إعداد: د.محمد بوبوش- جامعة محمد الأول بوجدة-المملكة المغربية أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي
كما هو معلوم فالأمين العام للأمم المتحدة أعلى منصب سياسي في النظام الدولي وهو بالتالي جزء من بنية هذا النظام..وقد منح ميثاق الأمم المتحدة دورا دبلوماسيا قويا للأمين العام للأمم المتحدة في الوساطة في النزاعات وممارسة الدبلوماسية الوقائية أثناء الأزمات الدولية.
تتمثل رؤية الأمين العام في تركيز عمل المنظمة على السلم والأمن في الوقاية ومن خلال زيادة الجهود الدبلوماسية المبذولة في سبيل السلام، مما يؤكد كرة أخرى على المهمة التأسيسية للمنظمة.
اتخذ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش خطوة نادرة يوم الأربعاء 06 ديسمبر 2023 لتحذير مجلس الأمن رسميا من تهديد عالمي تمثله حرب غزة في الوقت الذي تسعى فيه الدول العربية لاستغلال ذلك لدفع المجلس إلى الدعوة إلى وقف إطلاق النار خلال أيام.
فللمرة الأولى منذ توليه الأمانة العامة للمنظمة الدولية في 2017، عمل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، على تفعيل نص المادة 99 من ميثاق المنظمة الأممية، محذرا من أن النزاع بين إسرائيل وحماس “يمكن أن يعرض حفظ السلام والأمن الدوليين للخطر”.
المادة 99 السلاح الأقوى في الميثاق الأممي
من بين المواد الخمس في ميثاق الأمم المتحدة التي تحدد مهام ووظائف الأمين العام الأممي، تعد المادة 99 الأكثر أهمية، لأنها تختص بالسلام والأمن الدوليين. فهي تمنح الأمين العام سلطة “لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين”.
وبهذه الطريقة، تسمح المادة 99 للأمين العام ببدء مناقشة في مجلس الأمن حول قضية معينة للضغط على الأعضاء لاتخاذ إجراءات وخطوات حاسمة في الأمر لحفظ الأمن والسلم الدوليين.
وكان، داغ همرشولد، الذي شغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة، (10 أبريل 1953 إلى 18 سبتمبر 1961)، قال إن المادة 99 “أهم من أي مادة أخرى، لأنها حولت الأمين العام من مسؤول إداري بحت إلى مسؤول يتمتع بمسؤولية سياسية واضحة”.وحين فكر واضعو ميثاق الأمم المتحدة بإدراج المادة 99، فإنهم كانوا معنيين بإسناد مسؤولية للأمين العام للأمم المتحدة “تتطلب ممارسة أسمى الصفات، الحكم السياسي واللباقة والنزاهة”.
والهدف الأساسي من المادة 99 هو التعامل مع الحالات التي تواجه فيها ديناميكيات مجلس الأمن صعوبات في التوصل إلى اتفاق بشأن مناقشة الصراعات الناشئة، وذلك لأن لفت انتباه المجلس إلى الحالات التي تشكل خطرا على الأمن والسلم الدوليين من شأنه أن يدفع أعضاء المجلس إلى التركيز على دورهم في منع نشوب الصراعات، وتفعيل مجموعة أدوات منصوص عليها في الفصل السابع. وهذا قد يدفع المجلس إلى اتخاذ خطوات فعالة.
والتفكير في إدارج المادة 99 جاء نتيجة لإدراك مجلس الأمن الدولي منذ فترة طويلة بالحاجة إلى الإنذار المبكر بالأزمات الدولية الوشيكة، لتكون مهام مجلس الأمن الدولي منصبّة على الوقاية أكثر من التعامل المتأخر مع المشاكل التي تهدد الأمن والسلم الدوليين.
ورغم أن الوقاية غالبا ما يتم تبنّيها كهدف للمجلس، إلا أنه كان من الصعب تنفيذها. فغياب الإنذار المبكر، وتحليل المخاطر، والقدرة على جمع المعلومات الاستخبارية، كان من بين الأسباب التي أدت إلى فشل الأمم المتحدة في الرد على الإبادة الجماعية في رواندا وسربرينيتسا (البوسنة والهرسك)، في عامي 1994 و1995 على التوالي.
ونادرا ما يتم اللجوء إلى المادة 99، وكانت المرة الأولى التي أدى فيها استخدم المادة 99 إلى اتخاذ مجلس الأمن الدولي كإجراء، هي رسالة ”داغ همرشولد المؤرخة في 13 يوليو عام 1960، والتي يطلب فيها عقد اجتماع عاجل للمجلس بشأن أزمة الكونغو.
وبينما لم يشير الأمين العام على وجه التحديد إلى المادة 99، فقد استخدم لغتها عندما قال: “يجب أن ألفت انتباه مجلس الأمن إلى مسألة، في رأيي، قد تهدد صون السلم والأمن الدوليين”. وأدى الاجتماع الذي عقد عقب رسالة داغ همرشولد إلى تفويض المجلس في اليوم التالي لعملية عسكرية تابعة للأمم المتحدة لمساعدة حكومة الكونغو.
مضمون خطاب جوتيريش الموجّه لرئيس مجلس الأمن؟
أرسل جوتيريش للمرة الأولى منذ توليه المنصب، خطاباً إلى رئيس مجلس الأمن يفعّل فيه “المادة 99” من ميثاق الأمم المتحدة، وقال: “أكتبُ إليكم بموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لكي أسترعي انتباه مجلس الأمن إلى مسألة أرى أنها قد تفاقِم التهديدات القائمة التي تكتنف صون السلم والأمن الدوليين”.
ويلاحظ أن الجزء الأخير من القرار (قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين) هو المهم – فالأمم المتحدة تأخذ مخاطر حدوث أزمة إقليمية كبرى على محمل الجد، إذ يخشى الخبراء أن يمتد الأمر إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن.
كما أن هذه المادة حولت الأمين العام من مسؤول إداري بحت، إلى مسؤول يتمتع بمسؤولية سياسية واضحة. وقد تمت الإشارة في نهاية خطاب غوتيريش إلى هذا الخطر قائلاً: إن الحرب لها “تداعيات محتملة لا رجعة فيها على الفلسطينيين ككل، وعلى السلام والأمن في المنطقة”.
وأشار الأمين العام في خطابه إلى أن “أكثر من 8 أسابيع من الأعمال العدائية في غزة وإسرائيل، أدّت إلى معاناة إنسانية مروعة”، لافتاً إلى “سقوط أكثر من 1200 شخص، من بينهم 33 طفلاً، وإصابة الآلاف في الهجمات الرهيبة التي نفذتها (حماس) وغيرها من الجماعات الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023”.
وبيّن جوتيريش أن “المدنيين في أنحاء غزة يواجهون خطراً جسيماً، حيث أفادت التقارير بسقوط ما يزيد عن 15,000 شخص، أكثر من 40% منهم من الأطفال. وأُصيب آلاف آخرون بجروح”، مشيراً إلى “تدمير أكثر من نصف جميع المنازل في غزة، والتهجير القسري لنحو 80% من السكان البالغ عددهم 2.2 مليون شخص، إلى مناطق متقلصة في المساحة”.
وأكد جوتيريش على “عدم وجود مكان آمن في غزة”، و”عدم وجود حماية فعالة للمدنيين”، متحدثاً عن “انهيار نظام الرعاية الصحية، وتحول المستشفيات إلى ساحات للمعارك”.
ولفت إلى “قرار مجلس الأمن رقم 2712 الذي يدعو إلى توسيع نطاق توصيل الإمدادات لتلبية الاحتياجات الإنسانية للسكان المدنيين وخاصة الأطفال”، وقال إن “الظروف الراهنة تجعل القيام بالعمليات الإنسانية ذات المغزى، أمراً مستحيلاً”.
وحذر الأمين العام “من الخطر الجسيم لانهيار النظام الإنساني”، معتبراً أن “الوضع يتدهور بسرعة نحو كارثة بعواقب قد لا يمكن عكسها على جميع الفلسطينيين وعلى السلم والأمن في المنطقة، ونحن، مع ذلك، نُعِدّ خيارات لرصد تنفيذ هذا القرار، حتى لو كنا ندرك أن ذلك متعذر في ظل الظروف الراهنة”.
وبينما يستمر إيصال الإمدادات إلى غزة عبر معبر رفح، وصف الأمين العام الكميات “بغير كافية”، وقال: إنه “تم تقوّضت قدرة وكالات الأمم المتحدة وشركائها في مجال العمل الإنساني بفعل نقص الإمدادات ونفاد الوقود وانقطاع الاتصالات وتنامي انعدام الأمن”.
ولفت إلى “قتل ما لا يقل عن 130 من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وكثيرون منهم قُتلوا مع أُسرهم”، محذراً من “التدهور السريع إلى كارثة بما تنطوي عليه من تداعيات ربما لا يكون ثمة سبيل إلى إزالتها وعكس مسارها على الفلسطينيين عن بكرة أبيهم، وعلى السلام والأمن في المنطقة”.
وشدد على ضرورة “تجنّب مثل هذه النتيجة بكل السبل الممكنة”، داعياً المجتمع الدولي لـ”استخدام نفوذه من أجل منع حدوث مزيد من التصعيد ولإنهاء الأزمة”، كما حث جوتيريش أعضاء مجلس الأمن على “الضغط لتجنب وقوع كارثة إنسانية”، مجدداً مناشدته لـ”إعلان الوقف الإنساني لإطلاق النار لدواعٍ إنسانية”، واصفاً ذلك بـ”الأمر الملحّ”.
أما وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية: فقد صرح بمسائل خطيرة تدعم خطاب جوتيريش:
-لم يعد أي طرف قادرا على الحديث عن مكان آمن في قطاع غزة.
-لا يمكننا الحديث عن برامج إنسانية في قطاع غزة حاليا.
-المدنيون عالقون في غزة ونحاول العمل على إدخال المزيد من المساعدات.
-لا توجد مناطق أمنة في غزة رغم دفعهم للتوجه إلى جنوب القطاع.
دوافع لجوء جوتيريش إلى تفعيل أقوى أدواته؟
المتحدث باسم الأمم المتحدة “ستيفان دوجاريك” أرجع سبب تفعيل “المادة 99” إلى “اقتراب الأمم المتحدة من نقطة الشلل التام لعملياتها الإنسانية في غزة، في مكان قُتل فيه حوالي 15 ألف شخص، و130 من العاملين بالأمم المتحدة”. موضحا أن الأمين العام للأمم المتحدة “لا يستخدم كلمة كارثة باستخفاف”، معرباً عن أمله في أن يستمع مجلس الأمن لدعوة جوتيريش.
واتهم سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان جوتيريش بأنه بلغ “انحطاطا أخلاقيا جديدا” بإرسال الرسالة إلى مجلس الأمن، مضيفا أن “دعوة الأمين العام لوقف إطلاق النار هي في الواقع دعوة لإبقاء حكم حماس الإرهابي في غزة”.
وفي تعبير عن الانزعاج والغضب بسبب ما تحدث به غوتيريش، كتب وزير الخارجية كوهين عبر منصة “إكس” (تويتر سابقا) “إن ولاية غوتيريش تشكل خطرا على السلام العالمي”. مشيرا إلى أن “طلبه تفعيل المادة 99 والدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة يشكل دعما لمنظمة حماس الإرهابية وتصديقا على قتل المسنين واختطاف الأطفال واغتصاب النساء”.
تاريخ استخدام المادة 99
وإذا قمنا بجرد لتاريخ الأمم المتحدة في التعامل مع الصراعات والنزاعات نجد أنه من بين أكثر من 100 صراع تدخل فيها الأمين العام، لم يتضمن سوى عددا قليلا جدا منها اللجوء رسميا لاستخدام المادة 99.
وبالإضافة إلى ثلاث دعوات صريحة اعترفت بها الأمم المتحدة (الكونغو 1960، وإيران 1979، ولبنان 1989)، هناك أكثر من 12 استدعاء ضمنيا في مجلس الأمن. ومع ذلك، كانت معظم هذه التحذيرات متأخرة أو بيانات تأييد للتحذيرات التي قدمتها الدول الأعضاء بالفعل.
وكانت بعض التحذيرات التي أطلقها أمناء عامون للأمم المتحدة تتم في اجتماعات غير رسمية لمجلس الأمن، بمعنى أنها لا تستند مباشرة إلى المادة 99، كما تفسرها الأمم المتحدة، حيث أن الأمين العام لم يضع في تلك الحالات بندا جديدا على جدول أعمال مجلس الأمن أو دعا إلى عقد اجتماع خاص .
لقد أدرك مجلس الأمن منذ فترة طويلة الحاجة إلى الإنذار المبكر بالأزمات الدولية الوشيكة. في اجتماع عقد عام 1985 بشأن مسؤولية مجلس الأمن في صون السلام والأمن الدوليين، أشار الأمين العام خافيير بيريز دي كوييار إلى أنه “بما أن الأزمات تعرض في كثير من الأحيان على المجلس في وقت متأخر للغاية بحيث لا يستطيع اتخاذ إجراءات وقائية، فيبدو أن ذلك يترتب على ذلك وربما يضع المجلس إجراء لإبقاء العالم تحت المراقبة المستمرة من أجل اكتشاف الأسباب الناشئة للتوتر”.
في اجتماع القمة الأول للمجلس في كانون الثاني/يناير 1992، كلف أعضاؤه الأمين العام بتقديم “تحليلات وتوصيات بشأن سبل تعزيز وزيادة كفاءة […] قدرة الأمم المتحدة في مجال الدبلوماسية الوقائية”. ووافق البيان الرئاسي المعتمد في اجتماع القمة على أن التحليل والتوصيات “يمكن أن تغطي دور الأمم المتحدة في تحديد الأزمات المحتملة ومناطق عدم الاستقرار” . رداً على ذلك، أصدر الأمين العام بطرس بطرس غالي “خطة للسلام”، وهو تقرير حدد فيه، من بين أمور أخرى، عدداً من عمليات الدبلوماسية الوقائية الإضافية ودعا إلى زيادة اللجوء إلى تقصي الحقائق “من قبل الأمين العام لتمكينه من الوفاء بمسؤولياته بموجب الميثاق، بما في ذلك المادة 99.
وفي الآونة الأخيرة، في أزمة ميانمار التي تسببت بتهجير نحو 750 ألف مسلم من الروهينغا إلى بنغلاديش، كتب الأمين العام أنطونيو غوتيريش إلى أعضاء المجلس خطاباً حثهم فيه على بذل جهود متضافرة لمنع المزيد من التصعيد لأزمة لاجئي الروهينغا في ولاية راخين، داعياً المجلس إلى “الضغط من أجل ضبط النفس والهدوء لتجنب كارثة إنسانية”.
ومع أنه لم يستشهد بالمادة 99، فقد اختار أن يلفت انتباه المجلس إلى الوضع، وأدى ذلك إلى أول إحاطة عامة بشأن ميانمار منذ عام 2009، حيث تحدث الأمين العام عن الإجراءات الفورية التي يتعين اتخاذها.
وعلى الرغم من أن المجلس تمكن من اعتماد بيان رئاسي بشأن ميانمار في نوفمبر 2017، فإنه ظل منقسماً بشأن اتخاذ إجراءات أقوى. وفي يونيو 2019، أعربت مراجعة مستقلة لعمل منظومة الأمم المتحدة في ميانمار في الفترة التي سبقت النزوح الجماعي للروهينغا عن أسفها لأن الدول الأعضاء لم تقدم للأمم المتحدة الدعم السياسي اللازم لاتخاذ إجراءات فعالة. والأهم من ذلك أنه في الغالبية العظمى من الصراعات التي شهدها العالم، لم يتم تقديم أي تحذير على الإطلاق يستند إلى المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة.
الحالات التي استخدم فيها أمناء عامون للأمم المتحدة المادة 99 للتنبيه، بشكل مباشر أو ضمني، لقضايا وصراعات اعتبروها تهديدا للأمن والسلم الدوليين:
قائمة الحالات التي استُخدم فيها أمناء عامون للأمم المتحدة المادة 99:
- كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية عام 1950.
- لاوس وفيتنام عام 1959.
- الكونغو عام 1960.
- تونس عام 1961.
- اليمن عام 1963.
- الأزمة القبرصية عام 1974.
- الحرب الأهلية في لبنان عام 1975.
- غزو إسرائيل ولبنان عام 1978.
- أزمة رهائن السفارة الأمريكية في طهران عام 1979.
- الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.
- الحرب في لبنان عام 1989.
- حرب إسرائيل على غزة عام 2023
تجاذبات السياسة وحدود التأثير الدبلوماسي للأمين العام الأممي
أشرنا في السابق إلى أن الأمين العام هو الموظف الإداري الأول في الأمم المتحدة، مهامه ذات طابع إداري أساسا، فهو الساهر على حسن تدبير وتسيير المنظمة وعلى التطبيق السليم للقرارات وتوصيات وبرامج سياسات مجموع الأجهزة الأخرى للمنظمة.
وكما يشير تقرير اللجنة التحضيرية للأمم المتحدة بتاريخ 23 ديسمبر 1945، فإن “المسؤولية التي يعهد بها إلى الأمين العام ستتطلب ممارسة أسمى الصفات”. الحكم السياسي واللباقة والنزاهة “.ويجب على الأمين العام أن يتخذ خطوات فورية مباشرة بعد تعيينه لإنشاء التنظيم الإداري الذي سوف يسمح له بالتنفيذ الفعال لوظائفه الإدارية والعامة و المسؤوليات بموجب الميثاق والأداء الفعال تلك الوظائف والخدمات المطلوبة لتلبية احتياجات العديد أجهزة الأمم المتحدة.
إن الأمين العام للأمم المتحدة بحكم منصبه والاختصاصات والمهام الواسعة الموكلة إليه بمقتضى الميثاق، وبحكم طريقة تعيينه، تجعله يتمتع بهالة دولية وسلطة معنوية قد تترجم إلى تأثير دبلوماسي فعال ومؤثر، بل وتمكنه من القيام بدور سياسي نشيط في الساحة الدولية، داخل وخارج المنظمة. إن للأمين العام الأممي تأثير في سير عمل المنظمة الدولية وله بصمته في كيفية تعاطيها مع الأحداث والأزمات الدولية.
وقد كشفت تدخلات الأمين العام في بؤر التوتر والأزمات الإقليمية والدولية عن دوره البارز وتأثيره على مجريات الأحداث، مما ولد تحفظا من جانب الدول الكبرى اتجاه الأمين العام. فقد تحامل عليه الاتحاد السوفيتي السابق بتهمة العمالة والانحياز للغرب، فقد رفض انتخاب “تريكيف لاي” (1953)، ومرة حاول إرغام “داغ هامرشولد ” على الاستقالة (1960). أما الولايات المتحدة الامريكية فقد هاجمت الأمانة العامة في فترة الحرب الباردة بتهمة التجسس، ومع مطلع الثمانينات بتهمة الفساد.
إن حدود التأثير الدبلوماسي للأمين العام تبدو جلية بفعل تدخلات القوى العظمى وإمساكها بخيوط الأزمات والتحكم في مجريات الأمور . خصوصا فيما يتعلق بتمويل ميزانية الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وعمليات حفظ السلام في العالم.. وأي تصريح غير مسؤول للأمين العام للأمم المتحدة قد يتسبب له في تداعيات خطيرة…ليس هو فقط بل حتى الوسطاء والمبعوثين الشخصيين لبؤر التوتر .. و نستشهد هنا بعملية اغتيال الكونت برنادوت الوسيط الاممي الى فلسطين بعد التقسيم عام 1948 على يد عصابات صهيونية..وقد لقي داغ همرشولد ايضا مصرعه (في ظروف غامضة) عام 1961 في حادث تحطم طائرته في الكونغو في طريقه لزامبيا لحل أزمة الكونغو آنذاك.
ويرى بعض الخبراء ان دور الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس قد لا يختلف كثيرا عما سبقه، بسبب هيمنة بعض الجهات والدول المتنفذة، وخصوصا الدول الخمس دائمة العضوية (روسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة)، التي تمتلك بحسب بعض المصادر حق الفيتو والاعتراض على أي قرار يقدم لمجلس الأمن دون إبداء أسباب، ولم يرد لفظ “فيتو” في ميثاق الأمم المتحدة، بل ورد لفظ “حق الاعتراض” وهو في واقع الأمر “حق إجهاض” للقرار وليس مجرد اعتراض. إذ يكفي اعتراض أي من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ليتم رفض القرار وعدم تمريره نهائياً. حتى وإن كان مقبولاً للدول الأربعة عشر الأخرى.
يبقى تدخل الأمين العام للأمم المتحدة في أحداث غزة متواضعا ومقتصرا على التنديد والتذكير بالأسلحة القانونية التي تمتلكها أجهزة المنظمة، فللولايات المتحدة مصالح حيوية مع إسرائيل، ولايمكن أن تقبل أي خطة أممية لا تتناغم مصالحها في الشرق الأوسط.
الحقيقة التي لا جدال فيها أن تفعيل هذه المادة تعكس وضعا نفسيا مريعا للأمين العام وأنه وصل حافة اليأس من إنقاذ المدنيين في غزة، الذين قد يهلكون ليس فقط بسبب القنابل والصواريخ التي تنزل على رؤوسهم وعلى بيوتهم، بل بسبب الأوبئة والجوع والعطش ونقص الدواء وانعدام القدرة على معالجة الجرحى وتوفير الحواضن للأطفال الخدج وتأمين المحروقات لتشغيل المستشفيات وسيارات الإسعاف. الأمين العام يبرئ نفسه ويريد أن يلقي اللوم على مجلس الأمن، وهو مصيب تماما في ذلك، وقد رأينا صعوبات التوافق حول قرار ملزم لإسرائيل بفعل حق النقض وتضارب مصالح القوى العظمى وتشابكها.
وبالتالي فمن المستبعد أن يؤثر الأمين العام في أحداث غزة خاصة والقضية الفلسطينية عموما، ربما كان ذلك ممكنا في أزمات إقليمية أخرى غير القضية الفلسطينية.