إعداد:
محمد عادل عثمان – باحث فى العلوم السياسية
تقديم
تُعد الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية بدمشق في 1 أبريل 2024م؛ تصعيد كبير في شكل المواجهة بين إسرائيل وإيران ، يرجع ذلك إلى طبيعة الهدف الإسرائيلي المختلف هذه المرة عن المرات السابقة حيث سبق وأن نفذت إسرائيل العديد من الضربات على أهداف مدعومة من إيران في سوريا، واستهدفت في كثير من الأحيان شحنات أسلحة متجهة إلى حزب الله،. لكن استهداف المقرات الدبلوماسية في حد ذاتها يمثل تصعيدًا كبيرًا نظرًا لأن السفارات والقنصليات تعتبر منطقة ذات سيادة للدول التي تمثلها، ولها خصوصية معينة بموجب معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية أيضا التصعيد في طبيعة الهدف من وراء عملية الاستهداف وهو اغتيال القيادي في فيلق القدس ” محمد رضا زاهدي” إضافة لـ(7) ضباط ومسئولين آخرين من قوات الحرس الثوري الإيراني.
أثار هذا الهجوم العديد من التساؤلات حول دوافعه، وتأثيره على مسار الأحداث في المنطقة، خاصةً مع احتمالية قيام إيران بالرد على هذا العدوان. ولذلك تُناقش هذه الورقة سياقات الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في سوريا والسيناريوهات المحتملة للرد.
أولًا: سياقات الضربة الاسرائيلية
تكشف سياقات الضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق تغير قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران، حيث كانت إسرائيل تمتنع سابقًا عن استهداف القيادات الإيرانية في الحرس الثوري بشكل مباشر. ولكن يبدو أن الحرب في قطاع غزة والمواجهة مع حزب الله في الشمال قد دفعت بإسرائيل نحو التصعيد والاستهداف المباشر للقيادات الإيرانية البارزة .
فمنذ السابع من أكتوبر 2023م، كانت هناك زيادة ملحوظة في الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا. واغتالت إسرائيل أكثر من (10) شخصيات في الحرس الثوري أبرزهم ” سيد راضي موسوي” الذي اُغتيل في 25 ديسمبر 2023م.وهو شخصية بارزة في التنسيق اللوجستي والعسكري الإيراني في سوريا.
أيضًا يكشف هذا الهجوم عن الفشل الإسرائيلي الواضح في تحقيق أي تقدم يذكر في حربها على قطاع غزة وهو ما بات ينكشف بشكل كبير من خلال محاولتها الهروب للأمام في محاولة تحقيق أي إنجاز على الجبهتين اللبنانية والسورية وتنويع الهجمات ما بين أهداف بحثية عسكرية وغارات مكثفة على مواقع في حلب، ولذلك فإن استهداف مبنى القنصلية يندرج ضمن تغير قواعد الاشتباك بين الجانبين.
وفي السياق ذاته من السياقات الاخرى الكاشفة لطبيعة هذا الهجوم طبيعة الهدف الذي قامت إسرائيل بالهجوم عليه حيث تختلف هذه العملية عن الاغتيالات الإسرائيلية السابقة لقيادات من عناصر حزب الله ولقادة من الحرس الثوري الايراني في سوريا. كما تختلف عن عملية اغتيال “قاسم سليماني” من قبل الولايات المتحدة في 2020م ويمكن الإشارة لذلك كالتالي: –
- موقع الاغتيال: تم اغتيال “زاهدي” بداخل القنصلية الإيرانية بدمشق أي وفقًا لاتفاقية فيينا المنظمة للعلاقات الدبلوماسية فهي بمثابة أرض إيرانية . وهو ما يعكس خروج إسرائيل من مبدأ المواجهة غير المباشرة مع إيران إلى مواجهة مباشرة دون حساب العواقب.
- حجم الإدانة: وجد الهجوم الإسرائيلي إدانة دولية واسعة وصلت لحد موقف صريح من منظمة الأمم المتحدة.
- سرعة الرد الأمريكي: أعلنت الولايات المتحدة فور وقوع عملية الاغتيال أنها لم تكن على علم بعملية الاغتيال ولم يكن هناك تنسيق مع إسرائيل في ذلك.
أيضًا تأتي سياقات هذه الضربة في ظل الفشل الإسرائيلي في حسم المعركة مع المقاومة الفلسطينية في غزة إلى جانب الضغوطات التي يتعرض لها “بنيامين نتيناهو” داخليًا حيث يرغب في محاولة المراوغة عن طريق تشتيت الراي العام الداخلي لموضوعات أخرى. كما يحاول ” نتنياهو” استعادة الدعم الأمريكي، خصوصًا بعد الموقف في مجلس الأمن والامتناع عن إستخدام حق الفيتو ضد قرار إيقاف الحرب على غزة في 15 مارس 2024م، إضافة للضغوطات الخارجية عليه بعد مقتل عدد من موظفي الإغاثة. حيث يعلم أن إيقاف الحرب وحل حكومته سيؤدي به إلى المحاكمة التي ربما تعصف به من الحياة السياسية بشكل نهائي .
ثانيًا:سيناريوهات الرد…منطق التعامل الحذر
جاء الرد الإيراني الرسمي في بداية الهجوم حازمًا حيث تعهد المسئولون بالانتقام “الحاسم” .وشدد السفير الإيراني لدى سوريا “حسين أكبري”، على أن الرد سيكون كبيرًا، ووصف وزير الخارجية الإيراني الضربة بأنها انتهاك للالتزامات الدولية ، مؤكدًا انتهاك حُرمة المباني الدبلوماسية والقنصلية. وستعتمد سيناريوهات الرد الإيراني في الهجوم على قنصليتها في دمشق على عاملين يُمثلان معًا مُحددات أساسية في عملية الرد هما:
▪ مدى قدرة الحكومة الإيرانية على مخاطبة الرأي العام الداخلي و إرضاء قاعدتها السياسية والاجتماعية وفي الوقت نفسه عدم الانجرار إلى صراع أوسع مع الحفاظ على “إستراتيجية الصبر الاستراتيجي”
▪ طبيعة الهدف الإيراني ومدى دقة الرد لتجنب أي تصعيد قد يؤدي لحرب واسعة النطاق. ولذلك فإن سيناريوهات الرد الإيراني قد تأخذ الصور التالية: –
1.السيناريو الأول: استهداف مقرات خارجية تتبع لإسرائيل كالسفارات أو غيرها
يعتمد هذا السيناريو على تحديد إيران لما يمكن أن نطلق عليه” بنك الأهداف الإسرائيلية” الذي يشمل استهداف مصالح إسرائيل ورجالها وبعثاتها الدبلوماسية، وهو اقتراح قدمه النائب “جلال رشيدي” حول ضرب سفارات إسرائيلية في المنطقة، ويمكن أن يكون الاستهداف كالتالي:
- من المرجح أن تلجأ إيران في استهداف هذه المقرات من خلال الطائرات المسيرة المعروفة باسم ” شاهد” بالإضافة لصواريخ كروز، وذلك وفقا لتقارير أمريكية.
- قد تلجأ إيران إلى استهداف للأماكن القريبة منها والتي ترى أن لإسرائيل “مصالح” فيها على غرار استهدافها مبني في أربيل بإقليم كردستان العراقي بالصواريخ، تحت مزاعم أنه مقراً للموساد وذلك في يناير 2024م. كما تعتبر هذه الساحة الأقل تكلفة بالنسبة لإيران.
- أشارت تقارير أن إيران قد تلجأ إلى استهداف سفارة إسرائيل في أذربيجان– التي تربطها علاقات وثيقة بشكل متزايد مع إسرائيل. ولكن هذا قد يكون أمر مستبعد بسبب المصالح التركية في أذربيجان وعلاقة إيران معها.
- ربما تلجأ إيران لتنفيذ هجوم سيبراني كبعد آخر للرد على إسرائيل، إما لتنفيذ هجمات إلكترونية على مواقع استخباراتية أو غيرها.
2.السيناريو الثاني :_التصعيد من خلال الوكلاء
قد تدعم إيران حزب الله والوكلاء الأخرين للتصعيد ضد إسرائيل، مما يشكل قوة ضغط عليها خاصة من جانب حزب الله الذي يمتلك تجهيزعسكري قوي حيث تُشير تقارير إلى أنه يمتلك أكثر من (150) ألف صاروخ موجه. لكن على الرغم من ذلك فإن الرد من خلال الوكلاء لن يحفظ لإيران ماء الوجه. وفي ذات الوقت لا يرغب حزب الله ولا الأطراف الأخرى في التصعيد المباشر الذي قد يؤدى لحرب إقليمية أوسع.
3.السيناريو الثالث: تصعيد إيراني ضد القواعد الأمريكية
ربما تتجه إيران لدعم الهجوم على أهداف عسكرية ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا وذلك على غرار ردها على مقتل “قاسم سليماني” عام 2020م، خاصةً في ظل التصريحات الإيرانية التي حمّلت الولايات المتحدة مسئولية الهجوم.
وتمتلك الولايات المتحدة ما يقرب من (900) جندي في سوريا، و(2500 ) جندي في العراق، بالإضافة إلى قواعدها الخارجية. لذلك فإن هذا السيناريو أيضا قد يكون مرجح ولكن ليس بشكل كبير حيث ربما تنظر إيران في مزايا هذا السيناريو من حيث قرب العامل الجغرافي الذي سيلعب دورًا في عملية الهجوم حيث تعد سوريا والعراق قريبة نسبيًا من إيران بالمقارنة مع إسرائيل. وقد تكون الأهداف الأمريكية المحتمل الهجوم عليها في سوريا هي منطقة غرب الفرات حيث تواجد للقوات الأمريكية ، وقاعدة “عين الأسد”التي تضم قوات أمريكية في العراق.
ولكن هناك عدد من الضوابط التي ربما لا ترجح هذا الاتجاه كالتالي:
- مدي قدرة إيران في مواجهة الرد الأمريكي خاصة أن الإدارة الامريكية أعلنت أنها لم تكن على علم مسبق بالهجوم الإسرائيلي وبالتالي فهو إشارة تحذير ضمنية لإيران من أي هجوم محتمل على مصالحها في الشرق الأوسط.
- مدى قدرة إيران في تحمل مزيد من الضغوطات التي قد تتخذها الإدارة الامريكية كردة فعل لأن ذلك قد يجرها لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة معًا. وبالنظر لقدرة إيران العسكرية فهي قد لا تتحمل مواجهة مفتوحة مع الطرفين في آن واحد، خاصة أن إسرائيل ترغب في إحراج إيران خارجيًا.
4.السيناريو الرابع_: تكثيف الهجمات على السفن الأمريكية والدول المتحالفة معها
يمكن أن تتجه إيران لإستهداف السفن التي تتبع لإسرائيل في المحيط الهندي أو في مضيق هرمز وفي مياه الخليج العربي. ولكن بشكل محدود أيضا ربما تدعم جماعة “الحوثي” في مزيد من الهجمات على السفن الإسرائيلية العابرة في البحر الأحمر. وهو سيناريو متوقع حدوثه خاصة أنه سبق قيامها باستهداف السفن التي تعبر المضيق والمياه الخليجية.
5.السيناريو الخامس: إدانة إسرائيل في مجلس الأمن
وهو السيناريو الأقل ترجيحًا حيث قد تلجأ إيران لمحاولة إصدار قرار إدانة لإسرائيل على خلفية الهجوم على اعتبار أنه هجوم على مقر دبلوماسي تحميه المواثيق والاتفاقيات الدولية . ولكن حتي يتثني لها ذلك فلابد من ضمان التصويت الروسي والصيني على الأقل لصالح هذا القرار وهو أمر قد يصعب تأكيده خاصة في وجود الفيتو الأمريكي الذي سيعرقل أي إدانة ضد إسرائيل.
وختامًا، يمكن القول: إن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية، يكشف عن التعقيدات والتداعيات الجيوسياسية الهائلة التي تواجه المنطقة. وتُسلط الضوء على الأسباب والدوافع المتعددة وراء هذا الهجوم، وتكشف هذه العملية عن الضغوطات الداخلية والخارجية التي يواجهها بنيامين نتنياهو بسبب فشله في تحقيق اي هداف من أهداف الحرب في غزة نتيجة لقوة المقاومة الفلسطينية.
أيضًا كشف الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق تغيرًا في قواعد الاشتباك، مع استهداف مباشر للقيادات الإيرانية مما يعطي، دلالة أخرى على الفشل الإسرائيلي في تحقيق تقدم بغزة وتوسيع نطاق الهجمات ضد إيران في سوريا.
وفي ذات الوقت، فإن حدوث الرد الإيراني أو عدمه سيكون قائم على أساس “استراتيجية الصبر الاستراتيجي” التي تعتمدها إيران في تعاملها مع الولايات المتحدة وإسرائيل. بمعني أخر تواجه إيران ضغوطًا داخلية للرد، نظرًا لأهمية الضربة، الأمر الذي يشكل معضلة في طريقة الرد المتبعة مع مراعاة عدم المخاطرة بحرب شاملة مع إسرائيل والحفاظ على صورتها كقوة ردع. ولذلك فإن أي رد متوقع سينطلق من مفهوم ورؤية إيران لهذه الاستراتيجية .