إعداد:
د. أكرم حسام – رئيس مركز السلام للدراسات الاستراتيجية
د. حسام يونس – باحث فى العلوم السياسية – فلسطين
مقدمة
بدأ الجيش الأميركي بتشييد “رصيف بحري مؤقت” على ساحل غزة في 25 أبريل 2024م، بزعم تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين داخل القطاع، في الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لشن هجوم بري واسع النطاق على مدينة رفح. وحسب ما تم رصده سيقوم الجيش الإسرائيلي بنشر لواء في قطاع غزة مهمته حماية وتأمين الرصيف البحري وسط القطاع بناءً على طلبٍ من الولايات المتحدة ، وذلك في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية الهادفة للتخلص من حكم حركة حماس في غزة ، إلى جانب تحقيق أهداف استراتيجية أخرى تخص الملف الفلسطيني من ناحية ودور إسرائيل الإقليمي من ناحية أخرى.
وإذا افترضنا صدق النوايا الأمريكية في مسألة الضغط باتجاه صفقة توقف الحرب وتنهي أزمة الرهائن، فما الجدوى إذن من إنشاء الميناء والممر، وإذا علمنا أن إسرائيل مؤيدة للفكرة وداعمة لها بل أنها تركز عملياتها حالياً في منطقة غرب شارع الرشيد في الجهة المقابلة لمكان إنشاء الميناء وتحشد قوات هناك، فلابد أن الأمر ليس له علاقة بسياق الحرب الحالي بل هو أبعد من ذلك، وإذا علمنا أن دول بالمنطقة داعمة ومشتركة في إنشاء هذا الميناء والممر فلابد هنا أن نتوقف كثيراً أمام هذا المشروع الذي يقال أنه مؤقت، لكن على ما يبدو أنه ليس مؤقتاً، بل قد يكون تمهيداً لتغيرات محتملة في مسار إدخال المساعدات الخارجية لغزة بعيداً عن مصر وإخراج معبر رفح من المعادلة الإنسانية، كما قد يرتبط في مجمله بمشروعات نقل استراتيجي اقليمية جرى الحديث عنها في أكثر من موضع منها مشروع الممر الهندي.
في هذا السياق يطرح مركز السلام للدراسات الاستراتيجية قراءة تحليلية للممر البحري بين غزة وقبرص لمعرفة المواقف الدولية من الممر البحري، والدوافع نحو إنشائه، والأهداف السياسية والاستراتيجية للدول المعنية به، وتداعيات ذلك على الفلسطينيين، والحرب على غزة، وعلى القضية الفلسطينية برمتها.
الأسباب المُعلنة وراء فكرة الميناء العائم والممر البحري:
في ظل استمرار حرب الإبادة والتجويع الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والأوضاع الإنسانية التي تتجاوز الكارثة، واستسلام الإرادة الدولية للقيود الإسرائيلية على إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع من المعابر البرية، وفشل الإنزال الجوي في إطعام الجائعين في غزة، أصدرت المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة وقبرص والإمارات العربية المتحدة بياناً مشتركا بشأن تفعيل ممر بحري لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة في 8 مارس 2024م، تضمن على أن الوضع الإنساني في قطاع غزة مأساوي، حيث إن الفلسطينيين في القطاع بحاجة ماسة إلى الاحتياجات الأساسية.
وأعلنوا عن عزمهم فتح ممر بحري لإيصال المساعدات الإضافية التي تشتد الحاجة إليها عن طريق البحر، لتقديم مساعدات إضافية كافية، والتعاون مع كبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، وإعادة الإعمار في غزة، سيجريد كاخ، التي تتولى مهمة تسهيل، وتنسيق، والتحقق من تدفق المساعدات التي تصل إلى غزة بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2720، وبالتنسيق مع إسرائيل.
فكرة الممر البحري بين غزة وقرص:
تعتبر فكرة الممر البحري بين غزة وقبرص ليست جديدة، بل كانت مطلباً للفصائل الفلسطينية في السابق، بعد إحكام الاحتلال الحصار على غزة وإغلاق كافة المعابر وعزل قطاع غزة عن العالم وخلال العدوان الأخير على قطاع غزة، أعيد طرح فكرة الممر مرة أخرى، لأغراض إمداد قطاع غزة بالمساعدات الإنسانية في ظل القيود الإسرائيلية على إدخال تلك المساعدات، ففي اجتماع الدول الأعضاء الـ 27 في المجلس الأوروبي في 26 أكتوبر 2023م، أكدوا على قلقهم من “تدهور الوضع الإنساني” في قطاع غزة. وطالبوا بإمكانية وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، بما في ذلك من خلال الممرات الإنسانية، والهدنات المؤقتة لتلبية الاحتياجات الإنسانية، ومع ذلك، ومن الناحية العملية، لم يحدد الأوروبيون استراتيجية واضحة لتوصيل المساعدات إلى الفلسطينيين في ظل الحصار البري والبحري المستمر الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر الماضي.
كما ترددت الفكرة بشكل أكثر وضوحاً من جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي طرح لأول مرة فكرة إدخال المساعدات عن طريق البحر، وتحدث الرئيس الفرنسي في مؤتمر صحافي في أعقاب القمة الأوروبية عن مشروع إنشاء “ممر إنساني بحري” من قبل “تحالف إنساني مع عدة دول أوروبية، لا سيما قبرص، لتكون بمثابة قاعدة خلفية”. وتخدث عن أدوار بعض الدول مثل اليونان كما أوضح ماكرون أن فكرة هذا الممر الإنساني البحري هي “نقل المرضى” أو “إجراء اتصال لنقل عناصر الرعاية والغذاء والضروريات الأساسية بشكل أسرع”، مؤكدا أنه تم إجراء “اتصالات” مع السلطات الإسرائيلية، وولكنها لم تتفاعل بشكل رسمي مع هذه المبادرة.
كذلك قدم الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس اقتراحاً بإنشاء الممر على زعماء الاتحاد الأوروبي في بروكسل منذ 26 أكتوبر الماضي، وتوقف بسبب عدم وجود ميناء فعال على ساحل غزة الذي يبلغ طوله 40 كيلومترًا، وحظيت بدعم العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بما في ذلك آيرلندا وإسبانيا وفرنسا وهولندا، بالإضافة إلى لبعض الدول العربية ، وعدم معارضة من بنيامبن نتنياهو للاقتراح، كما تم إبلاغ الحكومة الأميركية والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بهذا الاقتراح، والفرضية الأساسية لاقتراح قبرص هي التدفق المستمر لكميات كبيرة من المساعدات، التي يتم تسليمها عن طريق البحر، خلال “فترات التوقف الإنسانية” في القتال.
وفي 20 ديسمبر 2023م أعلنت الحكومة القبرصية استراتيجية للممر البحري مرة أخرى تعرف باسم مبادرة أمالثيا، والتي تم تقديمها في ميناء لارنكا، على لسان وزير الخارجية كونستانتينوس كومبوس ونظيره الإسرائيلي آنذاك إيلي كوهين. ووفقاً لمسئولين في الحكومة القبرصية الحالية إن الخطة لم تكن تخرج إلى النور إلى أن تدخلت الولايات المتحدة، مستخدمة ثقلها الدبلوماسي لإقناع إسرائيل بالسماح باستخدام ساحل غزة لأغراض إنسانية.
وتتألف المبادرة من 25 صفحة قد درست جميع السيناريوهات بعمق، وتحتوي على سيناريوهات قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى لكيفية وصول المساعدات بأمان إلى غزة، ويتعلق المدى القصير بنقل المساعدات من لارنكا إلى الشاطئ في غزة عبر مراكب الإنزال، والخطة متوسطة المدى تتمثل في إنشاء منصة عائمة، وهو ما يجري النظر فيه أيضًا، وعلى المدى الطويل، إنشاء ميناء مغلق في المنطقة الأوسع.
وبعد ثلاثة أشهر من ذلك الإعلان وهذا الحراك المحدود ، وقبل تاريخ 8 مارس 2024م ، بدا أن المبادرة قد نسيت حتى تم الإعلان عن زيارة فون دير لاين لميناء مدينة لارنكا ، وقبل زيارة فون دير لاين شرعت المنظمتين الخيريتين “الأذرع المفتوحة” Open Arms الإسبانية، و” المطبخ المركزي العالمي” (WCK)- وهي مؤسسة خيرية أسسها الشيف الشهير خوسيه أندريس- في التفاوض مباشرة مع إسرائيل لفتح الطريق، بالحوار مع وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق هو COGAT،” وفقاً أوسكار كامبس، مؤسس منظمة ” الأذرع المفتوحة”، المتخصصة في إنقاذ المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط.وأكد أن مجموعته كانت تخطط لعملية التسليم لمدة شهرين، أي قبل وقت طويل من إعلان رئيس المفوضية الأوروبية إطلاق الممر الآمن بميزانية المجموعة البالغة 3 ملايين يورو من التبرعات الخاصة. وتم اختبار مبادرة أمالثيا للمرة الأولى في أواخر ديسمبر الماضي بشحنة من 90 طناً من المساعدات بالتعاون مع المملكة المتحدة، ليس إلى شواطئ غزة، بل إلى بورسعيد في مصر، حيث تم نقل الشحنة بالشاحنات إلى رفح لرفض إسرائيل استقبال السفينة. فقد تمت مراجعة الخطة وعناصرها التخزين وأنظمة التحكم والمعدات – وطالما وتم اعتمادها كآلية لدعم أي مبادرة مساعدات أخرى في حال سماح الوضع الأمني بذلك.
فكرة الميناء العائم في غزة
بدأ الجيش الأميركي بتشييد “رصيف بحري مؤقت” على ساحل غزة في 25 أبريل 2023م، لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين داخل القطاع، في الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لشن هجوم بري واسع النطاق على مدينة رفح. وبدأت السفينة بينافيديز، في بناء المراحل الأولية للرصيف المؤقت والجسر في البحر.
وسيقوم الجيش الإسرائيلي بنشر لواء في قطاع غزة مهمته حماية وتأمين الرصيف البحري وسط القطاع بناءً على طلبٍ من الولايات المتحدة، أي أن الجيش الإسرائيلي سيقوم بتأمين وصول المساعدات على شاطئ غزة، ويمهد للبقاء لفترة طويلة في قطاع غزة، ومن ناحية أخرى سيتولى الجيش مسئولية توزيع المساعدات لجهات محلية على الأغلب ستكون منظمات غير حكومية في غزة، في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية الهادفة للتخلص من حكم حركة حماس في غزة.
وكانت وزارة الدفاع الأمريكية(البنتاجون) قد اعلنت في 9 مارس 2024م عن إن إنشاء ميناء إنساني مؤقت في مدينة غزة، والجسر الذي سيربطه باليابسة سيستغرق ما يصل إلى 60 يوماً، ويتطلب حوالي 1000 جندي أمريكي من سلاح الهندسة. وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد أعلن قبل المؤتمر الصحفي بيوم خلال خطاب حالة الاتحاد أنه أصدر تعليمات للجيش الأميركي لإنشاء ميناء مؤقت في ساحل غزة، مضيفاً أن المزيد من المساعدات الإنسانية ستدخل إلى غزة بحرًا عبر الميناء دون أن تطأ أقدام الجنود الأميركيين أرض القطاع .
تم تطوير مفهوم الرصيف المؤقت جزئيًا من قبل منظمة تسمى فوجبوFogbow، وهي مجموعة استشارية تتألف من موظفين سابقين في الجيش والأمم المتحدة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالة المخابرات المركزية. والعملية يشار إليها داخليًا باسم خطة الشاطئ الأزرق، ويدير فوجبو مسؤولون عسكريون ومخابرات أمريكيون كبار سابقون، وقال مسؤول قطري لشبكة CNN إنهم يستثمرون 60 مليون دولار في مبادرة الممر البحري، التي من المتوقع أن تتولى فوجبو زمام المبادرة التشغيلية فيها، بما في ذلك نقل المساعدات من الرصيف إلى الشاطئ وتسليمها للتوزيع.
وستنطلق السفن من الممر من جزيرة قبرص، حيث تقوم سفن الإغاثة بالرسو وتُفتش بعناية تحت إشراف إسرائيل، التي تحدد المواد المسموح بنقلها إلى القطاع. بعد ذلك، تتجه السفن نحو الميناء العائم الذي يمثل عنصراً رئيسياً في الممر البحري، والذي تعهدت الولايات المتحدة بإنشائه بينما تقوم إسرائيل بحمايته. موقع الرصيف البحري لم يتحدد بعد، ولكن من المتوقع أن يُبنى على بُعد حوالي 600 متر من شواطئ غزة، مما يُمكن السفن الشحن من الاقتراب منه بسبب وجود مياه عميقة تسمح للسفن الكبيرة بالمرور دون المخاطرة بسلامة الملاحة.
حسب الرواية الأمريكية سيسهم الميناء في توفير أكثر من مليوني وجبة غذائية يومياً لسكان القطاع المحاصر، وتواصل الولايات المتحدة التنسيق مع الدول الشريكة (لم يسمها المتحدث باسم البنتاجون) بشأن الميناء بما في ذلك إسرائيل التي ستكون مسؤولة عن الجانب الأمني، وتهدف الخطة -حسب المعلن منها حتى الآن – لمعالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة هناك، وإقامة ملاجئ مؤقتة ومستشفيات عائمة لعلاج جرحى الحرب، دون نشر أفراد أميركيين مباشرة في منطقة الحرب، والوحدات العسكرية المشاركة سيكون لها قدراتها الخاصة في حماية القوة. وستشارك في هذه الجهود قوات أمريكية، بما في ذلك لواء النقل السابع بالجيش المتمركز في فرجينيا، وستتضمن العملية بناء رصيف عائم في البحر يسمح للسفن بتسليم المساعدات، والتي سيتم بعد ذلك تحميلها على سفن الدعم البحرية وتفريغها على جسر عائم.
كما سيتم توجيه الجسر المكون من مسارين، والذي يبلغ طوله حوالي 1800 قدم، إلى موقع الهبوط على الشاطئ وتأمينه على الأرض بواسطة أفراد غير أمريكيين لم يحدد رايدر هويتهم. وقال العقيد بالجيش سام ميلر، قائد لواء النقل السابع (الحملة الاستكشافية) على متن سفن الإنزال التابعة للجيش، إن الرحلة قد تستغرق شهرًا وأن البناء قد يستغرق أسبوعًا آخر على الأقل – وأن ما يقرب من 500 من جنوده سيشاركون في المهمة، ومن المفترض بعدها أن تصل الشاحنات إلى الجسر لالتقاط ونقل المساعدات. وأشار ميلر إلى أنه بعد 36 ساعة فقط من أمر بايدن بالعملية، غادرت السفينة اللوجستية USAV General Frank S. Besson قاعدة لانغلي-يوستيس المشتركة، وإن سفينة MAritime Sealift Command الأكبر ستغادر فيرجينيا في الأيام المقبلة حاملة بعضًا من المعدات الأكبر حجمًا والمزيد من قطاعات الأرصفة الفولاذية.
وتنسق الولايات المتحدة مع دول أخرى في المنطقة والأمم المتحدة ومنظمات إنسانية لتحديد كيفية توزيع المساعدات بمجرد وصولها إلى البر، الأفراد الأمريكيين يبقون إما على الجسر أو على متن السفن، وتقدر تكلفته الأولى 35 مليون دولار، ولن يقلّ عمق الغاطس للسفن بالرصيف عن 17 متراً لاستيعاب جميع سفن المساعدات.
ومن المخطط له أن ستنقل هذه الشراكة بين القطاعين العام والخاص 200 شاحنة محملة بالمساعدات عبر بارجة من قبرص إلى غزة كل يوم. وقد وافقت قطر على مساهمة مالية كبيرة، وإن الولايات المتحدة تجري محادثات مع عدد من المنظمات الأخرى بشأن المساعدة في المشروع، لكن لم يتم إضفاء الطابع الرسمي على أي شيء بعد. وتجدر الإشارة إلى أن برنامج الأغذية العالمي (WFP)، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية(USAID)، قد اتفقتا مع الجيش الأمريكي لتوصيل المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر الممر البحري في حال الانتهاء من الميناء العائم.
وجدير بالذكر أن وزارة الدفاع قامت بنشر قدرات الخدمات اللوجستية المشتركة على الشاطئ (JLOTS) في العديد من البلدان والمناطق التي تحتاج إلى مساعدات إنسانية والإغاثة في حالات الكوارث على مر السنين، وكان آخر نشر لها دعمًا لتمرين تليمسان صابر Talisman Sabre، وهو تمرين دفاعي مشترك واسع النطاق بين أستراليا والولايات المتحدة في عام 2023م.
دور قبرص في المشروع:
على الرغم من أن التداعيات السياسية والاقتصادية الناجمة عن الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة قد توفر قوة دافعة لخطط إنشاء خط أنابيب ينقل الغاز الطبيعي البحري من إسرائيل إلى قبرص لمعالجته وشحنه إلى الأسواق الخارجية، فوفقاً وزير الطاقة القبرصي جورج باباناستاسيو، ان الحرب تضفي ثقلاً على كابل كهرباء مقترح تحت البحر بقدرة 2000 ميجاواط سيربط شبكات الكهرباء في إسرائيل وقبرص بالبر الرئيسي الأوروبي عبر اليونان، إلى جانب تدهور العلاقات الإسرائيلية- التركية قد ساهم في تضييق الخيارات المتاحة أمام إسرائيل لتصدير إمداداتها الفائضة من الغاز في ظل البدائل التي تقدمها قبرص المجاورة، وهذا يتعين على قبرص الاستفادة من هذه الفرصة الناشئة، فإن الممر البحري سيسهم في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين قبرص وإسرائيل، وفتح مجالات جديدة للتعاون بين الطرفين.
إن إنشاء الممر البحري قد يعيد قبرص إلى دائرة الضوء في المنطقة على صعيد دور الاتحاد الأوروبي ودعوته في وقف إطلاق النار، والإسراع في إيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع. ودعم عمل محكمة العدل الدولية، وطرح مبادرة أوروبية جديدة لاستئناف المسار السياسي وصولاً إلى حل الدولتين.
قد يساهم الممر البحري في تخفيف الأوضاع الإنسانية الكارثية في قطاع غزة، مع الضغوط الدولية على إسرائيل في وقف عدوانها على الشعب الفلسطيني في أن يدفع المنطقة إلى الاستقرار ويعود عليها بالنفع وخصوصاً في المسائل الاقتصادية كالنفط والغاز.
سياسة إسرائيل في إعادة هندسة قطاع غزة جغرافياً وسكانياً، من أجل تهجير سكان قطاع غزة إلى الخارج وهي مسألة تؤرق الجميع سواء في المنطقة العربية أو الأوربية على حد سواء، فمن الممكن أن يخلق هذا هجرة غير شرعية، وهي قضية تعاني منها قبرص حيث ارتفعت نسبة الهجرة غير الشرعية إلى 6% من عدد السكان البالغ مليون نسمة، كما أن قبرص هي أكثر دول الاتحاد الأوروبي تعالج طلبات الهجرة واللجوء بالنسبة لعدد سكانها.
و تعتمد قبرص على ما يلي:
- الموقع الجغرافي المتميز لقبرص، حيث أنها أقرب دول الاتحاد الأوروبي إلى غزة، حيث تبعد حوالي 380 كم.
- البنية التحتية الحديثة والمتطورة لموانئ قبرص، فمثلاً ميناء لارانكا هو ثاني أكبر ميناء في قبرص، يقع على الساحل الشرقي من الجزيرة، ويعود تأسيسيه إلى عام 1973م، وتبلغ مساحته 445م2، وتم توسعته وتحديثه بتكلفة 650 مليون يورو.
- الجالية الإسرائيلية في قبرص هي ثاني أكبر جالية، كما أن هناك علاقات وطيدة تربط قبرص بإسرائيل ثقافية واقتصادية وسياحية، وجدير بالذكر في هذا السياق أن ميناء لارنكا استضاف 1500 مقاتل من منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجهم من بيروت عام 1982م، كنقطة عبور إلى تونس.
- الخبرة الكافية لدى قبرص في إدارة عمليات الطوارئ، فعلى سبيل المثال ساهمت قبرص في توفير ممر إنساني من ميناء حيفا إلى ميناء لارنكا لإجلاء المواطنين الأجانب من إسرائيل، كما سمحت بتمركز قوات عسكرية في قبرص من دول مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، وهولندا لإجلاء رعاياها، ووفقاً لوزارة الخارجية القبرصية تم بالفعل إجلاء 1088 شخصاً من 35 دولة، في حالة انتشار الأزمة فقد يعني ذلك أنه سيتعين إجلاء ما يصل إلى 100 ألف شخص.
أهداف إسرائيل من الممر البحري بين غزة وقبرص
أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي السابق إيلي كوهين موافقة حكومته المبدئية على المقترح القبرصي، في 19 ديسمبر 2023، وفي اليوم التالي مباشرة أجرى كوهين، زيارة سريعة إلى لارنكا، التقى خلالها نظيره القبرصي “كونستانتينوس كومبوس”، وتفقد معه مركز التنسيق متعدد الأغراض “زينون” وميناء لارنكا الذي من المتوقع أن يعمل كنقطة انطلاق للممر البحري من قبرص إلى قطاع غزة.
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الممر البحري بين غزة وقبرص ليست جديدة فقد كانت مطلباً من لجنة كسر الحصار في غزة عام 2007م، وأعيد طرحها مرة أخرى عام 2018م خلال مفاوضات مع حركة حماس في صفقة شملت إعادة جثماني جنديين إسرائيليين كانت الحركة تحتجزهما.
وتهدف إسرائيل إلى تحقيق ما يلي:
- إن الممر البحري قد يساهم بفصل قطاع غزة اقتصادياً عن إسرائيل، أي إخراج قطاع غزة من تحت المسئولية الإسرائيلية باستثناء فرض الحضور الأمني وعدم العودة لأجواء ما قبل السابع من أكتوبر عام 2023م، وهذا ما تعلنه إسرائيل على لسان مسئوليها، مع أنه في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية طالما نتحدث عن البعد الأمني فلا يمكن الاستغناء على البعد الاقتصادي كأحد الأدوات المهمة التي تستخدمها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة على حدٍ سواء.
- خلق آلية جديدة في قطاع غزة دون أن تتولى حركة حماس أية مسئولية على المساعدات الإنسانية، وإطعام سكان القطاع.
- إنهاء أي دور لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، واستبدالها بهيئات إغاثية أخرى في غزة، ومن المتوقع أن يقوم جيش الاحتلال بإنشاء موقع عسكري بالقرب من شارع الرشيد على شاطئ البحر، وإنشاء أرض فضاء ستكون مخصصة لاستلام المساعدات الإنسانية وتوزيعها عبر جهات فلسطينية محلية إلى غزة وشمال غزة.
- تراجع الضغط الدولي على إسرائيل باعتبارها الجهة التي تمنع الغذاء عن سكان غزة وتجوعهم، وتخفيف العبء عن إسرائيل باعتبارها الجهة المسؤولة عن جلب الإمدادات الإنسانية إلى غزة.
- سعي إسرائيل إلى شراء ميناء في قبرص لاستخدام الميناء لتفتيش السفن التي تحمل المساعدات الإنسانية قبل وصولها إلى الميناء الذي تعمل الولايات المتحدة على إنشائه على سواحل غزة، لفك الحصار المفروض على موانئ إسرائيل وما قد يحمله المستقبل من تحديات للأمن القومي الإسرائيلي فيما يتعلق بالخدمات اللوجستية البحرية.
- ويبقى الهدف الاستراتيجي الأهم هو نجاح الحكومة الإسرائيلية في استدراج الولايات المتحدة للاقتراب أكثر لساحة حرب، لا يرغب بنيامين نتنياهو في إيقافها.
الموقف الفلسطيني من الممر البحري
يثير الممر البحري بالنسبة للفلسطينيين ثلاثة قضايا محورية، وهي:
1-تهجير الشعب الفلسطيني. منذ اللحظة الأولى التي تم الإعلان فيها عن مبادرة أمالثيا عقدت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينيين ممثلة في الوزير رياض المالكي سلسلة من اللقاءات مع وزير خارجية قبرص كونستانتينوس كومبوس، بناءً على طلب من الرئيس محمود عباس، وذلك بسبب مخاوف الحكومة الفلسطينية من الممر البحري على أن يكون الهدف منه هو إطالة الحرب الإسرائيلية على غزة، وأن يكون بوابة خلفية لتهجير الفلسطينيين إلى قبرص ومن ثم إلى دول أخرى، فقد أعلنت الحكومة الفلسطينية منذ موافقة إسرائيل على اقتراح قبرص بشأن الممر البحري عن رفضها لهذا الممر لما يترتب عليه من مخاطر تستهدف الوضع الديموغرافي في قطاع غزة، في ضوء عمليات القتل والتجويع، وقطع شريان الحياة عن القطاع.
وكانت قبرص تعي منذ البداية أن الممر من الممكن أن يثير مخاوف الحكومة الفلسطينية، فقد حرصت منذ البداية إلى فتح قنوات الاتصال مع الحكومة الفلسطينية للتأكيد على أن الممر البحري من أجل نقل المساعدات الإنسانية إلى السكان الفلسطينيين إلى القطاع، وتخفيف الأوضاع الكارثية التي يعيشونها، وأن السفن ستفرغ حمولتها، وستعود من شواطئ غزة فارغة، وبأنه سيتم التداول والاتفاق حول تعزيز وصول المساعدات الإنسانية بكميات أكبر إلى القطاع مع الجانب الفلسطيني قبل أي إجراءات تنفيذية.
وبالرغم من ذلك إلى أن الشكوك لازالت قوية عند الشعب الفلسطيني وحكومته بشأن الممر البحري، من أن تستغل إسرائيل هذا الممر في ضوء ترحيبها به من أن يكون الغرض منه التهجير، وهذا ما أعلن عنه رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق محمد اشتية في أكثر من مناسبة، إلى جانب خطط الحكومة الإسرائيلية التي يتم تسريبها إلى الإعلام بخصوص مخططات لسيناريو الفوضى عبر إدارة ذاتية لغزة، والعمل على استجلاب شركات أمن خاصة للعمل في القطاع.
2- السيادة الفلسطينية ومستقبل حل الدولتين بعد حرب غزة. لعله من المفيد أن نؤكد على أن الممر البحري كفكرة، وخطة، وتنفيذ، إلى جانب إنشاء ميناء عائم، قد تم بدون مشورة أو تشاور مع الحكومة الفلسطينية في رام الله ، فقد اقتصرت المواقف الدولية ، كما ذكرنا سابقاً مع الإشارة إلى الدور القبرصي أنها تبلغ الحكومة الفلسطينية بأنه سيتم تنفيذ ممر بحري لغزة، بعد الحصول على موافقة إسرائيل وبعض الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أنه يتم التعاطي مع الضفة الغربية وقطاع غزة ككيانين منفصلين، وهو ما ينسجم مع ما تريده إسرائيل من حيث التخلص من عبء غزة وفصلها تماماً عنها وعن الضفة الغربية، في ضوء سيناريو اليوم التالي للحرب على غزة، حيث سيكون لقطاع غزة منزوع السلاح وطريق مفتوح إلى العالم الخارجي عبر ممر بري وممر بحري، ويمكن اعتبار المبادرة العالمية لإيصال المساعدات إلى غزة عبر البحر، والخطة الأميركية الكبرى لبناء ميناء مؤقت لنفس الغرض، بمثابة تجربة للممر البحري. وعلاوة على ذلك، فإن إسرائيل ترفض أي دور للحكومة الفلسطينية بخصوص المساعدات الإنسانية وإيصالها لكافة مناطق قطاع غزة، بحجة أن بلاده لم تدخل قطاع غزة لتسلمه إلى السلطة الفلسطينية.
أهداف الولايات المتحدة الأمريكية من الممر البحري:
إن الإسهام الأمريكي في الممر البحري وإقامة ميناء عائم، يعطي صورة مزدوجة عن الموقف الأمريكي فهي تقدم الدعم الكامل لجيش لإسرائيل عسكرياً، وسياسياً، وإعلامياً، واقتصادياً، وفي نفس الوقت تريد أن تظهر بمظهر المغيث للشعب الفلسطيني من الأوضاع الكارثية التي يمر بها، كما أن إنشاء الميناء يتطلب ما يقرب من 60 يوماً، وهذا الفترة كفيلة بتفشي المجاعة أكثر في القطاع في ظل القيود الإسرائيلية على إدخال المساعدات براً، وفشل الإنزال الجوي للمساعدات، وعدم حل مشاكل التوزيع والأمن، كما أن إدارة جو بايدن لم توضح كيف سيتم دمج الميناء العائم مع جهود الدول الأعضاء.
من الواضح أن الرئيس بايدن وأركان إدارته يريدوا إرضاء القاعدة الانتخابية في الولايات المتحدة من أعضاء الحزب الديمقراطي، التي ترى بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بدون توقف، في ظل استعدادات جو بايدن لخوض الحملة الرئاسية لانتخابات عام 2024م.
من المحتمل أن تكون هناك أسباب اقتصادية هي من مجمل الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة لإنشاء الميناء ومنها موارد الغاز الطبيعي وطرق التجارة الدولية بالمنطقة، حيث يملك الفلسطينيون حقل غزة مارين (بدون صلاحية استخدام) المكتشف نهاية تسعينات القرن الماضي، ويقدر الاحتياطي في الحقل بـ1.1 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، أي 32 مليار متر مكعب. ومن ناحية أخرى تأمين أحد أبرز الممرات التجارية المرتقبة الممر الهندي-الأوروبي، والذي أعلن عنه في قمة مجموعة العشرين بالهند العام الماضي، والذي يعبر إسرائيل، سيكون منافسا لطريق الحزام والطريق الصيني، وهو هدف أمريكي لإضعافه عبر إيجاد طرق تجارية بين أسواق الشرق والغرب.
التحديات التي تواجه عمل الممر البحري بين غزة وقبرص:
- البطء المتوقع في عملية تقديم المساعدات إلى غزة، بعكس المعابر البرية وتحديداً معبر رفع حيث تستغرق الرحلة البحرية من قبرص لغزة ثلاثة أيام.
- تدمير الاحتلال لميناء غزة، وتعرضه لأضرار بالغة جعلته يخرج عن العمل، واستبدال الميناء بلسان بحري صغير، تم إنشائه خصيصاً للمساعدات من الأكوام الحجرية للسان البحري في خانيونس دمره الاحتلال من قبل.
- الافتقار للخدمات اللوجستية لتفريغ القوارب على الشاطئ، ثم تحميلها على الشاحنات.
- التفتيش “الأمني” الإسرائيلي لا تريد إسرائيل أن يتم جلب أي شيء أو منتج يمكن أن يكون مفيدا للشعب الفلسطيني وهناك قائمة طويلة من المواد “ذات الاستخدام المزدوج” التي تعتبر إسرائيل أنها يمكن استخدامها لأغراض عسكرية. بل إن إسرائيل لجأت إلى تفتيش نظام التحكم لدى قبرص للتأكد من أنه يتوافق مع معاييرها.
خاتمة
وفي التقدير أن الطريق البحري بين غزة وقبرص يعد في ظاهره خطوة مهمة للتخفيف من الكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، لكنه في باطنه يحمل أمور كثيرة من شأنها التأثير سلباً على مستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل قطاع غزة بالتحديد بل ومستقبل ومسار المساعدات التي تدخل القطاع عبر ميناء رفح المصري، الذي كان ولا يزال حتى وقت كتابة هذا التقرير شريان الحياة لأهالي غزة .
وبالنظر للتحديات اللوجستية والسياسية التي تواجه تنفيذ هذه الخطة، فإن هذا الممر والميناء وعلى خلاف ما يظهر بأنه مخصص لأغراض إنسانية وإنقاذ أرواح الفلسطينيين، فإنه يخضع لحسابات سياسية واستراتيجية وخصوصاً من جانب الاحتلال ، فالاحتلال حينما وافق على تفعيل الممر البحري بين قبرص وغزة ليس بغرض إطعام الفلسطينيين، والقضاء على المجاعة في قطاع غزة، بل لأنه يريد أن يتظاهر بهذا المظهر من جانب ومن جانب آخر يريد توظيف المساعدات الإنسانية عن طريق الممر البحري من أجل المساومة على الحياة ، بمعنى في ضوء قراءة الواقع والحقائق التي يفرضها الاحتلال الحربي الإسرائيلي على القطاع فإنه أنشأ ممر نتساريم-نسبةً إلى مستوطنة نتساريم كانت بالقرب من الموقع سابقاً- وأقام موقعين عسكريين مع أرض فضاء على شارعي صلاح الدين والرشيد، وبالنسبة للشارع الأخير فالموقع قريب من الميناء الجديد والمخصص لاستقبال المساعدات الإنسانية من الممر البحري، واستيعابها بعد تفتيشها في أرض الفضاء قبل توزيعها على محافظتي غزة وشمال غزة، وسيلجأ الاحتلال إلى المساومة بغية إنهاء أية نشاط للمقاومة الفلسطينية أي “الحياة مقابل الأمن”، فإذا مرت الأمور بهذه الطريقة دون رادع للاحتلال، واستسلام المجتمع الدولي لإرادة الاحتلال الإسرائيلي فإننا نكون قد تجاوزنا الكارثة بمراحل.
وعلاوة على ذلك، يثار السؤال في جدوى الميناء العائم، مع وجود سبعة معابر تحيط بالقطاع، تسيطر إسرائيل على ست منها، بالإضافة إلى مينائي أسدود وعسقلان، إلا إذا كان الهدف من ذلك هو فصل قطاع غزة عن عمقه المصري بالتحديد، ومحيطه العربي، وعزله عن العالم وأن تبقى لإسرائيل التحكم في كافة مناحي الحياة في قطاع غزة.