إعداد: آية بدر
باحثة دكتوراه متخصصة في الدراسات الأمنية ودراسات النزاعات المسلحة والسلام
تمهيد:
مع تنامي وتيرة التوترات الجيوسياسية بين القوى الدولية خاصة في بؤر الصراع المتأججة راهنًا، بدأت تلوح في الأفق مخاطر الحياد عن حالة الردع مع تزايد فرص وقوع مواجهات نووية في العديد من تلك الصراعات وعلى رأسهم الأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة، الأمر الذي يستدعي دراسة تطور القدرات النووية للتنبه لأي مخاطر محتملة جراء تنامي القدرات النووية للقوى الدولية المنخرطة في سباق التسلح النووي.
وتأسيسًا على ما سبق، أصدر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI في تقريره السنوي تقديرًا مستندًا للبيانات حول آفاق سباق التسلح النووي عالميًا وأبرز ملامحه والمخاطر المترتبة عليه، وهو ما يمكن استعراضه فيما يلي.
أولاً نمو الترسانات النووية عالميًا:
واصلت كل القوى المسلحة نوويًا تعزيز قدراتها وترسانة أسلحتها النووية وتحديثها خلال عام 2023، مع توقع تسارع تلك المعدلات في السنوات المقبلة، وذلك على الرغم من افتراض التوجه العالمي نحو خفض وتفكيك الترسانات النووية منذ نهاية الحرب الباردة، الأمر الذي يؤكد استمرارية التعويل على الردع النووي كأحد أهم اعتبارات تحقيق الأمن القومي للقوى النووية.
إذ أشارت التقديرات إلى أن إجمالي المخزون العالمي للأسلحة النووية بات يُقدر بنحو 12121 رأسًا حربيًا في يناير 2024، منها حوالي 9585 رأسًا حربيًا تعتبر مخزونات عسكرية مُخصصة للاستخدام المحتمل، بينما تم نشر ما يقارب نحو 3904 من هذه الرؤوس الحربية عبر الصواريخ والطائرات، وتم الاحتفاظ بحوالي 2100 رأس حربي منشور في حالة تأهب تشغيلي عالٍ بالاعتماد على الصواريخ الباليستية.
ويشير الرسم البياني المقابل لمخزون الأسلحة النووية لدى كل القوى التسع التي تمتلك الأسلحة النووية عالميًا، بالمقارنة بين عامي 2023 و2024. ويتضح التفوق الأمريكي والروسي بالأساس بالمقارنة بكافة القوى النووية الأخرى، إلى جانب نمو القدرات المسلحة لقوى نووية أخرى في مقدمتهم الصين، كما سنشير في الجزء التالي من الورقة.
Source Yearbook, SIPRI, 2024
يتضح من البيانات السابقة أن كل من روسيا والولايات المتحدة معًا يستحوذان على يقرب من 90% من إجمالي الأسلحة النووية العالمية، إلا أن ثمة افتقار للشفافية بشأن تتبع نشر روسيا لأسلحتها النووية منذ عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وإن أشارت بعض التقديرات لقيام روسيا بنشر حوالي 36 رأسًا حربيًا إضافيًا عبر عملياتها العسكرية مقارنة ببيانات يناير 2023، بالإضافة للمزاعم غير المؤكدة بشأن قيامها بنشر أسلحة نووية على الأراضي البيلاروسية.
هذا بالإضافة لتنامي إنتاج المواد الخام والانشطارية المستخدمة في صنع الأسلحة النووية، مما أسهم في زيادة الإجمالي العالمي المتاح منها، كما يتضح من الشكل المقابل.
Source Yearbook, SIPRI, 2024
ثانيًا الصاعدون الجدد وتنامي قوة الصين نوويًا:
برغم من الاستحواذ التقليدي لكل من روسيا والولايات المتحدة على القوى النووية المسلحة، إلا أن الصين قد بات يُنظر لها للمرة الأولى بأنها بصدد تطوير قدراتها العسكرية على الصعيد النووي عبر تعزيز امتلاكها للرؤوس الحربية في حالة تأهب تشغيلي عالٍ. وفقًا لبيانات معهد استكهولم، فالقدرات النووية الصينية آخذة في النمو وهي ذات أعلى معدل نمو عالميًا، وباتت تُقدر قدراتها بنحو 500 رأس حربي بدلاً من 410 رأسًا بحسب تقديرات 2023.
واتصالاً بذلك التطور، بات يُقدر معدل العدد الإجمالي للصواريخ الباليستية العابرة للقارات لدى الصين خلال العقد المقبل ـ والذي يبلغ حالياً نحو 238 صاروخاً ـ أن يتجاوز ما تمتلكه الولايات المتحدة (أكر من 800 صاروخ)، أو حتى إجمالي ما تمتلكه روسيا (أكثر من 1244 صاروخاً).
كما تشير تقديرات ستوكهولم إلى أن الصين تسعى لبناء حوالي 350 صومعة جديدة لصواريخها الباليستية البرية وهو ما من شأنه أن يُزيد عدد الرؤوس الحربية التي يمكنها نشرها على صواريخها الباليستية العابرة للقارات إلى ما يتراوح بين 650 إلى أكثر من 1200 رأس نووي. وسبق أن توصل البنتاجون لتقديرات مقاربة في العام الماضي بشأن القدرات النووية الصينية، حيث ارتأى أن لدى الصين حوالي 500 رأس حربي جاهز للاستخدام، مع توقع مضاعفتها لتلك الرؤوس بنهاية العقد الحالي.
تتسق تلك البيانات مع المؤشرات والتطورات المرصودة على الصعيد الصيني، إذ طوّرت الصين استراتيجيتها العسكرية والنووية على وجه الخصوص لتعزيز قدرتها على الردع الاستراتيجي والانتقام، مع التوسع في تعزيز القدرات القتالية للتكيف مع المخاطر والتهديدات الأمنية المتسارعة، خصوصًا فيما يتعلق بمحيط تايوان، هذا بالإضافة لزيادة الموازنة العسكرية للصين لمعدلات غير مسبوقة هذا العام تُقدر بنحو 231.4 مليار دولار.
وفي ذات السياق، تشير تقديرات معهد ستوكهولم إلى وجود سباق نووي إقليمي على الصعيد الآسيوي بين كل من الصين والهند من جهة والهند وباكستان من جهة أخرى، إلى جانب المخاطر جراء نمو القدرات النووية لكوريا الشمالية، فقد أشار التقرير لأن التقديرات الفعلية بشأن الرؤوس الحربية لدى بيونج يانج غير مؤكدة، إلا أن تستمر في إنتاج البلوتونيوم واليورانيوم عالي التخصيب المستخدمان في الأسلحة النووية. بالإضافة إلى المخاوف بشأن إمكانية استخدامها هذه الأسلحة في مراحل مبكرة من المواجهات العسكرية المحتملة. كما أن الهند من جانبها قد ركزت جهودها على تعزيز ترسانتها بالأسلحة بعيدة المدى خصوصًا تلك القادرة على الوصول إلى أهداف في جميع أنحاء الصين.
ثالثًا تداعيات التوترات الجيوسياسية الراهنة:
ألقت الأزمات والتوترات الجيوسياسية العالمية الراهنة وكذا تأزم العلاقات بين القوى النووية المتنافسة مع بعضها البعض بظلالها على اعتبارات السلم والأمن الدولي على الصعيد النووي، خاصة في ظل تدهور البيئة الأمنية العالمية وما لاقته الأطر الدبلوماسية الثنائية ومتعددة الأطراف المعنية بنزع التسلح من انتكاسات على مدار العام الماضي، ولعل أبرزها تعليق روسيا لمعاهدة (نيو ستارت) جراء تدهور العلاقات الاستراتيجية الروسية الأمريكية، كما أنها أيضًا سحبت تصديقها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. بينما شهدت المحادثات الأمريكية الصينية تحسنًا طفيفًا بعيد زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لبكين والاتفاق على استئناف المحادثات العسكرية بين الجانبين بعد تجميدها على إثر زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي لتايوان في 2022.
بيد أن التطورات العسكرية الميدانية في الأزمة الروسية الأوكرانية قد أثرت سلبًا على السلم والأمن النووي بموجب استهداف المواقع ومحطات الطاقة النووية الأوكرانية مثلما هو الحال في محطة زابوروجيا النووية، الأمر الذي أثار مخاوف الوكالة الدولية للطاقة الذرية وطالبت بالمزيد من الضمانات للحيلولة دون تفاقم المخاطر إلى كارثة غير محمودة العواقب. بل إن المخاطر النووية الإيرانية قد تفاقمت جراء الدعم العسكري الإيراني لروسيا في ظل تدهور علاقتهما بالغرب، مما أصاب المحادثات النووية بالمزيد من التعثر مع استمرار تمديد العقوبات الغربية على إيران، وإن تحسنت نسبيًا آفاق التعاون بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية على إثر التفاهمات غير الرسمية بينها وبين الولايات المتحدة في يونيو 2023.
في حين أن التوترات في الشرق الأوسط بفعل الحرب في قطاع غزة قد أسهمت في توتر العلاقات الإيرانية الأمريكية الإسرائيلية من جديد، وتعثرت معها المساعي الدبلوماسية الرامية نحو إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط خاصة في ظل تمسك تل أبيب بانتهاج سياسة الغموض النووي.
رابعًا الدلالات والمخاطر المحتملة للسلم والأمن الدوليين
يتبين مما سبق أن المخاطر النووية عالميًا آخذة في التزايد على نحو قد يصل إلى حافة الهاوية ويؤدي لتهديدات جسيمة للسلم والأمن الدوليين، خاصة في ظل ما تلاقيه جهود نزع التسلح من عراقيل في خضم ذلك السياق الأمني المحفوف بالمخاطر والذي بات يُعَول فيه على السلاح النووي صراحة لتحقيق الردع وحفظ الأمن القومي.
ففي سياق متصل بما ورد في التقديرات السويدية بشأن مخاطر الأمن النووي، فقد أشار الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ينس ستولتنبرغ” إلى إجراء الحلف محادثات للتباحث بشأن نشر المزيد من الأسلحة النووية وإخراجها من المخازن ووضعها على أهبة الاستعداد في مواجهة التهديدات المتزايدة من قبل كل من روسيا والصين، وفقًا لما صرّح به لصحيفة التليجراف البريطانية منتصف يونيو 2024. وهو ما يتزامن أيضًا مع نمو التهديدات الروسية وإعلانها إجراء تدريبات نووية تكتيكية في المنطقة العسكرية الجنوبية في مايو الماضي على نحو يفاقم مخاطر التعويل على الترهيب النووي من قبل مختلف أطراف الصراع.
كما بلغ الأمر أيضًا حد تلويح قوى اليمين المتطرف الإسرائيلية بإمكانية اللجوء لقصف قطاع غزة بالقنبلة النووية من أجل حسم المعركة ضد حركة حماس، وهو التوجه الذي لاقى استحسانًا من بعض القوى السياسية الأمريكية مثل السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام.
ويمكن إجمالاً تقدير الموقف الراهن ومدى خطورته من خلال المخاوف المستقبلية المحتملة التي حذّر منها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بشأن إمكانية المزاوجة بين المخاطر التقنية للذكاء الاصطناعي والمخاطر النووية على نحو يمثل تهديد وجودي للحياة، فتلك التقنيات تضاعف مخاطر اندلاع الحرب النووية، داعيًا لضرورة التزام القوى النووية بالتعهد بألا تكون كل منهم هي أول من يلجأ للسلاح النووي.
تعقيب ختامي:
تناول المقال آفاق سباق التسلح النووي وملامحه في ضوء ما ورد من تقديرات في التقرير السنوي السالف الإشارة إليه، إلى جانب بعض المؤشرات والتطورات المتزامنة مع بعضها البعض والتي من شأنها جميعًا أن تنذر بأن السلم والأمن الدوليين أصبحا على حافة الهاوية وسط مخاوف من أن تشهد بعض بؤر الصراعات الراهنة أو المحتملة استخدامًا للأسلحة النووية، بما قد يتقوض معه ما بُذل من جهود وما طُور من أطر دبلوماسية ترمي نحو نزع التسلح وإنهاء أسلحة الدمار الشامل، فثمة حاجة ملحة لدى المجتمع الدولي لاتخاذ التدابير التي من شأنها أن تحول دون ذلك السيناريو الكارثي غير محمود العواقب.