إعداد الدكتور/ حسام يونس
باحث فى العلوم السياسية
تشهد الساحة الإقليمية بين الحين والآخر ظهور ترتيبات للأمن والتعاون الإقليمي بين بعض الأطراف، بعضها يستمر ويتطور في حال كانت هناك أهداف ودوافع مشتركة للدول المنضمة له، وبعضها يختفي ويتلاشى دوره، عندما تكون التوجهات مختلفة، وربما النوايا أيضاً. تنطبق هذه القاعدة على منتدى النقب، الذي ظهر للعلن في مارس 2022م من خلال اجتماع لوزراء خارجية عدد من الدول العربية وإسرائيل والولايات المتحدة، وكان مقرر له الانعقاد للمرة الثانية في مارس 2023م لكنه تأجل لشهر يونيو 2023 بالمغرب، ثم تم تأجيله مرة أخرى لأجل غير مسمى، دون الإعلان عن موعد جديد، ولا شك أن هذا التأجيل المتكرر يثير في الأذهان عدة تساؤلات حول مستقبل هذا التجمع الإقليمي الجديد ومصيره.
في هذا الإطار نلقي الضوء على بعض التطورات الإقليمية ذات التأثير على وضع هذا المنتدى، وأهدافه وكذلك مستقبله، خاصة في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تفاعلات كثيرة، وفي أكثر من ملف، والتي قد يكون لبعضها إنعكاسات سلبية، منها على سبيل المثال لا الحصر تصعيد حكومة نتنياهو ضد الفلسطينيين، بشكل غير مسبوق، وإتفاق الجميع على كون الحكومة الإسرائيلية الحالية هي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل.
أولاً” الإطار الإستراتيجي لمنتدى النقب:
المنظور الأمريكي. يعتبر منتدى النقب حاليًا بمثابة المنتدى الرئيسي للولايات المتحدة، والتي يمكنها من خلاله تعزيز التعاون الإقليمي بين إسرائيل وبعض الدول العربية، خاصة تلك التي ترتبط بإطر مختلفة من العلاقات مع إسرائيل، وتنطلق الرؤية الأمريكية بهذا الخصوص من رغبة الإدارة الحالية في تخفيف حدة التوترات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، من أجل التفرغ لقضايا مهمة في سياستها الخارجية كالحرب الروسية والأوكرانية، وتداعياتها على الأمن والاقتصاد الدوليين، والتوتر مع الصين بشأن تايوان. ولذلك شاركت الولايات المتحدة عبر وفد رفيع المستوى في الاجتماعات التحضيرية التي أقيمت في المنامة في البحرين في 27 يونيو 2022م وكان الاجتماع للجنة التنسيقية لمنتدى النقب بمشاركة كبار المسؤولين في وزارات خارجية الدول الست، وفي أبو ظبي بالإمارات في يومي 9-10 يناير 2023م، ولا شك أن من بين أهداف الولايات المتحدة من هذا التجمع هو ترجمة “اتفاقات إبراهام” على أرض الواقع، لذلك تم تعيين السفير السابق لدى إسرائيل، دان شابيرو، ليكون مسؤولاً عن اتفاقيات “أبراهام”. وقد أشار “البنتاجون” إلى “اتفاقيات إبراهام” بين إسرائيل وبعض الدول العربية باعتبارها “فرصة استراتيجية، لتوحيد الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات المشتركة في الشرق الأوسط”، إلى جانب الاستفادة من تعزيز الأمن الإقليمي، والغذائي، والمائي، والطاقة، والصحة، والتعليم، والسياحة.
المنظور الإسرائيلي. أما بالنسبة لإسرائيل فهي ترغب في الاستفادة من تغيير وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في “خطة القيادة الموحدة”، والذي تم على أثره نقل إسرائيل من منطقة عمليات “القيادة الأمريكية الأوروبية” (“يوكوم”) إلى منطقة عمليات “القيادة المركزية الأمريكية” (“سينتكوم”). من أجل تحقيق مصالح إقليمية أكبر لإسرائيل سواء على المستوى الإستراتيجي والاقتصادي، أو فيما يتصل بترسيخ وجودها في المنطقة، والذي حققت فيه نقلة مهمة من خلال إتفاقات السلام الإبراهيمي.
المنظور العربي. أما على المستوى العربي للدول المشاركة، فإن هذا المنتدى يمثل فرصة جيدة لطرح التحديات التي تواجه مسار السلام الإسرائيلي الفلسطيني بشكل عام ومناقشة آليات الحل بوجود الطرف الأمريكي، الذي لا يزال يحتفظ بموقع الراعي الأساسي لمسار التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما أن هذا المنتدى يمثل فرصة لنقل وجهة النظر العربية حيال بعض الترتيبات الإقليمية التي تنخرط فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. ويعتبر بعض المحللين الإسرائيليين أن هذا المنتدى بمثابة ورقة ضغط يمكن إستخدامها في بعض الأحيان من جانب أطراف المجموعة العربية ضد الطرف الإسرائيلي، وهو بالفعل ما حدث لاحقاً من خلال تأجيل المغرب لعقد النسخة الثانية للمنتدى ( كان مقرر لها شهر يونيه 2023) بسبب عدم إعتراف إسرائيل بمغربية الصحراء الغربية ، إلى أن حصلت المغرب على هذا الإعتراف في 17 يوليو 2023 ، حيث أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو خطاب للملك محمد السادس تضمن قرار دولة إسرائيل الاعتراف بسيادة المغرب على أراضي الصحراء الغربية”. وأن إسرائيل ستقوم بـ”إخبار الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية التي تعتبر إسرائيل عضوا فيها، وكذا جميع البلدان التي تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية” بهذا القرار.
كما يركز المحللون الإسرائيليون أيضًا على فكرة تباين رؤى المجموعة العربية حيال هذا المنتدى، ويؤكدون أن مستوى التشجيع على هذا المنتدى يختلف نسبةً لرؤية كل دولة على حدة لمسألة العلاقات مع إسرائيل، فالدول التي دخلت مؤخرًا فيما يسمى بالسلام الإبراهيمي لديها منظور للتعاون مع إسرائيل، يتسع ليشمل قضايا عديدة، تتعدى الجانب السياسي والأمني، وبالفعل طورت هذه الدول مجالات للتعاون مع إسرائيل تشمل قطاعات الصحة والزراعة والتصنيع والتكنولوجيا وغيرها خلال فترة قصيرة للغاية، وهذا الأمر يبدو مختلفاً عن رؤية الدول التي وقعت مع إسرائيل منذ سنوات إتفاقات سلام، والتي جاءت بعد مرحلة صراعات وحروب، ولا تزال متحفظة على مسألة التطبيع الكامل للعلاقات مع إسرائيل، خاصة على المستوى الشعبي، علاوة على ربطها لأي مسار للتقدم في العلاقات الثنائية مع إسرائيل بتحقيق تقدم مقابل في الملف الفسطيني.
ثانيًا: الإطار القانوني والمؤسسي :
صادقت الحكومة الإسرائيلية في 18 سبتمبر 2022م على قرار رقم (1861) الذي بموجبه تم اعتبار منتدى النقب بمثابة “إطار تنظيمي إقليمي” أعلى، يركز كل مساعي التطبيع بين الدول المنضمة إليه وحسب قرار الحكومة الإسرائيلية، تم “تعيين مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية لرئاسة فريق التوجيه الإسرائيلي” الذي سيركز كل أعمال منتدى النقب على المستويات التالية:
الأول: قمة سنوية على مستوى وزراء الخارجية والتي تعتبر كهيئة إرشادية للمنتدى ومسؤولة عن صياغة الرؤية وجدول الأعمال، ووزير خارجية الدولة المضيفة للقمة سيكون رئيس منتدى النقب ما بين الاجتماعات السنوية. وبهذا، تحول المنتدى إلى تنظيم أعلى، ذي هيكلية ونظام داخلي، وجدول أعمال سنوي.
الثاني: مجموعات العمل المشتركة. سيتم إنشاء ست مجموعات عمل مشتركة بين الدول تجتمع ثلاث مرات على الأقل في السنة، ستعمل مجموعات العمل المشتركة بين الدول على تعزيز المبادرات والمشاريع لتحقيق الأهداف الأساسية للمنتدى، وعليه، فإن مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلي المكلف بموجب قرار (1861)، سيكون وظيفيًا وتنظيميًا مسؤولاً، بموجب منتدى النقب، عن مديرين منتدبين من وزارات الزراعة، الاستخبارات، الطاقة، السياحة، الصحة، والأمن الإسرائيلية.
ثالثًا: ماذا تحقق؟
عُقدت النسخة الأولى من المنتدى في مستوطنة سديه بوكير بصحراء النقب الشمالي، حيث استضاف وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق يائير لابيد وزراء خارجية مصر والإمارات والبحرين والمغرب، بالإضافة إلى وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكين، يومي 27 -28 مارس 2022م، تحت عنوان كبير وهو التعاون الإقليمي ومناقشة فرص السلام في المنطقة، خاصة مع تأكيدات أمريكية متكررة على صيغة حل الدولتين، التي باتت مقبولة عربياً وفلسطينياً.
ومع بروز بعض التحديات في الأشهر التي أعقبت القمة الأولى ، مع وصول حكومة نتياهو والتي نتجت عن تصعيد المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بات واضحاً أنه لا بد من التمهيد لقاعدة مشتركة جديدة يمكن الانطلاق عليها، تأخذ في الإعتبار تفاعلات القضية الفلسطينية وكذلك الاعتبارات الأمنية لإسرائيل، فاندلاع المواجهات بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل سيشكل عائقاً بلا شك أمام مسار هذا المنتدى، وعلى هذا عُقد مؤتمري العقبة في 27 فبراير 2023م، وشرم الشيخ في 19 مارس 2023م، بمشاركة السلطة الفلسطينية، وبهدف الضغط على الحكومة اليمينية في إسرائيل من أجل وقف البناء الاستيطاني أو الإقرار بالبؤر الاستيطانية القائمة، ووقف اقتحامات المناطق “أ” المصنفة وفق اتفاق أوسلو، ومطالب أخرى تتعلق بوقف هدم منازل الفلسطينيين في المنطقة “ج”، ووقف اقتحامات المسجد الأقصى، وتجميد تشديد القيود التي تستهدف الأسرى، وتسليم الجثامين التي تحتجزها سلطات الاحتلال، وضمانات إسرائيلية بعدم وقوع استفزازات في الحرم القدسي بيد أن إسرائيل كانت ترى بضرورة تجاوز الجانب الفلسطيني إلى الحد الذي يلبي مطالبها الأمنية فقط، عبر تعزيز السلطة الفلسطينية وتشجيعها للعمل ضد ما تصفه إسرائيل بـ”التنظيمات الإرهابية”، وكل من يبادر إلى تنفذي هجمات. أي الأمن مقابل لاشيء ، وهو ما أوجد فجوة واسعة في المواقف بين الأطراف المشاركة في المنتدى.
رابعًا: مستقبل منتدى النقب:
حسب ما تقرر في ضوء مخرجات قمة النقب الأولى ، فقد كان من المفترض عقد الاجتماع الثاني للمنتدى في البداية في مارس 2023م، لكنه واجه تأخيرات متعددة، حتى تم تحديد موعده في نهاية المطاف في نهاية يونيو 2023م. لكن ما حدث بعد ذلك هو إعلان المغرب عن تأجيل آخر لأسباب فنية، ولم يلتزم المغرب بتحديد موعد جديد، وقد تطرأ تطورات في هذا الإتجاه بعد حصول المغرب على إعتراف إسرائيل بالصحراء الغربية في 17 يوليو الماضي. ومن واقع بعض المؤشرات يبدو أن مستقبل منتدى النقب كمنصة إقليمية تجمع إسرائيل بعدد من الدول العربية وبمشاركة أمريكية بالأساس سيظل مرتبط بعده أمور، أبرزها ما يلي:
- جدية الالتزام الأمريكي برعاية مسار للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفق صيغة حل الدولتين، وضمان عدم تبدل المواقف الأمريكية وفق الحزب الموجود في البيت الأبيض، خاصة أن العام القادم سيشهد انتخابات رئاسية أمريكية وبالتالي ستكون القضية الفلسطينية من بين قضايا الانتخابات والمزايدة أحيانًا من المرشحين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
- مسار السلام الإبراهيمي الذي تعتبره واشنطن وإسرائيل فرصة استراتيجية سانحة لتدعيم مركز إسرائيل في المنطقة، وهو في الوقت نفسه يضع قيود كثيرة على السلوك الإسرائيلي فيما يتعلق بالاستجابة لمطالب الدول الداخلة في هذا المسار، والتي تُلح في تقديم حلول مقبولة للجانب الفلسطيني، على أساس أن السلام الإبراهيمي في المنطقة لن يكتب له النجاح طالما تعثر مسار الحل بالنسبة للملف الفلسطيني بشكل عام، والدليل على ذلك تأجيل لمغرب للاجتماع الثاني، بسبب سياسات اليمين المتطرف وحكومة نتنياهو ضد الفلسطينيين والتي تخلق ظروف سياسية غير مواتية لعقد مثل هذا الاجتماع على أراضي دول عربية.
- سياسة الحكومة اليمينة الإسرائيلية التي تتفاخر بأن لها السبق وصاحبة الأرقام القياسية بالمقارنة مع الحكومات السابقة في المصادقة على مخططات لبناء 13 ألف وحدة استيطانية في الضفة الغربية خلال ستة شهور، وهو معدل سنوي يبلغ ضعف عدد الموافقات السنوية مقاربة بالحكومات السابقة، و22 خطة لبناء 16 ألف وحدة استيطانية جديدة بالقدس لحسم معركتها، واستمرار مسلسل القتل والتدمير في الضفة الغربية وقطاع غزة، علاوة على تقارير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية التي ترجح بازدياد تفاقم عمليات المقاومة ضد الاحتلال، وهذا أمر لا يشجع أي مسار علني لعلاقات مع إسرائيل، سواء بشكل ثنائي أو إقليمي.
- رفض الدول العربية المشاركة، وعلى رأسها مصر لاستمرار إسرائيل في سياسات أحادية الجانب خاصة فيما يتعلق بالاستيطان، واستمرار السلوك الإسرائيلي فيما يتعلق بتكرار حوادث الاعتداء على حرمة المسجد الأقصى والأماكن المقدسة، وتكرار تنفيذ عمليات عسكرية داخل الضفة والقطاع، تؤدي لقتل مدنيين وتدمير البنية التحتية للفلسطينيين، بكل ما يعنيه ذلك من عرقلة للجهود التي تبذلها مصر لإقرار تهدئة في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، تقود لمناخ يساعد على البدء في مسار واضح للسلام.
الخلاصة
يعتبر منتدى النقب تجمع إقليمي قيد التشكل والتطوير، فرغم عقد اجتماع واحد له وتأجيل الثاني، وغموض المستقبل بخصوصه، إلا أن احتمالات توسيعه مستقبلاً قائمة في ظل رغبة أمريكية وإسرائيلية في ضم دول أفريقية مسلمة إلى المنتدى، وتوسيع دائرة الدول العربية المشاركة (تقارير إسرائيلية أشارت لموافقة الصومال وجزر القمر على المشاركة بوضع المراقب)، ليصبح منتدى إقليمي موسع، يوفر مجالاً لتعاون متعدد الأطراف مع عدد من دول المنطقة.
أيضًا خلص التحليل إلى أن سياسات اليمين المتطرف في إسرائيل تضر بفرص السلام والتعاون الإقليمي، كما تضر كثيرًا بأهداف الولايات المتحدة في المنطقة، وبالتالي سيظل مصير هذا التجمع مربوطًا بشكل أساسي بحدوث تغيير سياسي كبير ليس فقط على مستوى الحكومة الإسرائيلية، لكن على مستوى السياسات الإسرائيلية تجاه حلول الصراع مع الفلسطينيين، والانتقال من حالة الاستعلاء والكبرياء القاتلة ورفض الآخر، إلى قناعات تقود لفرص مقبولة للسلام مع الفلسطينيين وفق مقررات الشرعية الدولية.
لقراءة الموضوع بصيغة pdf: