إعداد/
عاطف محمود دبل
باحث في العلوم السياسية
إشرف وتحرير/ د. أكرم حسام
رئيس مركز السلام للدراسات الاستراتيجية
مقدمة
يترقب العالم ودول المنطقة الرد الإسرائيلي على الضربة الصاروخية الثانية التي وجهتها إيران للعمق الإسرائيلي قبل أيام عندما أمطرت سماء إسرائيل بأكثر من 180 صاروخاً باليستياً دفعة واحدة، واستهدفت من خلالها بعض القواعد العسكرية الإسرائيلية، في عملية لم تخلو في بعض جوانبها من البعد الاستعراضي، لكنها جاءت مختلفة عن الضربة الأولى في أبريل الماضي والتي كانت عملية استعراضية بإمتياز، أثارت السخرية من بعض المراقبين وبين أوساط الرأى العام العربي والإيراني. بينما جاءت هذه الضربة مختلفة حجماً ونوعاً وكذلك في طبيعة الأهداف المستهدفة، علاوة على السياقات التي جرت فيها .
لذلك نقول إنه وبغض النظر عن التقييم الإسرائيلي لحجم الأضرار والتي وصفت بالضعيفة في مقابل التقييم الإيراني الذي يتحدث عن تحقيق الضربة لأهدافها، فإن هناك ضربة إسرائيلية قادمة، تم إقرارها من جانب الحكومة الإسرائيلية والمجلس الأمني المصغر وكافة المؤسسات، وربما ينتظرون فقط دراسة خيارات الرد ومستوياته والاستعداد لمرحلة ما بعد الضربة ، وكيف يمكن تجنب حرب واسعة مع إيران (محور الضغط الأمريكي الأساسي).
ولا شك أننا أمام مرحلة تصعيد واضحة، غير واضح معالمها حتى اللحظة، هل تكتفي إسرائيل برد متناسب مع الرد الإيراني، يسمح لإيرانيين بقبول عدم الرد مرة أخرى، أم أنها ستذهب لخيار ضربة مؤلمة وتضع الإيرانيين أمام الخيارات الصعبة مستغلة بالقطع الدعم العسكري الأمريكي والغربي لها؟ وما هي مخاطر وتداعيات هذا التصعيد على الأمن الإقليمي؟ كل هذه التساؤلات سنحاول الإجابة عليها من خلال هذا التحليل الذي سيركز في البداية على السياقات التي جاءت بها الضربة الإيرانية الثانية، ومن ثم خيارات الرد الإسرائيلي، وما هي السيناريوهات المتوقعة؟
سياقات التصعيد الراهن:
تعرضت الجمهورية الإسلامية الإيرانية لكم كبير من الضغوط من أجل توجيه ضربة لإسرائيل في سبيل الرد على عمليات الإغتيال والانتهاكات المستمرة من إسرائيل، والتي قد تجاوزت كل الحدود، حتى العاصمة طهران، وبات سقوط القادة الحلفاء أمر طبيعي قد يحدث في أي لحظة. فقبل عملية استهداف السيد حسن نصر الله، ورغم الضربات الإسرائيلية المتواصلة ضد حزب الله، ومن قبله استهداف إسماعيل هنية زعيم حركة حماس في طهران، واستهداف طهران نفسها وقنصليتها في سوريا، إلا أن النظام الحاكم في إيران كان يرفض الرد على تلك الاستهدافات، منعا لأن يكون ذلك الرد ذريعة لاتساع الحرب، وهو ما لا تريده طهران. وقبل أيام من إعلان إسرائيل عن مقتل حسن نصر الله، كان حزب الله يحث إيران على شن هجوم ضد إسرائيل مع تصاعد القتال مع الجيش الإسرائيلي، لكن طهران امتنعت، وهو ما حملها الأن وجوب الرد حفظا للنظام أمام الشعب الإيراني وحفاظا على الوكيل الأول لها في الشرق الأوسط. تمثلت تلك الضغوط في انقسامات عميقة داخل حكومة الرئيس مسعود بزشكيان، وأثارت الرأي العام بشكل بات يهدد النظام، وأصبح الرد ضرورة للحفاظ لا على ماء الوجه بل على النظام بأكمله.
قبل الرد، كان الموقف الرسمي في إيران يتسم بالتضارب، بين مؤيد للرد على إسرائيل، وبين من يخشون اتساع رقعة الصراع، مدركين جيدا أنه -أي جر إيران للحرب- هدفا استراتيجيا لإسرائيل، من أجل تدمير البنية التحتية في الجمهورية الإسلامية، ولا سيما المنشآت النفطية والنووية.
اقترح المحافظون رد الفعل القوي والرد بشكل حازم، بينما لاذهب الإصلاحيون، وعلى رأسهم الرئيس مسعود بزشكيان، لتخفيف حدة التوتر مع الغرب، ونهج سياسة ضبط النفس. كما عبرت أصوات أخرى في مجلس الأمن القومي أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قد تجاوز جميع الخطوط الحمراء، محذرة من أنه إذا هاجمت إسرائيل، فقد تعرض إيران بنيتها التحتية النفطية والنووية للخطر، الأمر الذي يضغط على الاقتصاد بشكل لا يمكن أن تتحمله الجمهورية الإسلامية في الوقت الحالي. وكان موقف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، أن اغتيال إسرائيل لنائب قائد “الحرس الثوري” في بيروت “جريمة نكراء” لن تمر دون رد، دون أي إشارة إلى رد محتمل على اغتيال حسن نصر الله. وفي بيان وجهه إلى قائد “الحرس الثوري” الإيراني حسين سلامي: “لا شك أن هذه الجريمة النكراء التي ارتكبها النظام الصهيوني لن تمر دون رد”، لينضم وزير الخارجية للمحور المؤيد للرد.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية ناصر كنعاني إن “حكومتي لبنان وفلسطين لديهما القدرة والقوة اللازمتين لمواجهة العدوان، ولا داعي لنشر قوات إيرانية مساعِدة أو تطوعية”. وأضاف أن إسرائيل “لن تهدأ” وإن ما حدث في لبنان لن يمر دون عقاب. وحذر من أن المنطقة في وضع خطير. في إشارة أن إيران لن تتدخل في الرد، وأن الرد سيكون من خلال الوكلاء فقط، وعلى النقيض من تصريحات وزير الخارجية.
أما عن رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف أشار إلى أن الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران ستواصل مواجهة إسرائيل بمساعدة طهران عقب اغتيال نصر الله، وأضاف: “لن نتردد في الذهاب إلى أي مستوى من أجل مساعدة المقاومة”، كما أصدر تحذيراً للولايات المتحدة.
كما تم الإعلان عن فكرة مطروحة لفتح تسجيل لإرسال قوات إلى لبنان خلال الأيام المقبلة، وقد أيد محمد حسن أختري المقترح، رئيس لجنة “دعم الثورة الإسلامية في فلسطين” بالرئاسة الإيرانية، وقال إنه من خلال التسجيل العلني، سيمنح المسؤولون بالتأكيد الإذن بنشر القوات في لبنان ومرتفعات الجولان، مستشهدا بالموقف الإيراني في العام 1981.
وكان قد أكد محسن رضائي عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، أن المرشد الأعلى علي خامنئي لا يريد إشعال حرب مع تل أبيب في الظروف الحالية، موضحا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يسعى لإشعال حرب ضد إيران، ويريد استغلال مقتل إسماعيل هنية واستهداف حزب الله، لجر طهران للدخول في الحرب. معللا بأن الحكومة الإيرانية لن تمنح نتنياهو هذه الذريعة، لكنها تترقب وستتصرف في الوقت المناسب بحكمة وقوة، مشيرا -حسب وصفه- إلى أن حزب الله في لبنان كان قد -قبل اغتيال نصرالله- ردّ على إسرائيل وسيتابع الردود في الأيام المقبلة.
أما عن أمين مجلس صيانة الدستور أحمد جنتي أن إسرائيل “ستلقى ردا قويا” مهددا بـ “محو الكيان الصهيوني”، بحسب وكالة أنباء فارس الرسمية. وأكدت لجنة الأمن والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني على “ضرورة الرد بحزم وجعل الكيان الصهيوني يندم على جرائمه”.
إذا قبل عملية الرد الأخيرة، كان الموقف الرسمي به إنقسامات، ولم يكن انعكاس لخطة خداع استراتيجي، بل ناتج عن انقسام حقيقي داخل السلطة، لأن التصريحات لم تكن كلها تنفي، أي باتفاق مسبق، ولا كلها تؤكد عن علم. كان واضحًا أن بزشكيان، في تشكيله حكومته، قد لجأ إلى استقطاب أسماء عملت مع رؤساء سابقين، مثل: محمد خاتمي، وحسن روحاني، وإبراهيم رئيسي، ليُشكل بذلك مجلس وزراء يجمع بين تيارَي الإصلاحيين والمحافظين. ولعلّ هذه الرؤية التوافقية تجلّت بوضوح في السياسات الخارجية، حيث وجدنا في تقرير عراقجي تأكيدًا على استمراريّة بعض سياسات الحكومات الإصلاحية في بعض الملفّات، فيما تمسّك ببعض مبادئ الحكومات المحافظة في ملفات أخرى. هذا المزيج بين الإصلاحي والمحافظ، في السياسة الخارجية على وجه الخصوص، يجعل التنبؤ بخطوات الحكومة الإيرانية الجديدة مهمة شاقة على المحللين. بل إنه قد يفتح أمام بزشكيان وحكومته مجالات أوسع للمناورة على الساحة الدولية، في ظل القدرة على تبنّي نهج مزدوج يجمع بين المرونة والحزم.
استراتيجية المسارات الثلاثة : كيف تعاملت المؤسسات الإيرانية مع مرحلة ما بعد الضربة:
توجيهات المرشد:
عاد على خامنئي، يتهم إسرائيل بأنها العامل الاساسي لعدم الاستقرار والحروب في المنطقة، وذلك في صلاة الجمعة، اللاحقة للضربة الإيرانية على إسرائيل، وهي المرة الأولى منذ 5 سنوات التي يؤم فيها المصلين في صلاة جمعة في طهران، وكان موقفه واضح من خلال تصريحه أن ما قامت به القوات المسلحة الإيرانية كان “الحد الأدنى من العقاب مقابل الجرائم الإسرائيلية،” وأشار كذلك إلى أن العملية الإيرانية الأخيرة “شرعية وقانونية لنصرة الشعوب الإسلامية أمام احتلال”، وفي سبيل الدفاع عن سيادة أراضيه، وراح يستميل شعوب المنطقة آملا حشدهم، عندما صرح بأن “العدو واحد” و”أعداء الأمة الإسلامية هم أعداء فلسطين ولبنان والعراق ومصر وسوريا واليمن”. على عكس باقي المؤسسات الرسمية، اتسم موقف خامنئي بالهدوء، فكان قليل الحديث والتصريحات الواضحة إلى أن توصل إلى قراره بالرد على إسرائيل، حينها بدأ يبرهن على موقفه، ويوضح أنه كان يدافع عن أرضه وشعبه وسيادته، محاولا إبراز أنه مازال لم ينجرف للحرب، وأن بالإمكان الوقوف عند هذا السيناريو، وهي رسالة قوية خاصة وأن إيران أصبحت في موقف تنتظر فيه رد الفعل الإسرائيلي، والذي إما يعلن حربا، أو يفضي إلى مفوضات.
وقبل الرد، كان موقف خامنئي هو الصدمة العميقة لوفاة صديقه وحليفه الأول وتغلب عليه الحزن، لكن كان سلوكه هادئا وعمليا. تجلت تلك الرؤية في ردود أفعاله عقب واقعة الاغتيال، فبدلاً من مهاجمة إسرائيل، بقرار غير مدروس، نشر بيانين منضبطين، أشاد فيهما بنصر الله باعتباره شخصية محورية في محور المقاومة والعالم الإسلامي، وقال: “أن إيران ستقف إلى جانب حزب الله”. لكن كان خامنئي على الدوام عندما يواجه الاختيار بين حرب شاملة مع إسرائيل وبين نشاط منخفض الحدة للحفاظ على الذات، يبدو أنه يختار الخيار الثاني، بما يعني أنه يفضل دراسة الرد جيدا بما يفضي إلى رد فعل لا يغزي تصعيد جديد.
فقد صرح المرشد علي خامنئي بوضوح بأنه يجب توجيه ضربة قاتلة لجسد النظام في إسرائيل. بما يعني أن الدولة الإسلامية قد اتخذت قرارها بتوجيه ضربة كبيرة بحيث تحافظ على النظام، لكن دون أن تنجرف إلى حرب شاملة. وقد تم نقل المرشد الإيراني علي خامنئي إلى مكان آمن داخل البلاد مع اتخاذ إجراءات أمنية مشددة. كما ظلت طهران على اتصال مستمر مع حزب الله وجماعات أخرى متحالفة معها لتحديد حيثيات الضربة الإيرانية.
التحرك ثلاثي المسارات:
وضح من مجمل الحركة الايرانية خلال الفترة الماضية أنها تتحرك في ثلاث مسارات بشكل متوازي وهي :
المسار الأول: تطمين شكلي لجبهة المقاومة وحفظ ماء الوجه أمام الداخل الإيراني والأجنحة المتشددة بالحرس الثوري والمؤسسات الأخرى. لذلك كان المسار العسكري حيث أطلقت إيران نحو 180 صاروخا داخل الحدود الإسرائيلية، وهو هجوم أكبر نسبيا من نظيره في أبريل الماضي، والذي كان قد شهد إطلاق مايقرب من 140 قذيفة ما بين صواريخ باليستية وأخرى من طراز كروز. وبينما أعلنت إسرائيل أن معظم الصواريخ أسقطتها أنظمة الدفاع الجوي، وبمساعدة الحلفاء، نجد أن الحرس الثوري قد صرح في المقابل أن 90% من القذائف قد أصابت أهدافها، والتي تمثلت في ثلاث قواعد عسكرية. وعقب الضربة بدأت إيران تؤكد عبر وزير خارجيتها عراقجي أن الجمهورية الإسلامية كانت ولا تزال داعما للبنان، وكانت ولا تزال تدعم الطائفة الشيعية في لبنان، وبخاصة حزب الله، وهي إشارة لباقي محور المقاومة بأن إيران لن تتخلى عن مناطق النفوذ الجيبولتيكي في المنطقة.
المسار الثاني: محاولة احتواء الرد الإسرائيلي . عقب الضربة، تحركت الدوائر الإيرانية وفق استراتيجية إحتواء وتهدئة، حيث خرجت تصريحات إيراينة عديدة ضمن هذا السياق كان أهمها تصريح وزير الخارجية “أن الرد الإيراني أنتهى” ، بما يعني أنها عملية لحفظ ماء الوجه فقط وليس لها علاقة بالتصعيد الحاصل على الجبهة اللبنانية، حيث تدرك طهران جيدا أن بانجرافها إلى مستنقع مواجهة مباشرة، واتساع رقعة الحرب مع إسرائيل والحلفاء، فلن ينتهي السيناريو إلا والجميع خاسر، وستخرج إيران باقتصاد منهار، وقد تفقد مشروعها النووي، ووكلائها في دول الجوار، فضلا عن المنشآت النفطية، تلك الأهداف التي طالما أشار إليها مسؤولي إسرائيل في غير موضع.
المسار الثالث: المسار الدبلوماسي والتلويح بدور لإيران في التهدئة الإقليمية. في خط أخر حاولت إيران فتح مجال للجهد السياسي الدبلوماسي، بالتحرك نحو بعض دول المنطقة ( زيارة مسعود بزشيكان لقطر – زيارة عباس عراقجي للبنان – اتصالات دولية وإقليمية عديدة). لتوصيل رسائل للجانب الأمريكي والإسرائيلي حول التهدئة والاستعداد الإيراني للمساهمة في وقف إطلاق النار. وهو ما أكده وزير الخارجية الإيراني أثناء زيارته لبيروت ، فبرغم إعلانه دعم بلاده للبنان ( حكومة وشعباً ومقاومة) إلا أنه أعلن وبشكل رسمي أن بلاده مستعدة لدعم وقف إطلاق النار على الجبهتين، في غزة ولبنان، وهو أفضل خيار استراتيجي بالنسبة لإيران، لأنه يضمن لها تثبيت مراكز القوة الحالية وعدم التنازل عن مكتسبات السنوات الماضية.
وأوضح وزير الخارجية أن طهران الآن في مشاورات من أجل وقف إطلاق النار، الأمر الذي يشير إلى أن إيران تحاول المساومة على الرد الإسرائيلي، وأن يكون سيناريو للنهاية، لا بداية حرب موسعة لا ترغب إيران الإنجراف فيها، كما أشار الوزير الإيراني إلى أن الشعبين اللبناني والفلسطيني، وكذلك جماعة “أنصار الله” في اليمن، هم أصحاب القرار الأول، وأن الجمهورية الإسلامية ستظل داعم لقراراتهم أيا ما كانت، بما يعني أن إيران لا تريد التخلي عن أحد من الوكلاء، ولا حتى إبرام اتفاق يضع أي منهم خارج المعادلة.
كما كان موقف “مجلس صيانة الدستور” يذهب إلى أن المقاومة في بلدان المواجهة مستمرة، في إشارة لدعم مستمر من طهران لوكلائها من الجماعت في تلك الدول، على الرغم من أن إيران لا تسعى لفرض سيطرتها على الأخرين، في محاولة لتوضيح رسالة أنها لا تسعى أن يطول سيناريو المواجهة المباشرة، على استعداد قبول دعوات طاولة المفاوضات.
خيارات الرد الإسرائيلي:
تعتبر الضربة التي تعرضت لها إسرائيل في الأول من أكتوبر 2024 م ثاني ضربة صاروخية توجه للعمق الإسرائيلي من دولة عضو في الأمم المتحدة وتحديداً دولة من دول الشرق الأوسط خلال أقل من ستة أشهر، لذلك تنظر لها إسرائيل بمنظور مختلف عن الهجمات الأخرى التي تنفذها جماعات مسلحة ( فاعلين دون الدولة) من العراق ولبنان واليمن وكذلك من الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تعتبر إسرائيل أن مثل هذه الضربات من إيران – كدولة تناصبها العداء العلني – تعني تأكل نظرية الردع الإسرائيلي، الذي عملت إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة على تأسيسه مع الدول المحيطة بها على مدار عقود مضت. لذلك لا مجال للحديث عن خيار عدم الرد. فإسرائيل سترد لا محالة ، ويظل السؤال ما هو طبيعة المتوقع، وما هي المحددات الحاكمة لأي من السيناريوهات المتوقعة؟
محددات الرد الإسرائيلي:
هناك عدة محددات ستحكم القرار السياسي في إسرائيل إزاء مسألة الرد وأهمها ما يلي:
- المحدد الأول. انفتاح القوات الإسرائيلية على أكثر من جبهة قتال نشطة في الوقت الراهن خاصة جبهة لبنان وجبهة غزة، وبالتالي فتح جبهة قتال نشطة مع دولة بحجم إيران غير مطلوب في هذا التوقيت، وعلى الرغم من تأكيد إسرائيل المستمر أنها قادرة على إدارة حرب على ست جبهات في وقت واحد، إلا أن هذا الأمر من الناحية العسكرية ضد المنطق العملياتي والاستراتيجي، ولم يسبق لأي دولة أن نجحت في تنفيذ قتال على جبهات متعددة إلا إذا توفرت لها قدرات عسكرية شاملة ضخمة. إلا إذا افترضنا أن الولايات المتحدة ستدخل إلى جوارها المعركة وليس فقط مجرد إسناد استخباراتي أو دفاعي ( وهذا مستبعد نظرياً في الوقت الراهن ، فهناك انتخابات قادمة في الولايات المتحدة ولن يخاطر بايدن بإشعال حرب في الشرق الأوسط تؤثر على حظوظ حزبه في الإنتخابات، كما أنه من المعروف في السياسة الأمريكية أن عام الإنتخابات غالباً ما تؤجل فيه قرارات كبيرة مثل هذا القرار ، الذي قد يجر المنطقة والعالم لسيناريو حرب مفتوحة قد تتدخل فيها روسيا ودول أخرى.
- المحدد الثاني. الموقف الأمريكي المعارض كما سبق أن أسلفنا لتوسيع نطاق الحرب، فحسب التصريحات الأمريكية المتتالية هناك تأييد لحق إسرائيل في الرد، مع التمسك بضرورة إلا تتدحرج الأموار لمواجهة تضطر معها الولايات المتحدة للدخول في حرب مباشرة مع إيران ( ضد الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بمحاولة احتواء إيران عبر سياسة العصا والجزرة).
- المحدد الثالث. مواقف دول الخليج القريبة من إيران، ولا شك أن إسرائيل والولايات المتحدة قد وصلتها رسائل من دول الخليج وبعض دول المنطقة بعدم رغبتها في توسيع نطاق التوتر في المنطقة، خاصة وأن سيناريو كهذا سيضر بأمن دول الخليج العربي بشكل مباشر، في ظل وجود عدد كبير من بنك الأهداف التي يمكن أن تستهدفها إيران بدول الخليج أو على الأقل بمياة الخليج ومسار الملاحة الدولية ( سيناريو إغلاق مضيق هرمز) أو التعرض للسفن التجارية العابرة للخليج العربي .
- المحدد الرابع. وهو محدد دولي . مرتبط بالخشية من أن يقود رد إسرائيلي قوي وتدحرج الأمور لمواجهة مع إيران لتأثيرات سلبية على الاقتصاد العالمي وأسعار النفط التي ستقفز حتماً لمستويات غير مسبوقة، وهو وضع سيضر بمصالح دول كثيرة على رأسها أوروبا والصين .
السيناريوهات المحتملة :
هناك عدة سيناريوهات يمكن لإسرائيل في ضوء المحددات السابقة أن تتجه إليها وهي تنقسم إلى حزمة الأهداف العسكرية وحزمة الأهداف الاقتصادية، وكلاً منهما يوجد بداخله مستويات معينة من الخطوررة والتعقيد والتحسب للرد الإيراني :
أولاً: حزمة الأهداف العسكرية. يمكن أن يتدرج الرد الإسرائيلي من الأقل للأعلى كما يلي:
- السيناريو الأول. رد عسكري مماثل للرد الإسرائيلي على الضربة الإيرانية الأولى. حيث قامت إسرائيل بالرد على هجوم الصواريخ والطائرات بدون طيار الذي شنته إيران في أبريل 2024 بضربة إسرائيلية محدودة للغاية ضد بطارية دفاع جوي من طراز S-300 في إيران وأنهت تبادل الهجمات المباشرة. ووفق هذا السيناريو قد يقوم سلاح الجو الإسرائيلي أو باستخدام صواريخ باليستية موجهة ومسيرات بمهاجمة مواقع الدفاع الجوي الإيراني التابعة للحرس الثوري والمتمركزة في مناطق معروفة داخل إيران . وإن كانت احتمالات هذا السيناريو ضعيفة لكون الضربة الإيرانية الثانية اختلفت عن الأولى وكانت أكثر قوة وأصابت أهداف بالفعل.
- السيناريو الثاني . رد عسكري واسع النطاق. من خلال ضرب مجموعة قواعد الصواريخ والطائرات من دون طيار الإيرانية، التي تقع تحت الأرض وفي بعض الحالات في أعماق الجبال. وقد تكون البدائل تكرار استهداف قواعد الدفاع الجوي الإيرانية على نطاق أوسع التي تغطي طهران وأصفهان والموانئ، أو قد يستهدف هجوم أكثر تعقيداً مواقع للإنتاج الصناعي العسكري، مثل الهجوم بطائرات دون طيار على مصنع للأسلحة في أصفهان في 2023.
- السيناريو الثالث. استهداف منشآت نووية. وفق هذا السيناريو ستقوم إسرائيل بتنفيذ هجمات متفرقة على عدة منشآت نووية إيرانية، أو تدمير أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، وخاصة تلك التي تحمي منشآتها النووية”. على أن تكون الأهداف المختارة متوسطة الأهمية، مع إمكانية تفادي وقوع أضرار كبيرة ومباشرة، تضطر معها إيران للرد بنفس القوة. يحقق هذا السيناريو لإسرائيل عدة أهداف أهمها إيصال رسالة قوية لإيران بانها قادرة على الوصول للمواقع النووية وتهديدها، كما ينسجم هذا السيناريو مع الرغبة الأمريكية في تجنيب المنطقة رد فعل عنيف من إيران يمكن أن تتدحرج معه الأمور لما هو أكبر، فاستهداف المنشآت النووية الإيراينة المهمة كناطنز وغيرها تتطلب تعاونًا مع القيادة المركزية الأمريكية، والمزيد من الذخائر للقوات الجوية الإسرائيلية وربما أنواع أخرى من الدعم العملياتي الأمريكي، لضمان نجاح هذه الضربة التي يجب أن تكون مؤكدة النتائج، حيث أن رد إيران عليها سيكون حتمي وخارج نطاق السيطرة.
- السيناريو الرابع. هجمات سيبرانية مؤثرة. ويندرج ضمن هذا السيناريو سياسة الاغتيالات لبعض القادة من الحرس الثوري الايراني دون تحمل المسؤولية وتنفيذ عمليات سيبرانية قوية شبيهة بما تم مع حزب الله في لبنان. وهو أحد السيناريوهات المرشحة والتي تضمن أيضا الإفلات من المسئولية من جانب وتضمن إمكانية تحاشي إيران الرد العنيف عليها.
ثانياً: حزمة الأهداف الاقتصادية: وتتدرج أيضاً من الأقل للأعلى خطوة كما يلي:
السيناريو الأول: استهداف مصالح اقتصادية إيرانية بالخارج. مثل استهداف سفن تجارية إيراينة، قصف مقرات وبنية أساسية تابعة لشركات إيرانية أو تنظيمات تابعة لإيران في دول مثل العراق وسوريا ودول آسيا الوسطى. هذا السيناريو هو الأقل تكلفة على إسرائيل ، لأنه يمكن إقناع إيران في هذه الحالة بابتلاع الضربة وإنهاء التصعيد المتبادل، على أساس أنها ضربة غير حيوية.
السيناريو الثاني. قصف المنشآت الإيرانية العاملة في تكرير البنزين والديزل للاستهلاك المحلي مع تجنب المنشآت التي تُستخدم في تصدير النفط، أو البديل الأخر استهداف مراكز الاتصالات ومحطات الطاقة الكهربائية ومحطات المياة وخطوط شبكة الاتصالات.
السيناريو الثالث. استهداف استهداف منشآت نفطية إيرانية بمنطقة الخليج . هناك من داخل إسرائيل من يشجع على هذا الخيار، وتم الترويج لهجوم على البنية التحتية النفطية الإيرانية وأشار الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أن القضية كانت قيد المناقشة مع الجانب الإسرائيلي بالفعل. وكان الحقل الأكثر ذكراً هو حقل كرنج، الذي يتعامل، وفقاً لبعض التقديرات، مع 90 في المائة من صادرات النفط الخام، ومعظمها متجهة إلى الصين. وكذلك مرافق رئيسية أخرى مثل مصفاة عبادان، بالقرب من الحدود مع العراق، التي تتعامل مع نسبة كبيرة من احتياجات إيران المحلية من النفط.
السيناريو الأكثر احتمالاً:
وفق المحددات السابق الإشارة إليها يُرجح أن تميل إسرائيل والولايات المتحدة لحزمة الأهداف الإقتصادية ، حيث أن صناعة النفط الإيرانية مكشوفة نسبياً مقارنة بالمنشآت النووية ويسهل تدميرها، كما أن مهاجمة الأهداف الاقتصادية قد يكون لها تأثير طويل الأمد لأن اقتصاد إيران يعاني والنظام يريد دائماً تخفيف العقوبات، مع ملاحظة أن قصف إسرائيل للحوثيين في اليمن كان يركز على مرافق الوقود والطاقة والموانئ في رأس عيسى والحديدة. وبالتالي قد تدفع الولايات المتحدة باتجاه هذه السيناريوهات الاقتصادية وتترك لإسرائيل حرية الإختيار بين المستويات المختلفة حسب تقديراتها السياسية والعسكرية لرد الفعل الإيراني.
الخلاصة:
رغم محاولة التكهن برد الفعل الإسرائيلي على الضربة الإيرانية الثانية لمنشآت عسكرية إسرائيلية في الأول من أكتوبر الجاري، إلا أن الغموض وعدم اليقين يسيطران على الموقف الإقليمي بشكل عام، فالقضية الآن ليست في الرد الإسرائيلي فقط، بل في الرد الإيراني الذي سيتبعه. حيث يُخشى من تدحرج الأمور لحرب إقليمية تضر بجميع دول المنطقة وقد تطال آثارها دول العالم خاصة على المستوى الاقتصادي.
من المهم مراقبة هذه التطورات والتحوط لها، خاصة على المستوى الوطني، مع الوضع في الإعتبار أن توازنات القوة بالمنطقة في طريقها للتغيير بقوة النار تارةً وبصفقات قد تعقد في أي لحظة تارة اخرى.