إعداد: أستاذ محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي ،جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب
تقديم:
بينما ينشغل العالم بمتابعة تصريحات ومواقف الرئيس ترامب الفجائية وغير النمطية والصدامية بطبيعة الحال مع الحلفاء قبل المنافسين لها أو الأعداء الخارجيين، هناك معركة أخرى يخوضها ترامب وفريقه لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة العميقة الأمريكية، سواء على مستوى التيارات السياسية والفكر السياسي، أو على مستوى القواعد الإنتخابية التقليدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، وكذلك فيما يتعلق بالتوازنات التقليدية بين السلطات الثلاث، بالإضافة إلى مراجعة أدوار بعض المؤسسات المؤثرة في دائرة القرار الأمريكي داخلياً وخارجياً.
هذه المعركة الداخلية لا تقل أهمية بالنسبة للمهتمين بالشأن الأمريكي عن متابعة التغيرات في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أوروبا وكندا والمكسيك والصين والشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها، مما يُعطى لهذا البعد ضرورة للتركيز عليه، بالنظر لتأثيره على المشهد السياسي الأمريكي بشكل عام . لذلك سنركز في هذا التحليل على محاولة كشف مسار هذه الخطة ومعرفة أهدافها، والفرص والتحديات التي تواجهها.
ترامب ومراكز القوة الداخلية بالنظام الأمريكي : رؤى إنتقامية أم خطط إصلاح:
بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2024، أظهر دونالد ترامب سلوكاً انتقامياً من خصومه الداخليين على المسرح السياسي، سواء من كان يعارض سياساته، أو من تسبب في تعريضه للمحاكمة والمثول أمام القضاء بتهم خطيرة، وكذلك كل من حاول إقصاءه عن المشهد السياسي الأمريكي وحرمانه من حقه في الترشيح للإنتخابات، بل أن الأخطر من كل هذا أن هذه العملية الإنتقامية تتسع لتشمل المؤسسات التي عارضته أو كانت ضد سياساته العامة، وتشمل مؤسسات فيدرالية عريقة ووكالات عابرة للحدود وهيئات لها ثقلها النسبي في هيكل النظام السياسي الأمريكي.
يبدو من مجمل هذه التحركات أنها ذات طابع انتقامي وإقصائي بصورة كبيرة، ويعود أغلبها لترسبات فترة ترامب الأولى ، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يخص مكتب التحقيقات الفيدرالي والمؤسسة القضائية بشكل عام، والتي اعتبرها ترامب خصماً له بكشل أساسي ولم تسلم طوال السنوات الماضية من انتقاداته الحادة لها. ففي مارس 2017، نشر ترامب مزاعم لا أساس لها على وسائل التواصل الاجتماعي حول تجسس مكتب التحقيقات الفيدرالي على حملته الرئاسية، ثم استعان بحلفائه في الكونغرس، مثل النائب الجمهوري ديفين نونيس، للتحقيق في تصرفات المكتب.لاحقًا، عين المدعي العام في إدارته، محققًا خاصًا، جون دورهام، للتحقيق في تعامل مكتب التحقيقات الفيدرالي مع ملف التدخل الروسي في انتخابات 2016. حاول ترامب دفع دورهام لإنهاء تحقيقه قبل انتخابات 2020، لكنه استمر حتى عام 2023. جاءت نتائج التحقيق مخيبة لآمال ترامب، إذ انتقد التقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي بسبب أخطاء تحليلية وتحيزات، لكنه لم يجد أي دليل على “مؤامرة الدولة العميقة” ولم يوجه اتهامات لأي مسؤول بارز في الاستخبارات أو مكتب التحقيقات الفيدرالي.
ومنذ خسارته في انتخابات 2020 أمام جو بايدن، لم يتوقف ترامب عن تكرار مزاعمه بشأن تزوير الانتخابات واعتبار نفسه ضحية لمؤامرة سياسية. ومع تصاعد القضايا القانونية ضده، بدءًا من التحقيقات في اقتحام مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021 وصولًا إلى التهم المتعلقة بالتلاعب بالانتخابات في ولاية جورجيا، زادت نبرته العدائية تجاه خصومه، خاصة داخل المؤسسة السياسية والقضائية.
أما بعد فوزه في الانتخابات، شدد ترامب مرارًا على أنه لا ينوي الانتقام من خصومه. ومع ذلك، يعكس الأمر التنفيذي الذي وقعه مؤخرًا توجهًا مغايرًا تمامًا، إذ يوجه الوكالات الحكومية للتحقيق في مزاعم “سوء السلوك” من قبل مسؤولي إدارة بايدن، مع تركيز خاص على وزارة العدل ووكالات الاستخبارات، لذلك فإن هذه التصريحات والمواقف قد أثارت تساؤلات عميقة حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية وما إذا كانت الولايات المتحدة مقبلة على مرحلة من التصفيات السياسية داخل أروقة الحكم.
استراتييجة ترامب لإعادة هيكلة الداخل الأمريكي:
يتبع ترامب وفريقه الحالي استراتيجية ” الإغراق والفوضى” وهذه الاستراتيجية يستخدمها خارجياً وداخلياً، لتشتيت انتباه العالم خارجياً، وتشتيت الداخل الأمريكي أيضاً من خلال إغراقهم بسيل متواصل ومتناقض أحياناً من التصريحات والمواقف والتحركات، تجعل من الصعب على الطرف الأخر أن يتابعها ويحللها ويفسرها ويجد الترابط فيما بينها، وهذا النمط من الأوامر والتصريحات الرئاسية التي تصدر بوتيرة سريعة للغاية تساعد على تفتيت المواقف المعارضة له من خلال إغراقهم في مساحة واسعة من التصريحات القابلة للتأويل من زوايا كل طرف وحسب إدراكه لها، والجزء الثاني من الاستراتيجية هو الفوضى، وتراهن هذه الاستراتيجية أن عملية الإغراق تؤدي إلى فوضى في المواقف المقابلة، هذه الفوضى ينتج ويتشكل عنها مواقف منضبطة وواضحة كرد فعل، ومن هنا نبدأ الحركة من نقطة قابلة للتفاهم من الطرف الأخر، لكنها في الوقت ذاته تعد تنازلاً من جانبه عن أسقف معينة ومعروفة .
وبالفعل يستخدم الرئيس ترامب كلمة هي: “فافو”، كاختصار لعبارة “اخلق الفوضى ثم رتبها” باستثناء أن الكلمة الأولى فيها ليست “فوضى”. وقد نشر الرئيس الأمريكي الاختصار على وسائل التواصل الاجتماعي، مصحوبا بصورة له وهو يرتدي قبعة فيدورا وقميصاً مخططاً. وفي نفس هذا السياق تتفق مع هذا الطرح الباحثة الفلسطينية منى حوا حيث تقول “إن ما يفعله ليس مجرد هراء سياسي، بل هو تلاعب استراتيجي محسوب يعتمد على خلق واقع وهمي بحيث تصبح الأفكار المستحيلة قابلة للنقاش، والمشاريع غير القابلة للتنفيذ تبدو وكأنها سيناريوهات مطروحة”. ، هذه ليست سياسة مرتجلة، بل أسلوب مدروس مستوحى من نظريات سياسية وإعلامية تستهدف إعادة تشكيل الوعي العام ودفع الخصوم إلى مواقع دفاعية بدلًا من إبقائهم في موقع الهجوم”.
أمثلة على استراتيجية “فافو” :
⦁ مثال طرح فكرة ضم كندا، نتج عنها تقبل كندا لمعاملة مختلفة وفرض رسوم جمركية عليها بنسبة 25% .
⦁ مثال تهديدات ضم قناة بنما للسيطرة الأمريكية ، وقرار إعفاء السفن الامريكية العابرة لقناة بنما من دفع الرسوم، نتج عنها موافقة حكومة بنما على الإنسحاب من مبادرة الحزام والطريق الصينية وهو المطلوب تحديداً .
⦁ خطة ترامب لشراء قطاع غزة وتحويله لمنتجعات سياحية وطرد الفلسطينين، ستجعل الدول المعنية بالقضية ومستقبلها تسرع في ترتيب أفكارها وتقديم خطط واضحة وإلتزامات معينة، بعض منها كان يمكن أن ترفض في السابق كلياً أو جزئياً – وذلك من أجل تفادي قبول خطة ترامب” غير الموجودة أصلاً ” ، وهو ما سيقود في النهاية للوصول لسقف الأهداف الأمريكية والممكنة والقابلة للتحقق.
أبرز الخطوات التنفيذية:
بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولايته الثانية بسلسلة من القرارات التي أصدرها وعكست الأولويات التي وردت فيما يسمى بمشروع 2025، وهو خطة طرحت من أجل إدارة ترامب الثانية ووضعتها مؤسسة التراث الأمريكية، وكتبها بشكل كبير المشاركون في إدارة ترامب الأولى، ومن أبرز القرارات التي صدرت بناءً على توصيات هذه المؤسسة ما يلي:
المساواة في أماكن العمل:
من بين أبرز البنود التي وردت في مشروع 2025 وظهرت في قرارات ترامب، إلغاء ما يُعرف بالحماية من التمييز. فقد ألغى ترامب أمرًا تنفيذيًا تاريخيًا وقّعه الرئيس ليندون جونسون عام 1965، والذي كان يُلزم المتعاقدين الفيدراليين باتخاذ إجراءات لتعزيز المساواة العرقية في أماكن العمل. وقد تضمن مشروع 2025 توصية بهذا الإجراء. ففي تقييمه لوزارة العمل ضمن المشروع، أوصى جوناثان بيري، المستشار القانوني في الفريق الانتقالي لترامب عام 2016، بإلغاء أمر جونسون التنفيذي وإغلاق مكتب تطبيق العقود الفيدرالية، المسؤول عن تنفيذ هذه السياسات. وجاء هذا القرار كجزء من أربع أوامر تنفيذية وقّعها ترامب خلال الأسبوع الأول من تنصيبه مستهدفًا برامج التنوع والمساواة والشمول، مستخدمًا في نصوصها لغة مستوحاة من مشروع 2025.
ملاحقة وتقييد حرية الصحافة والإعلام
أظهر ترامب توجهات معادية لبعض وسائل الإعلام الأمريكية التي ساهمت في كشف الفضائح الخاص به وشهرت به، فقلل وصوله للبيت الأبيض دعا ترامب إلى التحقيق مع الشركة الأم لشبكة NBC بتهمة الخيانة بسبب تغطيتها لمشكلاته القانونية. ووعد بأن القناة سوف تخضع “للتدقيق الدقيق بسبب تغطيتها غير النزيهة والفاسدة عن عمد” إذا انتُخب، كما وجه اتهاماته لشركة البحث العملاقة “جوجل” بأنها تقوم بـ «الكشف وعرض القصص السيئة فقط” عنه، وأعلن ترامب على منصته الاجتماعية أنه سيطلب “مقاضاتهم على أعلى المستويات”، عندما يفوز في الانتخابات.
كذلك أثناء مناظرته مع هاريس في سبتمبر 2024، طالب ترامب لجنة الاتصالات الفيدرالية بإلغاء ترخيص البث لشبكة ABC؛ كما دعا إلى سحب ترخيص قناة CBS، ووقف بث برنامج “60 دقيقة” على الفور، بعد اتهام البرنامج بتحرير مقابلة خادعة مع هاريس، كما رفع دعوى قضائية ضد الشبكة بسبب هذا الأمر، أيضًا.
التراجع عن التقاليد الأمنية المستقرة بين المؤسسات:
شملت هذه الإجراءات إلغاء التصاريح الأمنية لعدد من الشخصيات الاستخبارية البارزة، وإنهاء الحماية الأمنية لبعض المسؤولين السابقين، إلى جانب الترويج لسياسات تهدف إلى إعادة تشكيل الحكومة الفيدرالية وفق رؤيته. فخلال أسبوعه الأول في ولايته الثانية، أصدر ترامب أوامر تنفيذية ألغى بموجبها التصاريح الأمنية لـ 51 مسؤولًا استخباريًا سابقًا، من بينهم شخصيات بارزة مثل المدير السابق للاستخبارات الوطنية، جيم كلابر، والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، جون برينان.
يعود استهداف ترامب لهؤلاء المسؤولين إلى توقيعهم على رسالة عام 2020 زعمت أن تسريبات البريد الإلكتروني الخاصة ب “هنتر بايدن” تحمل “ملامح عملية تضليل روسية”، وهو ما أثار استياءه ودفعه لاتخاذ هذه الإجراءات ضدهم. تم توقيع الرسالة من قبل عدد من كبار المسؤولين السابقين في إدارة بايدن، بما في ذلك مدير الاستخبارات الوطنية السابق جيم كلابر، ومدير وكالة المخابرات المركزية السابق جون برينان ومديري وكالة المخابرات المركزية السابقين جون ماكلولين ومايكل موريل. ووزير الخارجية الأسبق مايك بومبيو، بالإضافة إلى الدكتور أنتوني فاوتشي، الذي لعب دورًا رئيسيًا في جهود مكافحة جائحة كورونا.
واتهم ترامب المسؤولين بالتنسيق مع حملة بايدن لإصدار الرسالة، وبموجب الامر الذي وقعه فسيقوم مدير الاستخبارات الوطنية، بالتشاور مع رئيس وكالة المخابرات المركزية، بسحب التصاريح الأمنية الخاصة بهم.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شمل أيضًا إنهاء الحماية الأمنية لمستشار الأمن القومي السابق جون بولتون.
كما أعلن مسؤولون في البيت الأبيض الأحد 09 فبراير 2025 أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قام بإلغاء التصاريح الأمنية لوزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي السابق جيك سوليفان. جاء هذا القرار بعد يوم واحد من إلغاء ترامب التصاريح الأمنية لسلفه جو بايدن، وإيقاف الإحاطات الاستخباراتية اليومية التي كانت تُقدم له. كما ألغى ترامب أيضاً التصاريح الأمنية لليزا موناكو، التي شغلت منصب نائبة وزير العدل في عهد بايدن، وكانت قد ساعدت في تنسيق تعامل وزارة العدل مع هجمات السادس من يناير 2021 على مبنى الكابيتول. كما ألغى ترامب التصاريح الأمنية للمدعية العامة لولاية نيويورك، ليتيتيا جيمس، والمدعي العام لمنطقة مانهاتن، ألفين براغ، واللذين قادا دعاوى قضائية ضد ترامب.
وعلل ترامب قراره بإلغاء التصاريح الأمنية لبايدن وإيقاف الإحاطات الاستخباراتية اليومية المقدمة له، قائلاً إنه لا يوجد ضرورة لأن يتلقى سلفه معلومات مصنفة كسرية. وأضاف ترامب: “لقد وضع بايدن هذه السابقة في عام 2021 عندما أصدر تعليماته لأجهزة الاستخبارات بمنعي من الوصول إلى تفاصيل تتعلق بالأمن القومي، وهي امتياز كان يُمنح تقليدياً للرؤساء السابقين”.
عرقلة سير القانون:
دعا ترامب إلى محاكمة المسؤولين السابقين في مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل الذين أجروا التحقيق بشأن تدخلات روسيا المزعومة، ومسؤولي الاستخبارات الأمريكية، منهم: المستشار الخاص جاك سميث: الذي تكلف بالتحقيق في ما يخص الوثائق السرية التي عُثر عليها في منتجع ترامب في مارالاغو بفلوريدا، وضم فريق سميث آنذاك مدعين عامين مخضرمين في مجال الأمن القومي أمضوا سنوات في وزارة العدل.وقد نجحوا في تأمين لوائح اتهام أمام هيئة محلفين كبرى تتهم ترامب باحتكار وثائق سرية بعد مغادرة البيت الأبيض وعرقلة جهود الحكومة لاستعادتها، ومحاولة إلغاء فوز بايدن في الانتخابات العام 2020 بشكل غير قانوني ، وبينما كان جاك سميث يتحرك لإنهاء قضيته المتعلقة بالتدخل في الانتخابات الفيدرالية ضد ترامب يوم الجمعة 08 نوفمبر 2024، اتخذ الجمهوريون في مجلس النواب خطوة أولية نحو التحقيق مع المستشار الخاص.
وبذلك أنهت الإدارة الأميركية الجديدة بالفعل خدمات ما يزيد على 12 من مسؤولي الادعاء الذين سعوا إلى توجيه اتهامات جنائية إلى ترامب في قضيتين دفع بهما المحقق الخاص جاك سميث لكن لم يتم قبولهما. كما أوقفت الإدارة جميع دعاوى الحقوق المدنية والبيئية وأمرت بإجراء تحقيقات جنائية مع المسؤولين الحكوميين والمحليين الذين يتدخلون في مبادرات ترامب المتعلقة بالهجرة.
كما أصدر ترامب عفوا عن نحو 1500 شخص من مقتحمي مبنى الكونغرس في السادس من يناير 2021، في أعقاب خسارته الانتخابات حينها ضد بايدن، كما وجه الأمر وزير العدل لإسقاط القضايا المتعلقة بشغب اقتحام الكابيتول. يخفف الأمر التنفيذي أحكاما صدرت ضد 14 عضوا من منظمتي “براود بويز” و”أوث كيبرز” اليمنيتين المتطرفتين، من بينهم أشخاص أدينوا بالتآمر في التحريض على العنف.
وقد أثار قرار العفو الذي أصدره ترامب انقسامًا واسعًا في المجتمع الأمريكي؛ حيث يعتبره مؤيدوه تصحيحًا لظلم وقع على بعض الأفراد، بينما يرى معارضوه أنه يُضعف سيادة القانون ويتجاوز المبادئ الديمقراطية.
هذه الخطوة قد تؤدي إلى زيادة الاستقطاب في المشهد السياسي الأمريكي، مع طرح تساؤلات حول تأثيرها على ثقة الجمهور في المؤسسات السياسية والقانونية. كما تُعد هذه القضية اختبارًا مهمًا للسياسات التي قد يتبناها ترامب خلال ولايته الرئاسية الحالية.
مفهوم ترامب للدولة العميقة وكيفية إصلاحها:
لاشك أن دوائر صنع السياسة الخارجية الأمريكية ومؤسسات الدولة العميقة لم تستسغ أبدا فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة خلال فترة رئاسته الأولى.هذه النخبة التي تضم مسؤولين حكوميين ومسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية ومفكرين استراتيجيين وأساتذة علاقات دولية وجنرالات متقاعدين، وجميعهم اتحدوا سابقا ضد دونالد ترامب حتى قبل أن يستقر في البيت الأبيض. وهو ما يفسر لجوء ترامب إلى خطاب المظلومية كأداة سياسية، مقدمًا نفسه كضحية لما يصفه بـ «الدولة العميقة” الغامضة والنافذة. فخلال ولايته الأولى، اتخذ خطوات متفرقة غالبًا بدافع الانتقام. فالرئيس ترامب يمتلك خطط طويلة الأمد لتفكيك البيروقراطية الفيدرالية، والتي يراها “موطن الدولة العميقة المكروهة”، واستبدال الموظفين المدنيين بآخرين موالين له، ففي عام 2021، اقترح السيناتور عن ولاية أوهايو جي دي فانس، زميل ترامب في الترشح لمنصب نائب الرئيس، في إحدى حلقات البودكاست “إقالة كل بيروقراطي من المستوى المتوسط، وكل موظف مدني في الدولة الإدارية، واستبدالهم بشعبنا”.
وقد اتخذ ترامب عدة قرارات للتعامل مع نفوذ المؤسسات العميقة المعارضة له وذلك من خلال ما يلي:
حوكمة الجهاز الفيدرالي:
لجأ ترامب إلى تقليص حجم الحكومة الفيدرالية عبر إصدار أمر تنفيذي لإنشاء مجموعة استشارية أطلق عليها اسم “إدارة كفاءة الحكومة”، والتي هدفت إلى تخفيض حجم الجهاز الحكومي الأمريكي. كما وقّع أمراً تنفيذياً آخر يقضي بتجميد التوظيف الحكومي وإيقاف اللوائح الاتحادية الجديدة، إلى جانب إلزام الموظفين الفيدراليين بالعودة الكاملة إلى العمل بنظام الحضور الشخصي. ويهدف ترامب بذلك إلى تحويل بعض الموظفين الدائمين إلى مناصب سياسية لتسهيل فصلهم واستبدالهم، وذلك عبر تفعيل المرسوم التنفيذي “الجدول F” الصادر عام 2020، والذي يهدف إلى تقليل الحماية الوظيفية للموظفين الفيدراليين وإنشاء فئة جديدة من الموظفين السياسيين. من المحتمل أن يؤثر هذا الإجراء على حوالي 50 ألف موظف من أصل 2.2 مليون موظف مدني في الحكومة الفيدرالية . ويمكن إرجاع فصل الآلاف من الخدمة في إطار إحياء ما يُعرف بـ”النظرية التنفيذية الموحدة”، التي تركّز على تعزيز قبضة السلطة التنفيذية في البيت الأبيض. هذه النظرية التي تحظى بتأييد تاريخي بين الجمهوريين، يمكن إرجاعها إلى فترة الرئيس الجمهوري السابق ريتشارد نيكسون الذي اشتهر بمقولته التي تفيد بأنه “عندما يقوم الرئيس بفعل شيء ما، فإن ذلك يعني أنه لا يمكن أن يكون غير قانوني”.
إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات
مع تولي ترامب منصبه الرئاسي للمرة الثانية، وضح توجهاته مع مجتمع الاستخبارات، وذلك من خلال اختياراته للمناصب القيادية والعليا بوكالة الاستخبارات الأمريكية حيث تم تعيين جون راتكليف لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية ، وتولسي غابارد مديرة الاستخبارات الوطنية، و كاش باتيل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، والتي اعتمدت في أغلبها على عامل الولاء الشخصي وليس الخبرة المهنية، حيث أن ثلاثتهم من المنتقدين السابقين لعمل أجهزة الاستخبارات والمشاركين لترامب رؤيته بشأن “الدولة العميقة”.
بالرجوع لتوصيات “مشروع 2025″، وهو الخطة التي أعدتها مؤسسة التراث “Heritage Foundation”، وهي مركز أبحاث محافظ، ويمكن أن نعتبرها مرجعية لتوقع بعض قرارات الرئيس ترامب الداخلية والخارجية، فمن المحتمل أن يصدر الرئيس ترامب أوامر لمدير وكالة المخابرات المركزية باستبدال رؤساء مراكز البعثات والمديريات – وهي الهيئات التي تشرف على عمل الوكالة في مختلف المجالات – لضمان أن تتناسب أنشطة الوكالة مع أجندته، كما يخشى من أن تقود بعض هذه السياسات إلى تقليص حجم مجتمع الاستخبارات، وتراجع جودة العنصر البشري به.
ويعتبر إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.من ضمن القررات التي ستؤثر على عمل وكالة الاستخبارات الأمريكية بالخارج، بحكم الدور والتسهيلات التي كانت تقدمها هذه الوكالة كمصادر المعلومات والترويج للقوة الناعمة الأمريكية بالإضافة لتسهيل التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات التعليم والتنمية والقطاع الخاص في بعض البلدان.
تشويه سمعة الوكالة الدولية للتنمية الدولية واتهامها بأنها زراع للإستخبارات الأمريكية بالخارج:
تعرضت هذه الوكالة تعرضت لانتقادات حادة وتهديدات بالإغلاق من جانب دونالد ترامب ، الذي ينتوي دمج الوكالة ضمن وزارة الخارجية وتقليص قوتها العاملة بحجة خفض الإنفاق الحكومي، وانتقدت إدارة ترامب أداء الوكالة واعتبرت أن العديد من برامجها لا تحقق نتائج فعالة، وخصوصًا في الدول التي تتلقى مساعدات مستمرة دون تقدم واضح. وقد سبق أن كتب إيلون ماسك (الذي كلفه ترامب خفض الإنفاق الفدرالي الأميركي وتعزيز الكفاءة الإدارية الفيدرالية) الوكالة في حسابه على منصة X أن الوكالة منظمة إجرامية متهما إياها بأنها “عش أفعى للماركسيين اليساريين المتطرفين، والذين يكرهون أميركا”، وأنها تقوم بـ”أعمال مخادعة لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية”، واتهمها بـ”تمويل أبحاث الأسلحة البيولوجية، بما في ذلك كوفيد-19، التي قتلت الملايين من الناس.
كما انتقد ترامب الوكالة باعتبارها أداة تُستخدم لدعم أهداف لا تتماشى دائمًا مع رؤيته للسياسة الخارجية، مثل تعزيز الديمقراطية أو دعم مشاريع تنموية في دول ليست حليفة قوية للولايات المتحدة . ودائما ما كان ترامب ينتقد المساعدات الخارجية التي تقدمها الولايات المتحدة. وجاء في نص الأمر التنفيذي الذي يقضي بتعليق هذه المساعدات أنها “لا تتماشى مع المصالح الأميركية، وفي كثير من الأحيان تتعارض مع القيم الأميركية”، مشيرا إلى أن هذه المساعدات “تُسهم في زعزعة السلام العالمي، من خلال الترويج لأفكار في الدول الأجنبية تتعارض بشكل مباشر مع العلاقات الداخلية والخارجية المتناغمة والمستقرة بين الدول.
كانت هناك خطط لدمج الوكالة داخل وزارة الخارجية لتقليل عدد الموظفين وتقليص نفوذ الوكالة ككيان مستقل. لذلك قرر ترامب تعليق عمل الوكالة، ووصفها بأنها منظمة “تديرها مجموعة من المجانين المتطرفين”، وأعلن عدد من المسؤولين في الإدارة أنه سيتم نقلها إلى إشراف وزارة الخارجية الأميركية، بهدف “القضاء على البيروقراطية الفيدرالية، وتخفيف الأعباء”. لكن ماسك أعلن لاحقاً أن الإدارة تعمل على إغلاق الوكالة نهائياً، وتسريح كل من يعملون فيها حوالي( 10 الاف موظف في العالم يتوزع ثلثاهم في أكثر من 60 بعثة قطرية وإقليمية حول العالم، سواء كانوا موظفين أو متعاقدين).
تكريس تبعية القضاء للسلطة التنفيذية
على الرغم من أن العلاقة المعقدة والمتبادلة بين السلطات الأمريكية الثلاث، والتي تُدار عبر نظام “الضوابط والتوازنات” (Checks and Balances) كإطار تنظيمي لمبدأ الفصل بين السلطات، فإن السلطة القضائية، بوصفها الحامية لمبدأ سيادة القانون وبما تتمتع به من سمعة طيبة واحترام واسع بين مختلف فئات المجتمع الأمريكي، ظلت محط اهتمام الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، الجمهوري والديمقراطي.
وقد سعى كل رئيس أمريكي، بمجرد توليه مهام منصبه في البيت الأبيض، إلى ترك بصمته على النظام القانوني من خلال إصدار سلسلة من القرارات التنفيذية، والضغط على الكونغرس لإقرار قوانين جديدة تتماشى مع أجندته السياسية، بالإضافة إلى إعادة تشكيل الجهاز القضائي عبر التعيينات الرئاسية على المستويين الفيدرالي والمحكمة العليا. وفيما يتعلق بدور الكونغرس، فإن الأوامر التنفيذية لا تتطلب موافقته المسبقة، كما أنه لا يملك سلطة إلغائها بشكل مباشر. لم تشهد الولايات المتحدة من قبل علاقة إشكالية ومتوترة بين النظام القضائي وما يمثله من منظومة تشريعية حاكمة، بما في ذلك الدستور، كما حدث خلال الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب وما تلاها من توترات وصراعات استمرت حتى الفترة التي سبقت توليه ولايته الرئاسية الثانية. فالخطوات المبكرة للإدارة الأمريكية تبدو أيضًا مصممة لإظهار أقصى قدر من الازدراء للقيم الدستورية الأساسية – فصل السلطات، حرية التعبير، والعدالة المتساوية أمام القانون. قد تصدر المحكمة، مع ذلك، حكمًا مبكرًا ومثيرًا ضد ترامب لتوجيه رسالة بشأن سلطتها واستقلاليتها. إلغاء أمر ترامب الذي يوجه المسؤولين برفض منح الجنسية لأبناء المهاجرين قد يكون مرشحًا جيدًا، لأنه يتعارض مع الفهم التقليدي للدستور وسوابق المحكمة.
الخلاصة
لا شك أن تركيبة النظام السياسي الأمريكي معقدة وبها الكثير من نقاط الإتزان التي صاغها المشرع الأمريكي ووضعها في الدستور قبل أكثر من ثلاثة قرون حتى الآن، وهذه النقاط للتوازن بين السلطات الثلاث قد تطورت مع التجربة السياسة الأمريكية الطويلة والمستقرة إلى حد كبير، لذلك سيواجه الرئيس ترامب الطموح نحو التغيير من الداخل تحديات كثيرة من المؤسسات التي يريد تغييرها أو تغيير بعض أعمالها أو دمجها أو استحداث هيئات جديدة .
من المعلوم أنه بمجرد توقيع الرئيس الأمريكي على أمر تنفيذي، فإنه يصبح نافذاً، لكن تنفيذه قد يستغرق بعض الوقت، حيث قد يحتاج إلى إجراءات من وكالات فيدرالية أو قد يخضع لتدقيق قانوني. في المقابل، تواجه هذه القرارات والوعود والتصريحات عقبات قانونية وسياسية، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
⦁ عقبات تنفيذ الأوامر القضائية. الدستور الأمريكي والضوابط المؤسسية تمنع الرئيس من التدخل المباشر في القضاء. ومع ذلك، يمكنه ممارسة ضغوط غير مباشرة عبر تعيين مدعين عامين موالين أو إعادة هيكلة المؤسسات التي يرى أنها “معادية”.
⦁ عقبات تنفيذ الأوامر التنفيذية. الأوامر التنفيذية هي بمثابة مراسيم رئاسية تصدر عن الرؤساء الأمريكيين باعتبارهم الجهاز التنفيذي في النظام الرئاسي الامريكي، وهي ليست قوانين (كالتي تصدر عن الكونغرس) بالمعنى الكامل وهي تستمد قوتها من الدستور الأمريكي. وهي أدوات تمكن الرؤساء في بداية ولاياتهم من تحديد خارطة طريق لمسار إدارتهم الجديدة، وللإشارة فإن الأوامر التنفيذية executive order تخضع لقيود وضوابط تحد من تأثيرها واستمراريتها. فهي لا تملك صفة التشريعات الدائمة، إذ يمكن لأي رئيس لاحق إلغاؤها أو تعديلها بسهولة، وهو ما يتجلى بوضوح في التحولات المتكررة بين الإدارات الأميركية. فعلى سبيل المثال، ألغى ترامب بمجرد تنصيبه كرئيس عدداً من الأوامر التنفيذية الصادرة عن الرئيس السابق جو بايدن، تماماً كما قام بايدن عام 2021 بإلغاء عدة أوامر أصدرها ترامب خلال ولايته. لذلك قد تواجه هذه الأوامر عقبات تعرقل تنفيذها أو تؤخره، سواء عبر الطعون القانونية أمام المحاكم أو من خلال العراقيل التي قد يفرضها الكونغرس على تطبيقها. وبالنسبة للكونغرس الأمريكي فهو مقيد اتجاه تعديل الأوامر التنفيذية، ولا يملك صلاحية إلغائها بطريقة مباشرة. غير أنه من الناحية الدستورية، فهو له سلطة حجب التمويل اللازم لإنزالها على أرض الواقع( خصوصا الأوامر التنفيذية ذات العلاقة بالميزانية والإنفاق الحكومي)، أو سن تشريعات وقوانين مضادة تجعل من الصعب تطبيقها.
وبشكل عام هناك احتمالات أن تواجه الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلا أزمة دستورية بسبب سلسلة من الإجراءات التي وُصفت بأنها غير دستورية وغير قانونية اتخذها ترامب. تشمل هذه الإجراءات على سبيل المثال إلغاء الجنسية المكتسبة بالولادة، تجميد الإنفاق الفيدرالي، إغلاق وكالة التنمية الدولية، إقالة قادة وكالات حكومية أخرى، وطرد موظفين حكوميين يتمتعون بحماية الخدمة المدنية، إضافة إلى التهديد بترحيل الأفراد بناءً على آرائهم السياسية. و يحذر بعض القانونيين الأمريكيين من أن هذه التصرفات المنهجية وغير القانونية تؤدي إلى خلق أزمة دستورية عميقة، بسبب تحدي ترمب للقوانين والأحكام القضائية . في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل ستسمح المؤسسات الأمريكية بمثل هذا التحول، أم أن التقاليد الديمقراطية ستكون أقوى من طموحات ترامب؟