إعداد: د. هيثم عمران
مدرس العلوم السياسية
تقديم
قامت دولة جنوب افريقيا في التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي 2023 برقع دعوى جنائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل تتهمها فيها بمخالفة قواعد القانون الدولي وإلتزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، وإنعقدت المحكمة بالفعل لهذا الغرض في الحادي عشر من يناير 2023 لمناقشة الدعوى والإستماع للدفوع من الأطراف.
فما هو مصير هذه الدعوى وما هي أهميتها القانونية والسياسية، وما هي الآثار المترتبة عليها؟
أولاً: طبيعة الدور التي تقوم به محكمة العدل الدولية داخل النظام القانوني الدولي
حلت محكمة العدل الدولية محل المحكمة الدائمة للعدل الدولي، والتي تعد الأولي الجهاز القضائي الدولي الرئيسي، وأحد الأجهزة الست المهمة في الأمم المتحدة، وفقا لما تضمنته المادة (92) من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على أن “محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتثوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بهذا الميثاق وهو مبني علي النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي وجزء لا يتجزأ من هذا الميثاق”.
تحظي أحكام هذه المحكمة وآراؤها الإفتائية بأهمية كبيرة كونها تعد من أهم مصادر القانون الدولي المعاصر، كما أنها تُسهم بشكل كبير في إرساء القواعد القانونية الدولية من خلال ما تضعه من قواعد وما تتضمنه من سوابق قضائية، فضلا عن الدور الكبير المنوط لها بالتسوية السلمية للمنازعات الدولية، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلي أن أحكامها نهائية تتسم بالطابع الإلزامي ويحوز حجية الأمر المقضي به، ولعل ذلك هو أهم ما يميز التحكيم الدولي بشكل عام عن غيره من الوسائل السلمية لحل المنازعات مثل الوساطة، والمفاوضات، والمساعي الحميدة، والتوفيق، وغيرهم من الوسائل التي تم ذكرهم في الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. كما يشمل اختصاص المحكمة وفقا للمادة 36(1) على ” جميع القضايا التي يحيلها الأطراف إليها وجميع المسائل المنصوص عليها بشكل خاص في ميثاق الأمم المتحدة أو في المعاهدات والاتفاقيات النافذة”.
ثانياً: حق التقاضي أمام محكمة العدل الدولية
يثبت حق اللجوء إلى القضاء الدولي – من حيث الأصل – لسائر أشخاص القانون الدولي العام دولاً كانت أم منظمات دولية، غير أن هذه القاعدة لا تحمل على إطلاقها بالنسبة لمحكمة العدل الدولية؛ حيث قررت المادة 34(1) من النظام الأساسي للمحكمة على أن “للدول وحدها الحق في أن تكون أطرافاً في الدعاوي التي تُرفع أمام المحكمة”. ويستفاد من هذا النص أن التقاضي أمام محكمة العدل الدولية – بالصفتين المدعي والمدعي عليه – قاصر على الدول. ومن ثم ليس لغير الدولة من أشخاص القانون الدولي حق رفع الدعاوي أمام المحكمة، فلا يجوز للأفراد أو الهيئات الخاصة أو العامة ولا للمنظمات الدولية أن يكونوا أطرافا في قضايا مطروحة أمام المحكمة.
وتنقسم الدول التي تملك حق التقاضي أمام المحكمة إلى ثلاث طوائف:
١- الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفقا لما نصت عليه المادة 93(1) من ميثاق الأمم المتحدة. ومعني ذلك أن اكتساب العضوية في منظمة الأمم المتحدة يؤدي تلقائيا إلى اكتسابها في النظام الأساسي للمحكمة باعتبار أن هذه الأخيرة جزء لا يتجزأ من ميثاق الأمم المتحدة.
٢- الدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة؛ حيث نصت المادة 93(2) من ميثاق الأمم المتحدة على أنه ” يجوز لدولة ليست عضواً في الأمم المتحدة أن تنضم إلى النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية بشروط تحددها الجمعية العامة لكل حالة بناء على توصية مجلس الأمن”. ويُفهم من هذا النص أن للدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة الحق في التقاضي أمام محكمة العدل الدولية إذا توافرت شروط ثلاثة:
- أن تنضم هذه الدول إلى النظام الأساسي للمحكمة.
- أن تصدر توصية من مجلس الأمن بالموافقة على هذا الانضمام.
- أن تحدد الجمعية العامة – بعد صدور توصية مجلس الأمن بالموافقة – الشروط التي يتعين توافرها بالنسبة للدولة طالبة الانضمام للنظام الأساسي للمحكمة.
٣- الدول غير الأعضاء لا في منظمة الأمم المتحدة ولا في النظام الأساسي للمحكمة؛ إذ يمكن لهذه الطائفة من الدول التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، بناءً على نص المادة 35(2) من نظامها الأساسي، ولكن وفقاً لشروط يحددها مجلس الأمن؛ شريطة ألا تخل هذه الشروط بالمساواة بين المتقاضين أمام المحكمة. وتتمثل هذه الشروط، وفقا لقرار مجلس الأمن الصادر في 15 أكتوبر 1946، في؛ تعهد الدولة بقبول اختصاص المحكمة، وفقاً لأحكام ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة، ولائحة إجراءاتها الداخلية. وتعهدها بتنفيذ حكم المحكمة بحسن نية، وقبول الالتزامات المنصوص عليها في المادة ٩٤ من الميثاق.
واللافت للانتباه، أن الجدل الذي أُثير حول عدم توجه فلسطين ذاتها – وهي الدولة المتضررة من الحرب الإسرائيلية – إلى محكمة العدل الدولية مرتبط بشكل أساسي حول المادة 34(1) والتي قصرت حق التقاضي أمام المحكمة علي الدول فقط دون غيرها من أشخاص القانون الدولي العام، حيث أن فلسطين وفقاً لتعريف القانون الدولي لا تُعد دولة بالمعني القانوني، بسبب افتقادها عنصر السيادة وهو أحد العناصر الرئيسية التي يتشكل منها مفهوم الدولة، وهو ما استندت إليه الأمم المتحدة عندما منحت فلسطين في 2012 صفة مراقب أو عضوية مراقب، وهو ما يعني أن فلسطين ليست عضو كامل داخل الأمم المتحدة مثل بقية الدول التي تتمتع بكافة الحقوق والامتيازات وتتحمل كافة الواجبات التي نص عليها الميثاق للدول ذات العضوية الكاملة. وبالتالي، فإن تقدم فلسطين بدعوي إلى محكمة العدل الدولية سيكون محل رفض من قبل المحكمة. وعلي جانب آخر؛ تعد كل من إسرائيل وجنوب إفريقيا أعضاء في الأمم المتحدة، وبالتبعية أعضاء في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهو ما يعني أهليتهم للتقاضي أمام المحكمة.
ثالثاً: اختصاصات محكمة العدل الدولية
تنقسم اختصاصات محكمة العدل الدولية إلى نوعين من الاختصاصات هما؛ الاختصاص القضائي وهو الخاص بالفصل في المنازعات، والاختصاص الإفتائي أو الاستشاري وهو يتعلق بإصدار الفتاوي أو الآراء الاستشارية. ففيما يتعلق بالاختصاص القضائي؛ فالأصل أن ولاية المحكمة في الفصل في المنازعات الدولية هي ولاية اختيارية، بحيث يكون قبول الدول الأعضاء لعرض النزاع على المحكمة شرطاً أولياً لتقرير ولايتها. ومعني ذلك أن لجوء الدول إلى أي جهاز قضائي دولي، بما في ذلك محكمة العدل الدولية، يستند إلى إرادة الدول؛ إذ القاعدة في القانون الدولي، أن الرضا هو أصل الالتزام الدولي. وبالتالي لا يمكن إجبار أية دولة علي اللجوء إلى محكمة العدل الدولية رغماً عنها، وإنما لابد من موافقتها على اختصاص المحكمة بنظر النزاع.
واستثناءً من تلك الولاية الاختيارية للمحكمة بنظر المنازعات الدولية، هناك بعض الحالات التي يكون اختصاص المحكمة فيها إجبارياً، وهو ما يعني أن الدول في هذه الحالات ليست حرة في قبول أو عدم قبول اختصاص المحكمة، وهذه الحالات تتمثل في:
١- إذا تضمنت معاهدة أو اتفاقية، نصا يقرر الاختصاص الإجباري للمحكمة.
٢- أن يكون قبول الأطراف لاختصاص المحكمة تطبيقاً لإعلان قبول الاختصاص الاجباري للمحكمة، وهو تصريح من جانب واحد تعلن بمقتضاه مسبقاً دولة معينة عن قبولها لاختصاص المحكمة بالنظر في جميع المنازعات القانونية التي قد تثور بينها وبين دولة تقبل هي الأخرى اختصاص المحكمة بالنظر في المنازعات متي كانت هذه الأخيرة تتعلق بالمسائل الآتية؛ أ- تفسير معاهدة من المعاهدات، ب- أية مسألة من مسائل القانون الدولي، ج- تحقيق واقعة من الوقائع التي إذا ثبتت كانت انتهاكاً لالتزام دولي، د- نوع التعويض المترتب علي التزام انتهاك التزام دولي ومدي هذا التعويض.
والجدير بالذكر؛ أن تصريح الدولة بقبولها الاختصاص الإجباري للمحكمة يرد عليه بعض القيود، والتي تتمثل في؛ أن هذا القبول يجوز أن يصدر مطلقاً دون قيد ولا شرط أو أن يعلق على شرط التبادل من جانب عدة دول أو دول معينة بذاتها، بالإضافة إلى ذلك، يجوز أن يكون هذا التصريح محدداً بحالات معينة أو متضمناً لتحفظات، كما أنه قد يقيد بمدة معينة. ولعل هذا الاختصاص الإجباري لمحكمة العدل الدولية هو ما استندت إليه جنوب إفريقيا في دعوتها ضد إسرائيل أمام المحكمة، حيث تضمنت الدعوي التي تقدمت بها جنوب إفريقيا اتهام إسرائيل بمخلفاتها لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية المعاقبة عليها، وذلك بمقتضى المادة التاسعة من الاتفاقية، والتي تنص على أنه “تُعرض على محكمة العدل الدولية بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعاتُ التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة”.
اختصاصات المحكمة فيما يخص اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها:
تْعرف جريمة الإبادة الجماعية، وفقا لما تضمنته المادة (2) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بأنها ” أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
(ه) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
ومن مطالعة الادعاءات التي تقدمت بها جنوب إفريقيا، نجد أن كل الجرائم التي اُرتكبت تندرج ضمن هذا التعريف، وهو ما يعني ارتكاب إسرائيل لأفعال مثلت خرق لالتزام دولي تعاهدي، مما يستوجب إسناد المسئولية الدولية وفقا لقواعد المسئولية الدولية، الواردة في مشروع المواد المتعلقة بمسئولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً.
وعلي جانب آخر، فبالإضافة إلى استناد جنوب إفريقيا إلي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، يتأسس موقفها أيضا استناداً إلي مبدأ “الالتزامات في مواجهة الكافة” erga omnes obligations، وهو أحد المبادئ الراسخة في القانون الدولي العام، والذي يسمح لجميع الدول بالاحتجاج بقواعد المسئولية الدولية التي يمكن الاستناد إليها، في حالة قيام دولة بارتكاب أفعال غير قانونية تمثل انتهاكا “لالتزام يعد واجباً تجاه المجتمع الدولي ككل”، وهو ما تضمنته المادة 48(6) من مشاريع المواد المتعلقة بمسئولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً.
ويُفهم من هذا النص أن مثول إسرائيل أمام المحكمة ليس أمراً اختياريا ولكنها ملزمة بذلك بموجب موافقتها كونها أحد الأطراف التي وقعت عليها في 17 أغسطس 1949 وصدقت عليها في 9 مارس 1950، بجانب جنوب إفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، لم تبد إسرائيل أية تحفظات – وهو القيد الذي يرد على الاختصاص الاجباري للمحكمة – تجاه المادة 9 من اتفاقية منع الإبادة الجماعية. وفي سياق هذه الاتفاقية، تشترك جميع الدول الأطراف فيها في مصلحة جماعية تتمثل في منع أعمال الإبادة الجماعية وضمان عدم إفلات المسئولين عن الأفعال من العقاب. والحجة الرئيسية هي أن واجب منع الإبادة الجماعية والتصدي لها يتجاوز العلاقات الثنائية، وهو ما يعني وجود مسئولية جماعية تجاه المجتمع الدولي برمته.
رابعاً: طبيعة الاتهامات التي تضمنتها دعوي جنوب إفريقيا
استندت الاتهامات التي أوردتها جنوب إفريقيا في دعواها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل إلى جملة من الجرائم والتي تأتي في إطار السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال فترة الفصل العنصري التي استمرت 75 عاماً، واحتلالها الحربي الذي دام 56 عاماً للأراضي الفلسطينية وحصارها المستمر منذ 16 عاما لغزة، بما في ذلك الانتهاكات الخطيرة والمستمرة للقانون الدولي المرتبطة بذلك، بما يتضمن الانتهاكات الجسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وبينما تدين دعوة جنوب إفريقيا الهجوم الذي شنته حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي ضد إسرائيل وهي العملية التي تُعرف بـ “طوفان الأقصى”، فإنها تؤكد في نفس الوقت على أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية، كما تم توثيقه في الهجوم الإسرائيلي.
كما تضمنت الدعوي بشكل مفصل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل والتي تأتي ضمن أعمال الإبادة الجماعية بما في ذلك، قتل الفلسطينيين في غزة، مما تسبب في إلحاق ضرر جسدي وعقلي خطير، وفرض ظروف معيشية عليهم بهدف تدميرهم جسدياً، بالإضافة إلى فشل إسرائيل في منع جريمة الإبادة الجماعية، وليس ذلك فحسب، بل انخرطت في أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
بدأ الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في بناء قضيتهم من أجل اتخاذ تدابير مؤقتة، قائلين إن إسرائيل “أظهرت نمطًا منظمًا من السلوك يمكن من خلاله استنتاج الإبادة الجماعية”. كما تضمنت مرافعة الفريق الجنوب إفريقي الإشارة إلى أن الإجراءات الإسرائيلية قد عرّضت سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة لمستوى غير مسبوق من الهجمات، جوا وبرا وبحرا، مما أدى إلى مقتل الآلاف من المدنيين وتدمير المنازل والبنية التحتية العامة الأساسية.
وأشارت الاتهامات الموجهة لإسرائيل، أنها تسببت في قتل ما يزيد عن 21,110 فلسطينيا منذ أن بدأت إسرائيل عملياتها العسكرية تجاه غزة، بما في ذلك 7;729 طفلاً، وفقد أكثر من 7,780 آخرين، يُفترض أنهم لقوا حتفهم تحت الأنقاض، وأصابت أكثر من 55,243 فلسطينيين آخرين، مما تسبب لهم في أذى جسدي وعقلي كبير. كما دمرت إسرائيل مساحات شاسعة من غزة، بما في ذلك أحياء بأكملها، وألحقت ضرراً أو دمرت بما يزيد علي 335,000 منزلاً فلسطينياً، إلى جانب مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، فضلا عن إجلاء ما يزيد عن 1,9 مليون شخص، وهو ما يشكل 85% من سكان غزة – من منازلهم ووضعهم في أماكن أصغر دون مأوي ملائم، وهو ما ينطوي ضمن جرائم التهجير القسري والطرد الجماعي. كما تمت الإشارة إلى أن غزة تعرضت – لما وصفته إسرائيل – لواحدة من “أعنف حملات القصف التقليدية” في تاريخ الحرب الحديثة. بالإضافة إلى إلقاء ما يقرب من 6000 قنبلة بشكل أسبوعي على قطاع غزة، لمدة شهرين، وهي الهجمات التي أحدثت دماراً أكثر من التدمير التي تعرضت له مدينة حلب السورية في الفترة ما بين 2012 و2016، أو ما تعرضت له مدينة ماريوبول الأوكرانية، ويتناسب هذا الدمار الذي لحق بغزة مع الدمار التي تعرضت له ألمانيا بعد قصف الحلفاء لها في الحرب العالمية الثانية.
خامساً: موقف إسرائيل:
رفضت إسرائيل الادعاء الجنوب أفريقي، بدعوى عدم استناده إلى أي أساس قانوني؛ حيث اتهمت جنوب أفريقيا بتعاونها مع جماعة إرهابية تدعو إلى تدمير إسرائيل، وأن شعب غزة ليس عدوًا لإسرائيل التي تبذل الجهود للحد من وقوع ضرر على المدنيين، معربة عن مثولها أمام المحكمة للطعن في الاتهامات التي قدمتها جنوب أفريقيا.
دعت إسرائيل القضاة في محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة إلى رفض طلب جنوب أفريقيا المتعلق بوقف هجومها على قطاع غزة الفلسطيني، قائلة إن ذلك سيمنعها من الدفاع عن نفسها. كما رفضت إسرائيل اتهامها بارتكاب “إبادة” بحق الفلسطينيين ووصفت ما تقدمت به بريتوريا إلى المحكمة بأنه “تشويه للحقائق”. كما دفع فريق الدفاع الإسرائيلي بأن “إسرائيل تخوض حربا دفاعية ضد حماس، وليس ضد الشعب الفلسطيني، حتى تضمن عدم نجاحها (الحركة)”، مضيفا أن “العنصر الأساسي في الإبادة الجماعية، هو النية لتدمير شعب كليا أو جزئيا، غير موجود على الإطلاق”.
فضلا عن ذلك، أخفقت إسرائيل في منع أو مقاضاة كبار المسئولين في إسرائيل مثل رئيس الوزراء ووزير الدفاع على التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من طبيعة وسير العمليات العسكرية في غزة.
سادساً: ماهية التدابير المؤقتة أو التحفظية التي طالبت بها جنوب إفريقيا
تضمنت دعوة جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية مطالبة المحكمة باتخاذ تدابير مؤقتة لحماية الشعب الفلسطيني ضد ما يتعرض له، وذلك وفقا لنص المادة 41(1) من النظام الأساسي للمحكمة التي تنص على ” يكون للمحكمة سلطة أن تبين، إذا رأت أن الظروف تتطلب ذلك، أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على الحقوق الخاصة بأي من الطرفين”، وكذلك وفقا لنصوص المواد 73 و74 و75 من لائحة المحكمة. واستندت إسرائيل في هذا الطلب إلى الضرر المستمر والمفرط الذي لا يمكن إصلاحه الذي يتعرض له الفلسطينيين في غزة، كما تضمن الطلب وصف الحملة العسكرية التي تقوم بها إسرائيل بأنها وحشية للغاية، وهي حملة واسعة النطاق ومستمرة، وزعمت جنوب إفريقيا أن إسرائيل تعتزم تكثيفها أكثر من ذلك.
وتحقيقا لهذه الغاية، ينبغي على المحكمة أن تأمر إسرائيل بالكف عن القتل والتسبب في أذى عقلي وجسدي خطير للشعب الفلسطيني في غزة، الكف عن التسبب المتعمد في ظروف معيشية محسوبة لتحقيق تدميرها المادي كمجموعة، لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، وإلغاء الممارسات والسياسات ذات الصلة، بما في ذلك ما يتعلق بتقييد المساعدات وإصدار توجيهات الإجلاء. ومن ثم، تكمن التدابير المؤقتة التي تهدف دعوى جنوب أفريقيا إلى اتخاذها في الأمر بوقف كل الأعمال العسكرية التي يقوم بها جيش الكيان الإسرائيلي، على اعتبار أن هذه الأعمال تؤدي إلى سقوط عدد أكبر من الضحايا المدنيين بمرور الوقت، وبالتالي يجب اتخاذ تدابير مُستعجلَة تحفظ حقّ الفلسطينيين في الحياة.
وتعد التدابير المؤقتة سبل انتصاف مؤقتة يتم منحها في ظروف خاصة من أجل تجنب أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع أو اتساعه والمحافظة على الحقوق المتنازع عليها، في الوقت الذي تستمر فيه إجراءات المحكمة في المرحلة التالية إلى حين الفصل في النزاع المعروض على المحكمة وصدور حكم نهائي. والجدير بالذكر، أن التدابير المؤقتة تعادل الأوامر القضائية المؤقتة في المحاكم الوطنية أو ما يُعرف بالإجراءات المستعجلة. كما تتسم هذه التدابير بأن يكون لها الأولوية على جميع القضايا المعروضة على محكمة العدل الدولية، وهو ما يستدعي المحكمة من عقد جلسات مستعجلة إذا رأت ضرورة لذلك. ومن ثم تتسم التدابير المؤقتة بمجموعة من الخصائص التي تتمثل فيما يلي:
- تعد التدابير المؤقتة مجرد إجراءات تمهيدية تسبق عادة إجراءات الفصل النهائي في النزاع، وبالتالي فهي تُباشر قبل اللجوء إلى القضاء الموضوعي.
- تعتبر التدابير المؤقتة إجراءات مؤقتة أي ليست إجراءات نهائية ترتب آثارها في الفترة السابقة لصدور الحكم النهائي القاضي بالفصل في النزاع أو تسويته، وبالتالي يجوز إلغائها في أي وقت إذا ما تغيرت الظروف التي دعت إلى وجودها، وفي جميع الأحوال تسقط بمجرد صدور حكم في النزاع المعروض.
- تتسم التدابير المؤقتة في غالبية الحالات بأنها لها طابع استعجالي، ويتفق ذلك مع الغرض الذي من أجله يتم فرض مثل هذه التدابير، لأن الانتظار حتى صدور حكم نهائي من المحكمة في القضية محل النزاع يجعل من هذه التدابير أمر بلا جدوى؛ لا سيما إذا جاء الحكم متأخراً وهو ما يحدث في غالبية القضايا التي تُنظر أمام محكمة العدل الدولية.
وفيما يتعلق بالقيمة الإلزامية للتدابير المؤقتة التي تصدرها المحكمة، انقسم الفقه إلى اتجاهين، إذ ينكر الاتجاه الأول وجود قوة إلزامية لهذه التدابير، ويستند هؤلاء إلى أن نص المادة 94(1) لا يتضمن التدابير المؤقتة، حيث يري أنصار هذا الاتجاه أن المادة المذكورة تتعلق باعتراف الدول بإلزامية ما تصدره المحكمة من قرارات وأحكام والتعهد بتنفيذها، كما يفسر هؤلاء أن المادة المذكورة أشارت إلى حكم المحكمة المتعلق بالموضوع فقط، أي القرار الذي يفصل في النزاع. ومن جهة آخري؛ يري أنصار هذا الاتجاه أن المادة 94(1) لا تشمل الأوامر المؤقتة والأحكام التمهيدية والآراء الاستشارية التي ليس لها وصف قرارات ولا الأحكام النهائية، فالإجراءات المؤقتة ليست أحكام مُلزمة وليست نهائية، رغم قيمتها القانونية وأهميتها. وعلي جانب آخر؛ يري اتجاه أخر من الفقه أن التدابير المؤقتة لها قوة إلزامية، واستندوا في ذلك أيضاً إلى نص المادة 94(1) والتي تحدثت عن قرارات المحكمة. ويري أنصار هذا الاتجاه أن مصطلح قرارات يشمل كل قرارات المحكمة مهما كان شكلها أو نوعها.
أما فيما يتعلق بكيفية تنفيذ قرار المحكمة بشأن التدابير المؤقتة، فالمادة 41(1) من النظام الأساسي للمحكمة بعد أن قررت سلطة محكمة العدل الدولية في الإعلان عن التدابير المؤقتة، نصت الفقرة الثانية من ذات المادة على إلزام المحكمة بإخطار مجلس الأمن بما تصدره من هذه الإجراءات، ومن خلال مطالعة نص المادة 42(2) يتبين أن مجلس الأمن يعد هو الجهاز التنفيذي المنوط به تولي مهمة تنفيذ ما يصدر عن المحكمة من أوامر بإجراءات تحفظية في النزاع المطروح. ومن ناحية آخري، قد يلجأ صاحب المصلحة إلى مجلس الأمن لتنفيذ الإجراءات المؤقتة التي قررتها المحكمة ملتمسا منه – أي المجلس – اتخاذ التدابير الضرورية لإجبار الطرف الآخر على تنفيذ هذه الإجراءات، وذلك استناداً إلى المادة 94(2) من ميثاق الأمم المتحدة. وهنا قد تعلب الاعتبارات السياسية والتوازنات داخل المجلس دوراً في تنفيذ هذه الإجراءات من عدمه.
سابعاً: السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية فيما يتعلق بالتدابير المؤقتة وجرائم الإبادة الجماعية
لم تكن دعوة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية هي الأولي التي يطالب فيها الطرف المدعي بفرض تدابير مؤقتة ضد الطرف المدعي عليه، فالسوابق القضائية للمحكمة تكشف عن لجوء المحكمة إلي فرض هذه التدابير في قضايا عُرضت عليها ضمن اتفاقيات الإبادة الجماعية، مثل القضية التي رفعتها غامبيا ضدّ ميانمار، في 11 نوفمبر 2019 بخصوص جريمة الإبادة الجماعية بحقّ شعب الروهينجا، اعتمدت المحكمة بالإجماع في 23 يناير 2020 تدابير مؤقتة تلزم ميانمار بالتوقف عن جميع أعمال الإبادة الجماعية ضدّ الروهينجا، وضمان عدم ارتكاب قوات الأمن أعمال إبادة جماعية، واتخاذ خطوات للحفاظ على الأدلة المتعلقة بالقضية. وقد استسلمت ميانمار لقرار المحكمة حيث قللت من ممارستها ضد الروهينجا.
أما القضية الأخرى فهي قضية (أوكرانيا ضد روسيا) حيث قدمت أوكرانيا، في 27 فبراير 2022، دعوي ضد روسيا بشأن “نزاع” حول تفسير وتطبيق وتنفيذ اتفاقية الإبادة الجماعية. وأكدت أوكرانيا في دعوتها أن روسيا ادعت زورا ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد سكان منطقتي لوهانسك ودونيتسك، وبعدها أعلنت ونفذت “عملية عسكرية خاصة” لمنع الأعمال المزعومة والمعاقبة عليها. وفي 16 مارس 2022، قضت المحكمة بضرورة قيام روسيا بتعليق هجماتها على الفور، ووقف جميع العمليات العسكرية، لأنها كانت تستند إلى هدف موسكو المعلن والمتمثل في منع أو معاقبة أوكرانيا بشأن ارتكاب إبادة جماعية. ولم تلتزم روسيا بقرار المحكمة القاضي بوقف العمليات العسكرية بدليل استمرار هذه العمليات حتى الوقت الحالي. ومن المتوقع أن يكون قرار المحكمة في طلب جنوب إفريقيا بفرض تدابير مؤقتة في غضون مدة قصيرة، استناداً إلى قرار المحكمة في قضية الروهينجا والذي جاء خلال 73 يوماً، وفي قضية أكرانيا ضد روسيا جاء قرار المحكمة بفرض تدابير مؤقتة خلال 42 يوماً، من تواريخ رفع الدعاوي.
والقضية الثالثة هي قضية لا جراندا ” LaGrand ” (ألمانيا ضد الولايات المتحدة الأمريكية)، حيث قامت ألمانيا، في 2 مارس 1999، برفع دعوي ضد الولايات المتحدة الأمريكية أمام محكمة العدل الدولية في نزاع يتعلق بانتهاكات مزعومة لاتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية الموقعة في 24 أبريل 1963. وزعمت ألمانيا في دعوتها أن سلطات ولاية أريزونا احتجزت في عام 1982 مواطنين ألمانيين هما كارل ووالتر لاغراند، وقد حوكما وحكم عليهما بالإعدام دون إبلاغهما بحقوقهما، على النحو المنصوص عليه في الفقرة 1(ب) من المادة 36 من اتفاقية فيينا.
وعلي جانب آخر، تجدر الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية سبقت وأقرت بوجود إبادة جماعية في إحدى القضايا التي عرضت عليها، وهي القضية الخاصة بتطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود) لعام 1996. وتشير وقائع هذه القضايا إلى قيام جمهورية البوسنة والهرسك في 20 مارس 1993 بإقامة دعوي ضد جمهورية يوغسلافيا الاتحادية فيما يتعلق بنزاع حول وجود انتهاكات مزعومة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وكذلك مختلف المسائل التي ادعت البوسنة والهرسك أنها مرتبطة بها. واستند الطلب إلى المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية كأساس لاختصاص المحكمة، وهو نفس الأمر الذي استندت إليه دولة جنوب إفريقيا في دعواها ضد إسرائيل.
وبعد سنوات طويلة قدم خلالها كل طرف حججه ودفوعه، أصدرت المحكمة حكمها في 26 فبراير 2007، والتي خلصت فيه إلى أن عمليات القتل التي وقعت في مقاطعة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك في يوليو 1995 على أيدي القوات الصربية اُرتكبت بقصد محدد يتمثل في تدمير مجموعة مسلمي البوسنة جزئيا في تلك المنطقة، وأن ما حدث كان بالفعل إبادة جماعية. كما خلصت المحكمة إلي أن جمهورية صربيا انتهكت التزامها الوارد في المادة (1( من اتفاقية منع الإبادة الجماعية بمنع الإبادة الجماعية في سربرنيتسا. ولاحظت المحكمة أن هذا الالتزام يتطلب من الدول التي تدرك، أو كان ينبغي أن تكون على علم، بالخطر الجسيم المتمثل في ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، أن تستخدم جميع الوسائل المتاحة لها على نحو معقول لمنع الإبادة الجماعية، في الحدود التي يسمح بها القانون الدولي.
كما قضت المحكمة كذلك بأن المدعى عليه (صربيا) انتهك التزامه بمعاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية، بما في ذلك عدم تعاونه الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة فيما يتعلق بتسليم الجنرال راتكو ملاديتش – وهو أحد المسئولين الرئيسيين عن عمليات الإبادة الجماعية التي تمت في سربرنيتسا- لمحاكمته. ويشكل هذا الفشل انتهاكاً لواجبات المدعى عليه بموجب المادة السادسة من اتفاقية الإبادة الجماعية. وهو ما دفع صربيا في النهاية في عام 2011 إلى تسليم ملاديتش إلي المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا التي أنشأها مجلس الأمن في عام 1993. وفي عام 2017 صدر حكم بالسجن مدي الحياة ضد ملاديتش، بعدما أدين أدين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في سربرنيتسا.
ثامناً: السيناريوهات المتوقعة في الدعوي محل النظر أمام محكمة العدل الدولية:
السيناريو الأول: التدابير المؤقتة:
في ضوء الدفوع والطلبات التي قدمتها جنوب إفريقيا وفي مقدمتهم مطالبة المحكمة باتخاذ تدابير مؤقتة لوقف الحرب الدائرة التي تشنها إسرائيل تجاه المدنيين في قطاع غزة، من المتوقع أن تقوم المحكمة بإصدار قرار يتضمن فرض تدابير مؤقتة ضد إسرائيل، ومن المتوقع ألا تقوم إسرائيل بالانصياع لمثل هذا القرار وهنا يوجد خيارين:
الخيار الأول. وهو يتضمن أن تقوم المحكمة بإخطار مجلس الأمن بما تصدره من إجراءات، باعتباره الجهاز التنفيذي الذي يتولى مهمة تنفيذ ما يصدر عن المحكمة من أوامر وإجراءات تحفظية.
الخيار الثاني . ينطوي علي أن يقوم صاحب المصلحة في تنفيذ الإجراءات المؤقتة التي قررتها المحكمة باللجوء إلي مجلس الأمن ملتمساً منه اتخاذ التدابير الضرورية لإجبار الطرف الأخر علي تنفيذ هذه الإجراءات، وذلك استنادا لنص المادة 94(2) من ميثاق الأمم المتحدة.
السيناريو الثاني : بقاء القضية في التداول لفترة طويلة :
أما فيما يتعلق بموضوع الدعوي وهو المرتبط بمدي انتهاك إسرائيل لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في ضوء الجرائم المرتكبة في قطاع غزة، فمن المتوقع أن تظل هذه الدعوي متداولة داخل أروقة المحكمة لسنوات طويلة بسبب التعقيدات الفنية التي تتسم بها مثل هذه القضايا والتي قد تحتاج إلى تشكيل لجان تقصي حقائق لاطلاع المحكمة بحقيقة الأوضاع، فضلا عن سعي إسرائيل لتقديم مذاكرات اعتراض ضد لائحة الاتهامات التي تضمنتها الدعوي.
السيناريو الثالث: صدرور قرار إدانة لإسرائيل:
في حالة إذا ما أقرت المحكمة بارتكاب إسرائيل جريمة إبادة جماعية في قطاع غزة، تكون إسرائيل بذلك قد أتت بأفعال وتصرفات غير مشروعة تمثل انتهاك لقواعد قانونية دولية مُلزمة لها وهي القواعد التي وردت في اتفاقية منع الإبادة الجماعية، عندئذ تتحمل إسرائيل المسئولية الدولية وفقا لقواعد المسئولية الدولية عن الأفعال غير المشروعة قانوناً، وتكون ملزمة بدفع تعويض تحدده المحكمة.
إذ تنص المادة 31(1) من قانون مسئولية الدولة عن الأفعال غير المشروعة دوليا علي ” على الدولة المسؤولة التـزام بجـبر كامـل الخسارة الناجمة عن الفعل غير المشروع دولياً”، وتشمل الخسارة أي ضرر، سواء كان مادياً أو معنوياً، ينجم عن الفعل غير المشروع دوليا وفقا للمادة 31(2) من قانون مسئولية الدولة عن الأفعال غير المشروعة دوليا. وعلي جانب آخر في حالة إذا ما أقرت محكمة العدل الدولية بارتكاب إسرائيل جريمة إبادة جماعية، يمكن الدفع بهذا القرار أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة قادة إسرائيل عن هذه الجرائم، فضلا عن رفع دعاوي تجاه هؤلاء القادة أمام محاكم وطنية أجنبية، استنادا إلى مبدأ “الاختصاص القضائي العالمي”، ويعد هذا المبدأ أحد آليات التعاون الجنائي الدولي الفعالة، إذ على أساسه يمكن للمحاكم الوطنية متابعة و معاقبة و محاكمة مرتكبي أنواع معينه من الجرائم بغض النظر عن مكان ارتكاب تلك الجرائم أو جنسية مرتكبيها أو ضحاياها. وتدخل جريمة الإبادة الجماعية ضمن نطاق هذا المبدأ بجانب جرائم أخري مثل، جرائم الحرب، والجرائم ضد الانسانية، والتعذيب، والاستعباد أو العبودية والجرائم المرتكبة ضد الحقوق الأساسية للإنسان.
الخلاصة:
لعل أهم ما يميز الوسائل القضائية لتسوية المنازعات الدولية سلميا سواء كان التحكيم الدولي أو القضاء الدولي والتي من بينها محكمة العدل الدولية عن الوسائل السياسية لحل المنازعات الدولية سلميا هو أن الوسائل القضائية قرارتها ملزمة لطرفي النزاع أو الصراع (المدعي والمدعي عليه) وهو الأمر الذي أكسب تلك الوسائل القضائية أهمية كبري داخل النظام الدولي. ومن ثم فالقرار الذي سيصدر عن محكمة العدل الدولية يكون باتاً ونهائياً ويحوز حجية الأمر المقضي به. وهو ما أكدت عليه المادة (60) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، حيث نصت على ” يعتبر الحكم نهائيا وغير قابل للاستئناف. وفي حالة وجود نزاع حول معنى أو نطق الحكم، يجب على المحكمة تفسيره بناءً على طلب أي طرف. وكذلك المادة 94(1) من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على تعهد كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة بتنفيذ الأحكام الصادرة عن المحكمة في أي قضية يكون طرفاً فيها.
فضلا عن ذلك، لا يمكن الطعن على القرار الصادر عن المحكمة بأي طريق كان، إلا عن طريق التماس إعادة النظر؛ وفقا لشروط معينة نص عليها النظام الأساسي للمحكمة في المادة 61(1) وهذه الشروط تتمثل في؛ ظهور وقائع جديدة كان من شأنها أن تمثل عاملاً حاسماً في تغيير وجه الرأي في الدعوي ولجعلت الحكم يصدر في اتجاه آخر مغاير أو مختلف؛ وأن تكون هذه الوقائع الجديدة غير معروفة للمحكمة قبل ذلك، وكذلك ألا يكون الجهل بعدم معرفة تلك الوقائع الجديدة ناتج عن إهمال الدولة التي طالبت بإعادة نظر الحكم. ولا يجوز تقديم أي طلب مراجعة بعد مرور عشر سنوات من تاريخ الحكم وفقا للمادة 61(5) من النظام الأساسي. فالخلاصة إذن أن الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية لا يجوز إعمال حق الفيتو تجاهها، لأن هذه الأحكام تنشئ التزامات مُلزمة قانوناً. ومع ذلك، ونظراً لعدم امتلاك محكمة العدل الدولية الآليات والوسائل اللازمة التي تمكنها من تنفيذ قراراتها بشكل مباشر، واللجوء إلى مجلس الأمن من قبل الدولة المتضررة لحثه على تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحكمة وفقا لنص المادة 94(2) من ميثاق الأمم المتحدة، وهنا يمكن للدول دائمة العضوية استخدام حق الفيتو تجاه تنفيذ القرار، وبالتالي فإعمال حق الفيتو يكون منصباً على تنفيذ القرار وليس على القرار ذاته.