقلت الخبرة القتالية للحزب.
لكن من الضروي الإنتباه إلى أن بعض الأحداث أضرت بصورة الحزب في الداخل اللبناني وكذلك خارج لبنان، بدء من موقفه من انتفاضة 14 مارس ( المعروفة انتفاضة 14 آزار في 2005) ، ثم موقفه من الصراع الداخلي في سوريا والذي وضح فيه الإنسجام مع توجهات إقليمية معينة، لم تمليها محددات السياسة الداخلية اللبنانية التي طالمت رفعت شعار ” النآي بالنفس”. كما كان لموقف الحزب من تحركات الشارع اللبناني أكثر من مرة، سواء في 2019 أوعقب حادثة مرفآ بيروت دورها في إثارة السخط الشعبي ضد الحزب ، خاصة لدى القوى من خارج التيار الشيعي. ولا ننسى بالتأكيد تحقيقات اغتيال رفيق الحريري والتي وجهت فيها أصابع الإتهام للحزب وعناصره، مما أثار بلا شك مواقف ناقمة على الحزب خاصة بين أوساط التيار السني.
أما من الناحية المجتمعية والثقافية فقد عمل حزب الله على التخلص من أشكال التعبير الفني والثقافة واللباس التي يعتمدها شيعة لبنان بصورة تقليدية، بينما فرضوا معايير اجتماعية أكثر تحفظاً ، وهي أعراف يرفضها الكثيرون في لبنان. كما ظلت مشكلة سلاح الحزب ومسألة احتكار الدولة اللبنانية من خلال الجيش اللبناني لحق استخدام القوة وحمل السلاح مسألة قائمة ومعضلة من معاضل السياسة اللبنانية الداخلية، بسبب رفض الحزب لهذا الأمر وإصراره على الإحتفاظ بقوته العسكرية بعيداً عن الدولة اللبنانية.
في 7 مايو من العام 2008، وتحت ذريعة قرارات حكومية “تشكل خطراً على المقاومة” لها علاقة بشبكة اتصالات موازية للدولة، احتل حزب الله وحلفاؤه بقوة السلاح بيروت وحاولوا أن يتمددوا إلى جبل لبنان وتحديداً مناطق نفوذ جنبلاط، لتتدخل دول عدة وينتهي “7 مايو” إلى اتفاق في العاصمة القطرية الدوحة، كرّس هيمنة الحزب على السياسة اللبنانية. لذلك ومنذ ذلك التاريخ لعب حزب الله دوراً مهما على المستوى الداخلي في تحويل النظام البرلماني الديمقراطي إلى نظام توافقي عبر اتفاقية الدوحة لعام 2008. ومن خلال ابتكار الحزب لمصطلح “الثلث المعطّل” الذي تمكّن من التحكم بالقرارات السياسية الرئيسية، والذي ساهم في حالة الفراغ الرئاسي في لبنان أكثر من مرة وصولا للوقت الحالي الذي يواجه فيه لبنان أزمة كبيرة بدون رئاسة للدولة.
كانت انتخابات مايو 2022م كاشفة لتراجع شعبية الحزب حتى في بعض المناطق التي كانت تصوت له في الاستحقاقات السابقة، حيث فشل الحزب في الحصول على الأكثرية النيابية التي كانت له في المجلس النيابي السابق الذي انتخب عام 2018. مع ذلك تمكن عبر معادلة الثلث المعطل من تعطيل تشكيل الحكومة والفراغ الرئاسي الحالي.
هذا التراجع استند لعوامل كثيرة كما أسلفنا، زادت عليها نقمة قطاعات عريضة من الشباب اللبناني والأسر اللبنانية من انهيار لبنان اقتصادياً ومالياً، والضائقة الحياتية غير المسبوقة، والتي وصلت تبعاتها للمناطق التي يسيطر عليها الحزب نفسه ولم يتمكن من معالجتها.
وتشير إحدى استطلاعات الرأى التي أجراها الباروميتر العربي إلى أن شعبية حزب الله في تراجع ، فنسبة 30% من اللبنانيين لديهم ثقة في حزب الله، بينما نسبة 55% من اللبنانيين لا يثقون في حزب الله، ومن الملاحظ أن حزب الله يتمتع بثقة الشيعة اللبنانيين، حيث أن 85% من شيعة لبنان يؤيدون الحزب، بينما يقل مستوى الثقة بين الطوائف الأخرى، حيث أن 6% من المسيحيين يثقون في حزب الله، وعن السنة والدروز فنسبة 9% منهم تدعم حزب الله وتثق به.
المواقف الداخلية من استهداف إسرائيل لحزب الله:
تفاعل حزب الله مع حرب غزة من يومها الأول، ضمن رؤية اقليمية لفكرة ” وحدة الساحات” حيث أعلن الحزب عن فتح جبهة إسناد لغزة وذلك بعد عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023م وظل خلال عام تقريبا يتبادل القصف مع القوات الإسرائيلية، ضمن معادلة اشتباك محكومة بحدود معينة، مع ذلك وبرغم تركيز إسرائيل على جبهة غزة ، فقد أدى هذا القصف المتبادل بين إسرائيل والحزب لنزوح ما يقارب 60 ألف من المستوطنين الإسرائيليين، بالإضافة لما يقارب 110 ألف مواطن لبناني. ومع نقل إسرائيل ثقل المعركة للجبهة الشمالية وتجميد نسبي لجبهة غزة، أصبحت لبنان في مرمى العاصفة، من غارات جوية عنيفة، ودمار واسع قابل للإتساع في الأيام والأسابيع المقبلة، ومن تهجير ونزوح لما يقارب مليون لبناني من منازلهم حسب التقديرات اللبنانية الرسمية. مما نتج عنه نزوح أعداد كبيرة من اللبنانيين من المناطق الجنوبية بشكل خاص إلى محافظة جبل لبنان، ومحافظة البقاع، ومحافظة بيروت، وصيدا، والتوجه نحو الشمال هربا من الغارات الجوية الصهيونية المتواصلة.
وجديرا بالذكر أن بعض المناطق التي توجه لها النازحون مثل جبل لبنان والبقاع والعاصمة بيروت، تعرضت لقصف إسرائيلي متكرر، وهو ما يعني أن إسرائيل لا تستهدف الجنوب اللبناني موقع تمركز حزب الله، وإنما توسع من بنك أهدافها لتشمل أغلب مناطق لبنان. وحسب ( نجيب ميقاتي ) رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني، أن ” هناك 778 مركز إيواء تضم حتى الآن 118 ألف شخص، لكن المقدر أن عدد النازحين أكبر بكثير من هذا العدد وقد يصل لحد المليون شخص” فلبنان تشهد بذلك أحد أكبر موجات النزوح في تاريخها، وذلك وسط أزمات عديدة ومركبة تعاني منها لبنان سواء على المستوى الاقتصادي، أو السياسي، لتواجه بيروت أزمة جديدة لا تقل خطورة عن مثيلاتها من أزمات، فلبنان المحاصرة بالأزمات أصحبت أمام أزمة إنسانية لتوفير الاحتياجات الطبية والغذائية في محاولة استيعاب هذا العدد غير المسبوق من النازحين.
وفي إطار رصد المواقف الداخلية من حرب إسرائيل وحزب الله نسجل الملاحظات التالية:
- مواقف التيار الشيعي . لا يزال حزب الله يحظى بتأييد الأوساط الشيعية اللبنانية، فحركة أمل ( أفواج المقاومة اللبنانية ) التي يترأسها نبيه بري رئيس مجلس النواب كذلك، تقدم الدعم السياسي والعسكري لحزب الله، كما أن نبيه بري كان يلعب دور أساسي في التعبير عن موقف حزب الله والتسويق له في المباحثات مع الوفود الأجنبية، وبالأخص مع مبعوث واشنطن الخاص ( آموس هوكشتاين ) والذي كان في انتقاله الدائم بين لبنان وإسرائيل، كان يتواصل ويلتقي بنبيه بري بشكل دائم.
- مواقف الدروز والسنة، لم تتشكل بصورة واضحة بعد ، فوليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي قام بتأييد حزب الله وخاصة بعد أحداث مجدل الشمس، كما أعلن تأييده الواضح لمقاومة إسرائيل، كما قامت قوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية في لبنان، بالمشاركة في أعمال المقاومة عند إعلان حزب الله عن جبهة الإسناد، وهو ما يعد موقف من تيار سني يؤيد حزب الله في مقاومته لإسرائيل، والجدير بالذكر أن الدعم السني والدرزي السابقين كان أمر يصعب على حزب الله الحصول عليه قبل مواجهة إسرائيل بشكل فعلي.
- التيار المسيحي. بملاحظة موقف التيار المسيحي نجد أن هذا التيار به نوع من الانقسام فنجد أن أحزاب مثل حزب القوات اللبنانية بزعامة ( شارل جبور ) والذي أكد على موقفه العدائي ضد إسرائيل ولكنه يتخذ موقف معارض لسياسات حزب الله، فحسب تصريح لزعيم حزب القوات قال أنه يعارض دخول حزب الله حرب ضد تل أبيب، فهي حرب ” لا يمكن ضبطها بمساحات وقواعد اشتباك، والأمور تنزلق للهاوية” ، وحزب الكتائب أيضا يتخذ موقف معارض من سياسات حزب الله كحال حزب القوات، كما نجد أيضاً أحزاب مؤيدة نسبيا لحزب الله مثل حزب التيار الوطني الحر الذي يتزعمه ( جبران باسيل ) وأيضا تيار المردة الذي يتزعمه ( سليمان فرنجيه ). ويتضح أن التيار المسيحي به انقسام حول خيارات حزب الله وسياساته وذلك بين مؤيد ومعارض، وجديرا بالذكر أن الشارع المسيحي يرفض الانخراط بحرب الإسناد لأنها تمثل تهديد للبنان، وهو الرأي الذي يتماشى مع رأي نائب البرلمان اللبناني ( واضح الصادق ) الذي صرح بأن ” معظم الشعب ضد حرب واسعة مع إسرائيل، لأن لبنان غير مجهزة أساسا” كما يرى أن جبهة الإسناد لم تحقق هدفها في تخفيف الضغط على غزة، كما صرح بأن اغتيال القيادي بحزب الله ( فؤاد شكر ) انتهاك للسيادة اللبنانية ” لكن حزب الله يجر لبنان لذلك “.
مما سبق يتضح أن الحرب مع إسرائيل جعلت حزب الله يخسر تأييد العديد من مكونات المشهد السياسي في لبنان، كما أن خيار الحرب الشاملة مع إسرائيل لا يحظى بتأييد على المستوى الشعبي نفسه.
تفاعلات الحرب والقضايا السياسية المطروحة على الساحة اللبنانية:
قضية الفراغ الرئاسي:
في ظل استمرار القصف الجوي الإسرائيلي للبنان ، طفت على السطح مشكلة أن لبنان بدون رئيس في هذه المرحلة الحرجة في تاريخها، وظهر توجه تمثل في أكثر من دعوة لضرورة انتخاب رئيس لبناني يقود البلاد في هذه المرحلة الخطيرة، ومنها تجديد رئيس حزب القوات اللبنانية ( سمير جعجع ) مطلبه ودعوته بضرورة انتخاب رئيس للبنان في هذا التوقيت، بالإضافة لتصريح المطران ( إلياس عودة ) بأن ” هل يجوز أن يبقى البلد بلا رأس في هذا الوقت؟ هل يجوز عدم انتخاب رئيس لأسباب كيدية أو مصلحية والبلد يمر في أحرج الظروف، وهو بحاجة لمن يصونه، ويمثله، ويدافع عن مصالحه، ويحمى حقوقه وأبناءه وأرضه ومستقبله؟”.
وبالرغم من أن أهمية هذا التوجه، وضرورة أن يكون للبنان رئيسا يعمل على حمايته وتحقيق مصالحه، ومصالح الشعب اللبناني، إلا أنه من العسير في ظل هذه الظروف عقد انتخابات لاختيار رئيس يقود البلاد، وخاصة مع الاجتياح البري الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وإن تم هذا الأمر فهو سيحتاج بالتأكيد توافق كبير بين محددات ومكونات المشهد السياسي اللبناني وسيكون الأمر أشبه بالتوافق المباشر بين الكتل السياسية في هذه المرحلة.
فالتوقعات تشير أن الضربات التي تلقاها حزب الله، مع مقتل عدة قادة رئيسيين في الحزب وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله، أسهمت بشكل كبير في جعل الحزب يصاب بحالة من الضعف، كما تشير هذه الضربات على الاختراق الأمني والاستخباراتي الذي يتعرض له الحزب، وهو الأمر الذي يؤكد على حالة الضعف سابقة الذكر، وحسب موقع ( أكسيوس ) الأمريكي فإن إدارة بايدن تريد استغلال حالة الضعف التي أصابت حزب الله لتقليص نفوذ الحزب السياسي في لبنان، والعمل على انتخاب رئيس جديد لا يكون موالي للتيار الشيعي في لبنان، وحسب الموقع السابق فإن التوقعات تشير إلى جوزيف عون كأحد أبرز الأسماء التي تحظى بدعم أمريكي وفرنسي، وذلك لشغل منصب الرئيس في لبنان، وحسب تصريحات من ( آموس هوكشتاين ) المبعوث الأمريكي الخاص إلى لبنان، أن الأولوية لملئ حالة الفراغ الرئاسي في لبنان، وضرورة انتخاب رئيس جديد، وفي لقاء بين وزير الخارجية اللبناني ( عبدالله بوحبيب ) مع ( باربرا ليف ) مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأدنى، صرحت ليف أن الوضع في لبنان يجعل ملف انتخاب رئيس لبناني جديد أمر حتمي وضروري. كذلك صرح ( نجيب ميقاتي ) رئيس حكومة تصريف الأعمال بأن الوضع اللبناني يحتم ضرورة انتخاب رئيس جديد، يكون ممثل لكل اللبنانيين، كما قال بأن ” النقطة الأساسية هي انتخاب رئيس لا يتحالف مع فريق ضد آخر “.
محاولات تعويم حزب الله أو البحث عن البديل المُكافىء:
نشير هنا للزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني للبنان قبل أيام قليلة، والتي جاءت تحت عنوان نصرة ودعم لبنان، لكنها في الحقيقة تطرقت لمسألة ترتيبات البيت الداخلي في لبنان، حيث تراقب إيران الموقف الداخلي في لبنان بعناية، وتدرك أن الحزب بعد هذه الحرب لن يكون كما كان قبلها، لذلك تحركت مبكراً لإجهاض أي محاولات لتغيير المعادلة السياسية في غير صالحها، إما بتثبيت حزب الله أو بالبحث عن بدائل تضمن من خلالها بقاء النفوذ والسيطرة داخل لبنان.
كما تراقب إيران ومعها مكونات التيار الشيعي ردود الأفعال على الحرب شكل عام وخاصة بالنسبة لعملية اغتيال الأمين العام لحزب الله ( حسن نصر الله ) خاصة من خصوم الحزب التقليدين، حيث صرح (سعد الحريري ) بأن ” اختلفنا كثيرا مع الراحل وحزبه والتقينا قليلا لكن كان لبنان خيمة للجميع، ولابد أن يبقى فوق الجميع، فوق الأحزاب والطوائف والمصالح” . كما صرح ( نجيب ميقاتي ) رئيس الحكومة اللبنانية الحالي بأن ” يجب توحيد الصفوف لردع العدوان الإسرائيلي” وأضاف أن ” الخطر يهدد لبنان، ولا يميز بين طائفة وأخرى، أو فريق وآخر” كما وصف ( بشارة بطرس الراعي) بطريرك الموارنة، وأكبر رجال الدين المسيحي في لبنان بأن ” مقتل نصر الله ” جرح قلوب الشعب اللبناني ” والجدير بالذكر أن الراعي سبق وأن وجه انتقادات عديدة لنصر الله وحزبه.
وضع المؤسسة العسكرية ودورها في المرحلة الحالية:
أثار العدوان الإسرائيلي على لبنان، بحجة تهديد حزب الله لمناطقه الشمالية، مسألة استعادة سيطرة الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية مع إسرائيل مع تطبيق القرار 1701 ، وقد صرح رئيس الحكومة اللبنانية بالفعل أن الجيش اللبناني مستعد للقيام بهذا الدور. ورغم عدم صدور تصريحات مضادة من حزب الله أو القوى السياسية القريبة منه على هذا الطرح، الذي يعني عملياً تقليص نفوذ الحزب العسكري في مناطق الجنوب وسحب أحد أهم الذرائع التي يتمسك بها لإحتفاظه بالسلاح ، إلا أن تطبيق هذا الحل – حال قبلت به إسرائيل ضمن تسوية سياسة معينة – سيكون له تأثيرات مستقبلية على نفوذ الحزب، خاصة حال التزمت لبنان كدولة بوجود منطقة عازلة جنوب نهر الليطاني خالية من الوجود المسلح لحزب الله.
ولا شك أن حصار تواجد حزب الله في مناطق شمال نهر الليطاني – حال نجحت إسرائيل في فرض ذلك بالقوة أو عبر تسوية- قد يخلق تبعات داخلية من شأنها إحتمالية توجيه سلاح الحزب للداخل اللبناني، ما يعني العودة لمربع الاقتتال الأهلي الذي تركته لبنان خلفها قبل عقدين ونصف تقريباً. فالحزب وبفرض خروجه منكسراً من هذه الحرب سيعمل على الحفاظ على المكتسبات التي حققها على المستوى السياسي اللبناني، بينما سيواجه بتحركات القوى المضادة للحزب التي ستعمل على استغلال ترنح الحزب لإعادة ترتيب المعادلة الداخلية على أسس جديدة. ويبقى موقف التيار الشيعي حاسماً في هذا الأمر خاصة موقف الرئيس نبيه بري بما له من ثقل سياسي معروف. وبالتأكيد الرؤية الإيرانية لمثل هذه السيناريوهات المحتملة.
لذلك يعتقد أن المرحلة المقبلة سيكون للجيش اللبناني دور أكبر فيها، لضبط الأوضاع، لذلك هناك حرص من القوى السياسية المختلفة على استقرار المؤسسة العسكرية في لبنان، وضمن هذا السياق هناك قضية قائد الجيش لبنان العماد ” جوزيف عون” الذي من المقرر أن تنتهي مدة توليه لمنصب قائد الجيش اللبناني، في يناير 2025م، ويخشى أنه إذا لم يتم التوصل لحل مناسب لهذه المعضلة، من الممكن أن يصبح منصب قائد الجيش شاغرا، لتواجه لبنان حالة من الفراغ الرئاسي، وأخرى مماثلة في قيادة الجيش، مما يزيد من خطر التهديدات الأمنية على لبنان، خاصة في مثل هذه الظروف الدقيقة.
هناك حلول كثيرة يجري التفكير حولها حول قضية قائد الجيش حيث تشير المادة 49 من الدستور اللبناني إلى أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو من يعين قائد الجيش، وينسق معه الأوضاع العسكرية الخاصة بلبنان، وهو حل متعذر في ظل حالة الفراغ الرئاسي التي تعاني منها لبنان حاليا، وإذا تم انتخاب رئيس جديد قبل يناير 2025م وهو المدة التي تنتهي معها قيادة ( جوزيف عون ) كقائد للجيش اللبناني، يمكن حينها تعيين قائد جديد للجيش من قبل رئيس الجمهورية الجديد. وبالتالي من الحلول المقترحة التمديد لقائد الجيش الحالي ( جوزيف عون )، حيث سبق وأن تم تقديم مقترح قانون من كتلة ( اللقاء الديمقراطي ) برئاسة ( تيمور جنبلاط ) لتمديد سن التقاعد لموظفي القطاع العام لمدة سنتين إضافيتين، وحسب عضو كتلة اللقاء الديمقراطي، النائب ( بلال عبدالله ) أن الكتلة تقدمت بمقترح قانون يشمل التمديد لجميع الضباط والقادة العسكريين، ويشمل أيضا الموظفين المدنيين، وصرح بلال عبدالله بأن ” همنا الأول والأخير استقرار المؤسسة العسكرية في ظل عدم تثبيت مرسوم تعيين رئيس الأركان، وثبات دور الأجهزة الأمنية في أداء مهامها في هذه الظروف الصعبة، وذلك انطلاقا من حرصنا على استقرار البلد بغض النظر عن الحسابات الشخصية لدى البعض” فهذا المقترح هو من أكثر الحلول قابلية للنقاش، وفي حال إقراره سيتم التمديد لقائد الجيش الحالي في منصبه لمدة إضافية، وهو ما يعد خروجا في من هذه الأزمة وحفاظا على وحدة المؤسسة العسكرية اللبنانية، وذلك في ظل استمرار حالة الفراغ الرئاسي التي تعاني منها لبنان.
تشير التوقعات أن أحد الحلول المطروحة هي تعيين رئيس الأركان ( حسان عودة ) كقائد للجيش وذلك من قبل وزير الدفاع اللبناني بطلب من ( جبران باسيل ) رئيس التيار الوطني الحر، وهذا الأمر يعد خسارة للتيار المسيحي لمنصب قائد الجيش، بالإضافة أيضا لخسارته منصب حاكم مصرف لبنان، مما قد يجعل باسيل يميل لحل التجديد لجوزيف عون حتى لا يخسر التيار المسيحي منصب قائد الجيش، ولكن حسب بعض التصريحات فإن التيار الوطني لديه موقف مبدئي يتصل بانتظام عمل المؤسسات، وأن مؤسسة الجيش لا تقف عند شخص واحد.
السيناريوهات المحتملة :
السيناريو الأول: بقاء المعادلة السياسية الداخلية في لبنان دون تغيير. بمعنى أن يحتفظ حزب الله بوزنه السياسي الحالي دون تغيير، ويتوقف ذلك على نجاح الحزب في الخروج من هذه الحرب بأقل الخسائر الممكنة، وأن يتمكن من استعادة زمام الحركة في مواجة الجيش الإسرائيلي ويتمكن من صد أي توغل بري إسرائيل في العمق اللبناني، بما يمكنه من البقاء في مواقعه الحالية، وإعادة تثبيت مفهوم المقاومة كمفهوم سياسي مركزي للحزب، بمعنى تكرار لنموذج حرب 2006م . يتوقف نجاح هذا السيناريو بالأساس على مستوى الدعم الإيراني الذي سيقدم للحزب من أجل الصمود وإدارة معركة استنزاف طويلة، مع إسناد الحزب سياسياً من الناحية الأخرى لإحباط أي محاولات من القوى السياسية الأخرى لإستغلال الموقف لصالحها أو إجراء ترتيبيات سياسية وأمنية معينة يكون من شأنها الإضرار بوضع الحزب الداخلي ( مسألة الشغور الرئاسي – مسألة استلام الجيش اللبناني للحدود مع إسرائيل وغيرها).
السيناريو الثاني: تغيرات محدودة في المعادلة الداخلية. بمعنى أن تقود الحرب بالفعل لإضعاف قوة حزب الله السياسية والعسكرية ( تجريف هيكل القيادة السياسية للحزب بعد اغتيال زعامته التاريخية وقادة الصف الأول) وإضعاف مؤقت لقدراته العسكرية، ما سيكون له تأثير محدود على دوره الداخلي في أي استحقاقات انتخابية قادمة في لبنان، خاصة مع وجود رأى عام لبناني معارض للحرب وقد يحمل حزب الله مسئولية الدمار الذي تعرض له لبنان وازمات النزوح وغيرها. دون أن تنجح إسرائيل في تغيير توازن القوة بالكامل مع الحزب ونزع سلاحه كما تقول. هذا السيناريو يمكن أن يدعمه جهود دولية وعربية وإقليمية لفرض تسوية معينة يتراجع بها الحزب أو يتنازل عن بعض مواقفه، في مقابل تجنيب لبنان ويلات حرب مدمرة.
السيناريو الثالث. تغيرات كبيرة في المعادلة السياسية الداخلية. وهذا سيناريو مفتوح ويحتمل أكثر من تصور ، منها نجاح إسرائيل في الوصول بالإوضاع في لبنان وخاصة مع حزب الله لنفس ما وصلت إليه مع حركة حماس في غزة ( أي تقويض كبير وواضح للبنية السياسية والعسكرية) ، مع الضغط على الداخل اللبناني واستغلال التناقضات السياسية والمذهبية والطائفية لتشكيل رأى عام يدعم الطرح الخاص بأن مشكلة لبنان هي بقاء حزب الله واحتفاظه بالسلاح ومشاركته في القرار السياسي للدولة. سيظل موقف إيران حاسماً أيضاً في هذا السيناريو، وقد يكون مصير الحزب نفسه مربوط بمصير المواجهة بين إسرائيل وإيران نفسها حال تحولت لحرب مباشرة أو حال تمكن الجانبين من الوصول لصيغ تفاهمات حول المعادلة الجديدة للتوازن الاقليمي في المنطقة، وربما هذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة بالأساس.
السيناريو الأكثر احتمالاً: نعتقد أن السيناريو الثاني هو الأقرب احتمالاً فالحزب تمكن عبر أربعة عقود تقريباً من بناء قوة سياسية وازنة على الساحة اللبنانية ومراكمة قوة عسكرية ليست بسيطة، ولديه من خبرات القتال السابقة مع إسرائيل وكذلك ما اكتسبه من خبرات على الساحة السورية ما يمكنه من التعامل مع العدوان الإسرائيلي الحالي، والمراهنة على عنصر الوقت بالدخول في معركة استنزاف طويلة وممتدة ، يستغل فيها عناصر الحزب عامل الأرض الذي يلعب لصالحهم في ساحة القتال، والذي يجمع تضاريس جغرافية وعرة ومناطق أحراش ومباني سكنية تساهم في إنجاح أساليب حرب العصابات ( بعكس مسرح عمليات غزة المفتوح تقريبا). كما لا يرجح أن تتخلى إيران عن الحزب ، أو تتركه فريسة سهلة في يد إسرائيل، بعد أن استثمرت عقود للوصول للبنان وبناء قوة المقاومة هناك، كما تعلم إيران أن سقوط حزب الله يعني أن باقي قوى المقاومة ستتداعى تباعاً.
لذلك قد يخرج الحزب منتصراً من هذه الحرب، لكنه لن يكون بنفس الوضع الذي كان عليه في 2006م، فحجم الجهد العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي في هذه الحرب غير مسبوق، والأهداف المعلنة كبيرة للغاية وتتحدث عن نزع سلاح الحزب، وهناك دعم أمريكي غير مسبوق أيضاً. ولهذا قد يخرج الحزب منتصراً من الناحية السيساية لكنه سيكون منهك القوى تماماً وسيكون للحرب تبعات على كامل لبنان ومواقف الرأى العام اللبناني قد تمتد للبيئة الحاضنة للحزب نفسها.
الخلاصة.
يتضح أن التصعيد الإسرائيلي المستمر، سيكون له تداعيات على الداخل اللبناني، فمن شأن هذا التصعيد أن يزيد من أزمات لبنان بشكل خاص، ويعمق من جراحه التي لم تندمل عبر السنوات الماضية سواء كانت أزمات معيشية أو أزمات إقتصادية ، بل سيكون الأهم هو ما قد يترتب على هذه الحرب من تبعات على التوازنات الداخلية في لبنان ومسألة الاستقرار بشكل عام . لذلك لم يكن مستغرباً مناداة البعض من داخل لبنان بإنهاء اتفاق الطائف والبحث عن اتفاق جديد يلائم المرحلة الحالية. وهو الأمر الذي قد يضع لبنان من الداخل في مرمى العاصفة ويجعل مستقبلها مرهوناً بمواقف ومتغيرات كثيرة، قد لا يحتمل اللبنانيون تبعاتها .
إن الرهان على استراتيجيات إدارة الصراع السابقة ومنها استراتيجية “تدوير الزوايا” – مصطلح يمتلك حقوق الملكية الفكرية له نبيه برى زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب – قد لا يجدي في المرحلة القادمة، وتدوير الزوايا هي إحدى أدوات الساسه اللبنانيون يستخدمونها عند تعقد المواقف السياسية ( تشكيل حكومة جديدة – إسقاط حكومة – مشكلة من المشكلات المستمرة والمتكررة فى لبنان). فلبنان بالفعل مُقدم على تغيير كبير تدفع باتجاهه قوى خارجية على رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وتنفذه إسرائيل على الأرض، والخشية الحقيقية أن يضيع لبنان في أتون حرب مدمرة، يعيده للوراء سنوات وعقود كما سبق وأن هدد بذلك قادة إسرائيل. وقد تفرز نتائج التسويات المحتملة هذه الحرب ( العلنية – غير العلنية) على المدى القريب والمتوسط تبعات على سيادة لبنان وتركيبته الداخلية ودوره في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا يجب أن نستبعد أن جزءً من هذه الترتيبات التي ستتم لمرحلة ما بعد هذه الحرب لن تحدث بمعزل عن دور لإيران فيها، فإيران هي مشروع الجائزة الكبرى للولايات المتحدة وهناك إصرار وعمل متواصل على استعادتها للمعسكر الغربي ( العصا والجزرة) ، وذلك من أجل عمل التغيير الجوهري في معادلة توازن القوى في الشرق الأوسط، إذا كانت إسرائيل والولايات المتحدة جادة في تحقيق هذا الهدف.