إعداد: أستاذ محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي ،جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب
تقديم:
تشهد منطقة المغرب العربي متغيرات مهمة في مجال الأمن الإقليمي، حيث تتشابك التحديات الأمنية مع التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بجانب تعدد الأطراف الفاعلة، سواء المحلية أو الدولية، مما يجعل من فهم حالة الأمن الإقليمي في هذه المنطقة قضية معقدة تتطلب إدراكاً دقيقًا لمجمل الاتجاهات الحالية.كما ترتبط التحديات الأمنية في تلك المنطقة ارتباطًا وثيقًا بحالة عدم الاستقرار السائدة في منطقة الساحل، حيث تواجه كلا المنطقتين أزمات أمنية كبيرة تتعاظم نتيجة الترابط العميق بينهما، فالأزمات الأمنية المعقدة التي تتوسع في دول الساحل أصبحت عوامل طاردة للسكان نحو الشمال، مما يؤثر بشكل ملحوظ على الأجندة السياسية في دول شمال إفريقيا والاتحاد الأوروبي أيضًا.
نقدم في هذا التقرير التحليلي وصفاً لحالة الأمن الإقليمي في منطقة المغرب العربي، للوقوف على تفاعلات التعاون والصراع في هذه المنطقة وأبرز الفاعلين وأبرز القضايا المطروحة في الوقت الراهن.
أولاً: تطورات الخلاف المغربي الإسباني حول السيادة الجوية على إقليم الصحراء
بدأت قضية إدارة المجال الجوي للصحراء المغربية منذ عام 1975، بعد المسيرة الخضراء المعروفة وما خلفته من آثار مهمة بالنسبة لقضية الصحراء، ومنذ ذلك التاريخ لا تزال هذه القضية عالقة بين المغرب وإسبانيا. ففي ذلك الوقت، سحبت إسبانيا علمها الوطني من مدينة العيون وسلمت إدارة الإقليم للمغرب وفق إعلان مبادئ مدريد الثلاثي الذي تم التوقيع عليه بين إسبانيا والمغرب وموريتانيا في 14 نوفمبر 1975، بعد إجراء عدة جولات من المفاوضات ، ودخل هذا الإعلان حيز التنفيذ يوم 19 نوفمبر 1975، وقام المغرب بتسجيله لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة بتاريخ 9 ديسمبر1975، كما نُشر في مجموعة معاهدات الأمم المتحدة الصادرة في السنة نفسها.
وعلى إثر ذلك ، رُفع العلم المغربي فوق المناطق المسترجعة، واعتقد المغرب أن مشكلة الأقاليم الجنوبية قد حُلت. ومع ذلك، استمرت إسبانيا في ممارسة المراقبة الجوية على الإقليم من خلال شركة تابعة لوزارة النقل تُعرف بالشركة العامة “إينير” التي تختص بمراقبة الأجواء الإسبانية في المناطق التي كانت تحت سيطرتها، حيث تتم المراقبة من جزر الكناري القريبة من إقليم الصحراء وليس من الأراضي الإسبانية.
وللإشارة فإن المنظمة الدولية للطيران المدني تعتمد على خرائط خاصة لتحديد مناطق اختصاص كل مركز من مراكز إدارة الملاحة الجوية، وهذه الخرائط تختلف عن الحدود الجغرافية للدول، حيث توجد العديد من التداخلات، وتخضع بعض الأقاليم لإدارة مراكز أجنبية بدلاً من الدولة التي تنتمي إليها. ومع ذلك، فإن إدارة المجال الجوي للأقاليم الصحراوية ترتبط بشكل مباشر بالنزاع القائم حول الإقليم، مما يجعل المنظمة الدولية تحتفظ بإدارة هذا المجال الجوي بيد إسبانيا.
تحتاج الرحلات الجوية التي تنطلق من مطارات العيون والداخلة والسمارة إلى إذن من مركز المراقبة الوطني، وهو مركز مطار محمد الخامس في الدار البيضاء، بالإضافة إلى إذن إضافي من مركز المراقبة المختص في جزر الكناري. ولا تُستثنى من هذه القاعدة الرحلات الجوية الخاصة ببعثة الأمم المتحدة المكلفة بتنظيم الاستفتاء في الصحراء (مينورسو).
في هذا الإطار، أعلن نائب إسباني “أنيسيتو أرماس غونزاليس” عن مستجدات تدل على استعداد إسبانيا للتخلي عن إدارة المجال الجوي لصالح المغرب. وأشار النائب في تصريحاته إلى معلومات من قطاع الطيران الإسباني، موضحاً أن وزارة النقل الإسبانية تعمل على نقل إدارة المجال الجوي للصحراء المغربية إلى المغرب.
في ظل التطورات الأخيرة والتقارب الملحوظ بين إسبانيا والمغرب، يبدو أن عملية نقل إدارة المجال الجوي إلى المغرب قد بدأت بالفعل، مما يمهد الطريق لحل أحد الملفات العالقة بين الرباط ومدريد، وإنهاء فترة طويلة من النزاع حول السيادة على هذا المجال.
ثانياً: عودة التحالفات وسياسة المحاور إلى منطقة المغرب العربي:
قطعت الجزائر علاقاتها بالمغرب في عام 2021، وقد تمكن البلدان من تجنب مواجهة مسلحة رغم وقوع حوادث عدة في الصحراء الغربية كان من شأنها أن تؤدي إلى التصعيد. كان المغرب قد تحرك في عام 2020 لتطبيع العلاقات والسعي نحو التعاون العسكري مع إسرائيل. ورأت الجزائر في علاقات إسرائيل التي تزداد قوة بالمغرب – إضافة إلى تطورات أخرى – تهديداً لأمنها الوطني. لكن نقطة الاشتعال الرئيسية بين البلدين تتمثل في الصحراء الغربية، حيث تفرض المغرب سيادتها وتدعم الجزائر جبهة البوليساريو الداعية إلى الاستقلال.
حتى الآن، حافظ ضبط النفس الثنائي والدبلوماسية الأميركية على السلام بين الجارين، لكن الأعمال القتالية في الصحراء الغربية، والمعلومات المضللة على الإنترنت، وسباق التسلح الثنائي ووصول إدارة أمريكية جديدة بقيادة دونالد ترامب تشكل جميعها مخاطر.
من خلال ضبط النفس المتبادل والدعم الأمريكي، نجحت الجزائر والمغرب في تجنب صدام عسكري مباشر، رغم أن الخطر لا يزال قائمًا. في الصحراء الغربية، يبدو أن الطرفين توصلا، بعد تجربة طويلة من المحاولات والأخطاء، إلى قواعد معينة للتعامل مع الوضع. هذه القواعد، التي تستند جزئيًا إلى التزاماتهما بموجب القانون الدولي، تتضمن حماية المدنيين وضمان استمرار عمل بعثة الأمم المتحدة على الأرض. ومع ذلك، يبقى هذا التوازن الهش مهددًا بعدة عوامل خطرة، من بينها دعوات بعض ناشطي البوليساريو الأكثر تشددًا لاتخاذ إجراءات عدائية ضد المغرب، وسباق التسلح المتصاعد بين الجزائر والمغرب، والتأثيرات المحتملة للخطاب التصعيدي على الإنترنت، إضافة إلى احتمال تأثير إدارة ترامب المقبلة على التوازن الاقتصادي الذي رسخته إدارة بايدن السابقة.
كما أنه من الضروري أن تتولى الحكومات الأوروبية دورًا قياديًا في إدارة التوترات بين البلدين. ينبغي على هذه الحكومات، إلى جانب الأطراف الدولية الأخرى المعنية، تشجيع جميع الأطراف على احترام القواعد التي تم التوصل إليها، وضبط تدفق الأسلحة إلى الرباط والجزائر للحد من مخاطر سباق تسلح يزعزع الاستقرار. كما يجب تعزيز الجهود لإعادة إطلاق المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة بشأن قضية الصحراء الغربية، وحث منصات التواصل الاجتماعي على مراقبة ومنع انتشار المعلومات المضللة والتحريضية.
والملاحظة الأهم بهذا الخصوص هي سياسات الاستقطاب والمحاور التي أعادت المنطقة المغاربية سنوات إلى الوراء، بعدما كان يبدو أن هذا الاستقطاب قد انتهى مع نهاية الحرب الباردة. هذا الاستقطاب المتجدد زاد من حدة الصراعات بين الجيران، مما أدى إلى تسارع جهود التسلح وزيادة التحالفات العسكرية مع القوى الكبرى تحت ذرائع مثل “تآمر الجار” و”محاربة الإرهاب”. لا تزال منطقة المغرب العربي تعاني من صراع المحاور بين الجزائر والمغرب، وهو صراع يشبه ذلك الذي كان قائماً بينهما خلال الحرب الباردة، ولكن في سياق جديد تهيمن عليه قضايا مثل الحرب على الإرهاب.
وتتجلى أبرز ملامح هذه الاستقطابات فيما يلي:
⦁ المحور الجزائري التونسي
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس، والتطورات الإقليمية المهمة لكلاً من تونس والجزائر خاصة فيما يتعلق بالملف الليبي وملفات مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، حدث مزيد من التقارب بين البلدين، وانعكس ذلك في أكثر من صورة، حيث أصبحت الجزائر أحد أبرز الاعمين لتونس، ففي فبراير 2020، أودعت الجزائر 150 مليون دولار أمريكي في البنك المركزي التونسي. كما منحت قرضًا بقيمة 300 مليون دولار “لدعم الاقتصاد التونسي” في عام 2021، ومبلغًا إضافيًا قدره 200 مليون دولار في عام 2022. كما تبيع الجزائر الوقود والغاز لتونس بأسعار تفضيلية.
⦁ المحور التونسي – الجزائري – الليبي:
برزت ملامح هذا المحور مع الجدل الذي صاحب مبادرة تشكيل تكتل مغاربي جديد، وهي مبادرة أطلقها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وسط خلافات مغاربية داخلية، واستثناء المملكة المغربية من الانضمام لهذا التكتل، وهو ما رفضته بعض الجهات وتجاهلته موريتانيا. فقد أثار إعلان الجزائر وتونس وليبيا عن عقد قمة دورية كل ثلاثة أشهر تكهنات بأن ذلك سيكون نواة لتحالف ثلاثي بين هذه الدول يكتنف الغموض أهدافه، لا سيما في ظل التحديات الإقليمية والخلافات المغربية – الجزائرية.
تكشف بعض المؤشرات عن تقارباً كبيراً قد حدث بين البلدان الثلاثة في الأشهر الماضية، إذ نشطت الدبلوماسية بينهم في ظل الأزمة الليبية المستعصية منذ سنوات وفي ظل أوضاع إقليمية على رمال متحركة. وجاء هذا الإعلان في خضم توترات إقليمية في دول الساحل الأفريقي، وهي توترات تنذر بالخطر على دول شمال أفريقيا التي يتدفق عليها آلاف المهاجرين الذين يحدوهم الأمل في العبور نحو الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.
من المرجح أن يؤدي التحالف الثلاثي الجديد إلى زيادة حدة التنافس بين المغرب والجزائر، وتشتيت جهود العمل المغاربي وزيادة الخلافات، حيث يسعى كل منهما إلى تعزيز نفوذه في العمق الأفريقي. هذا يأتي في وقت تتراجع فيه القوى الدولية المؤثرة في المنطقة، مثل فرنسا التي انسحبت من معظم مواقعها في القارة الأفريقية.
ثالثاً: الوضع الأمني بدول الساحل وغرب إفريقيا:
تشهد منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا تغييرات مستمرة في علاقاتها مع فرنسا. فقد تلقت فرنسا انتكاسة دبلوماسية جديدة في إحدى الدول الأفريقية التي طالما اعتبرت حليفة رئيسية لباريس في القارة السمراء. وألغت تشاد الخميس 28 نوفمبر 2024 اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي مع باريس، في خطوة تعيد إلى الواجهة المصاعب المتزايدة التي تواجهها فرنسا مع حلفائها الأفارقة، خاصة منذ حوالي عامين. ويتزامن ذلك مع توجه تلك الدول نحو مد جسور التواصل الدبلوماسي مع روسيا، وانزياحها عن التقارب مع الدول الغربية بشكل عام.
ترجع أصول اتفاقية التعاون العسكري والأمني بين فرنسا وتشاد إلى فترة الاستعمار، لكنها ازدادت قوة بعد الاستقلال. تم توقيع أول اتفاقية للتعاون العسكري والأمني بين البلدين في عام 1976، وقد تم مراجعتها وتحديثها في عام 2019 لتشمل تدريب القوات المسلحة التشادية، وتعزيز قدراتها اللوجستية، بالإضافة إلى التعاون في مجالات الاستخبارات العسكرية والأمنية.
من ناحية أخرى، أعلن رئيس السنغال الجديد، باسيرو ديوماي فاي، في 28 نوفمبر 2024، أن فرنسا ستضطر لإغلاق قواعدها العسكرية في السنغال، مشيرًا إلى أن وجودها يتعارض مع سيادة البلاد. إذ تعد الصورة النمطية عن السنغال، بأنها الابنة المدللة لفرنسا، وعاصمتها داكار التي تُلقب بـ “باريس الصغرى”، في مرحلة اكتشاف وجود جنود ذوي عيون زرقاء وبشرة بيضاء يتجولون في شوارعها بشكل يثير الاستفزاز. وقد تحدث رئيسها الشاب الجديد عن قرب اليوم الذي سيغادر فيه الفرنسيون بلاده.
تلك التطورات في السنغال وتشاد قد تؤدي إلى تفاقم المشكلات التي تواجهها فرنسا في أفريقيا خلال الفترة القادمة، وقد تسهم في تقليص نفوذها.
وبالنسبة للمغرب والجزائر، فرغم تصريحات الخارجية المغربية والجزائرية، بأن النشاط الإرهابي في المنطقة المغاربية، يشكل تهديدا كبيرا للأمن والاستقرار، وأن هناك ارتباط بين الشبكات الإرهابية وشبكات الجريمة الدولية، وأن هناك حاجة أمنية إلى تأمين الحدود بين الدول المغاربية، فإن مشكل الصحراء يجعل من مسألة وجود تصور محدد ومشترك حول التحديات الأمنية بالمنطقة، أمرا مستبعدا. فالجزائر والمغرب يقتربان وينسقان مضطرين، فقط لمّا تضغط أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية بحجّة أن أمن منطقة المغرب العربي “جزء من الأمن الدولي.
ويمكن للمغرب كدولة محورية في منطقة شمال إفريقيا أن تساهم في إثراء النقاشات التي انطلقت منذ مدة بين دول الساحل على مستويات عدة، تحديدا على مستوى وزراء الدفاع، والتي توسعت لتشمل عددا من الدول الكبرى المعنية بمحاربة ظاهرة الإرهاب والهجرة غير الشرعية مثل الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوربي.
ورغم دوره المحدود في منطقة الساحل على الأقل من الناحية الجغرافية، إلا أن المغرب يمكن أن يقدم مساهمته في النقاشات التي تهدف إلى التوصل إلى الحلول الكفيلة بمحاربة ما تبقى من المجموعات الإرهابية، ومن بينها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
فالمغرب وانطلاقا من التجارب التي عاشها في السنوات الأخيرة في محاربة عنف الجماعات المتطرفة يمكنه أن يقدم خلاصة تجربته في هذا المجال، سواء تعلق الأمر بالناحية الأمنية أو المعالجة السياسية، إضافة إلى معالجته لملفات أخرى مثل تهريب المخدرات وتأمين الحدود والهجرة غير الشرعية وغيرها.
الخلاصة:
يمثل الأمن الإقليمي في المغرب العربي تحديًا معقدًا يتطلب حلولًا مشتركة وشاملة. كما أن غياب التعاون المشترك بين دول المنطقة للأزمات الإقليمية يفسح المجال أمام أصحاب المشاريع السياسية والأيديولوجية الدولية للتدخل في الشأن المغاربي. وقد أدى هذا الفراغ إلى اندلاع حروب بالوكالة في ليبيا وتدخل قوى أجنبية. كما أن التداخلات السياسية في تونس لا تنفصل عن هذه المشاريع، في حين لم تسلم الجزائر والمغرب وموريتانيا من محاولات التأثير الخارجي عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الأدوات. لذلك فإن التعاون الإقليمي، مع تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن يسهم في تحقيق استقرار مستدام في المنطقة وتحصين المنطقة من خطر الأزمات الارتدادية للوضع المضطرب في الساحل والصحراء.