إعداد :
رنا حمدي – باحثة في الشأن الصيني
تقديم
ليس مستغرباً أن يبدأ العام الحالي في أفريقيا بإهتمام من القوتين الأكبر في العالم وهما الولايات المتحدة والصين، فأفريقيا هي ساحة المنافسة الحالية والقادمة وسيكون لها دور مُرجح في عملية مراكمة مصادر القوة والثروة والنفوذ لدى القوى الطامحة للهيمنة العالمية والصعود لقمة النظام العالمي، فأفريقيا بثرواتها المتعددة وحجم أسواقها وعدد دولها وسكانها وما تمثله من ثقل عالمي في التجمعات والتكتلات المنظمات الدولية والقارية هي هدف استراتيجي لكل القوى الكبرى حالياً، بل أن بعض القوى الإقليمية بدأت هي الأخرى في التكالب على القارة ودولها، طمعاً في الفوز بنصيب من هذه الثروات والإمكانيات الكامنة والمتدفقة سواء في مجال الطاقة أو المعادن أو غيرها.
ضمن هذا الإطار شهدت القارة الأفريقية جولتين لوزراء خارجية كلاً من الصين والولايات المتحدة في توقيتات قريبة وكأنها متزامنة، حيث قام وزير الخارجية الصيني في الفترة من 13-18 يناير الماضي 2024م بزيارة لعدة دول أفريقية وهي مصر وتونس وإثيوبيا وتوجو والجابون ، بينما قام وزير الخارجية أنتوني بلينكن بجولة في دول غرب أفريقيا شملت الرأس الأخضر وساح العاج ونيجيريا وأنغولا في الفترة من 21 إلى 26 يناير 2024م .
يقدم مركز السلام رؤية تحليلية مقارنة لأبعاد هاتين الزيارتين، بغرض التعرف على الدلالات الخاصة بكل منهما، خاصة بالنسبة للتوقيت وكذلك اختيارات الدول والمناطق، بالإضافة لفهم ملامح المنافسة الحالية في افريقيا بين الصين والولايات المتحدة في العام 2024 الذي يجىء وسط تغيرات كثيرة عالمية وإقليمية سواء كانت حرب غزة أوتهديدات الملاحة البحرية في البحر الأحمر أو الأوضاع في بعض دول القارة شرقاً ( التوتر بين اثيوبيا والصومال – الصراع في السودان ) وغرباً مع الإنسحاب الفرنسي العسكري من النيجر ومحاولات بعض القوى ملء الفراغ وكذلك دول وسط القارة وأفريقيا جنوب الصحراء وما بها من مشكلات مختلفة، بالإضافة لإستمرار الحرب في أوكرانيا ومحاولات استمالة دول أفريقيا لأي من أطراف النزاع.
الجولة الصينية:
خلال الفترة ما بين 13 – 18 من يناير الماضي، قام وزير الخارجية الصيني وانغ يي بجولة إفريقية شملت مصر وتونس وتوغو وساحل العاج. وذلك هو العام الـ34 على التوالي الذي تكون فيه أفريقيا المقصد الأول في أول زيارة خارجية يقوم بها وزراء خارجية الصين في كل عام. وهي رسالة وتقليد متبع في نفس الوقت، فالصين تؤسس للآلية ثابتة وتحافظ عليها تجاه القارة الأفريقية وهي رسالة في غاية الأهمية لكل دول القارة وتعكس أولوية أفريقيا في السياسة الصينية منذ ثلاث عقود على الأقل وهي كذلك رسالة للقوى الدولية المنافسة بأن الصين لن تترك أفريقيا وستحافظ على مصالحها بها، بل أنها بصدد تطوير هذه المصالح ونقلها من المستوى الاقتصادي للمستوى الأمني والعسكري ومستويات استراتيجية أوسع تشمل الملاحة البحرية والموانىء والقواعد العسكرية وخطوط نقل الطاقة وغيرها. ومن الملاحظ أن الصين تسير بخطوات ثابتة نحو تدعيم علاقاتها بدول القارة سواء عبر الآليات الثنائية مع دول بعينها أو عبر الآليات الجماعية التي تجمع بكين بكل دول القارة .
فعلى المستوى الجماعي . هناك آلية حوار قادة الصين وأفريقيا ، الذي عقد أخر مرة في أغسطس 2023 في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا ، بينما من المقرر لهذا العام أن تعقد الدورة الجديدة لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي في الصين. وأثناء حوار قادة الصين وأفريقيا الذي عقد العام الماضي، أعلنت الصين إطلاق “مبادرة دعم التصنيع الأفريقي” وتنفيذ “خطة الصين لمساعدة أفريقيا على التحديث الزراعي” و”خطة التعاون في مجال تنمية المواهب بين الصين وأفريقيا”، وتشمل هذه التدابير الثلاثة المجالات التي تحتاج أفريقيا إليها بشكل عاجل لتحقيق التحديث. وقد لقيت هذه المبادرات ترحيبًا من القادة الأفارقة. وستعمل زيارة وزير الخارجية وانغ يي على تعزيز تنفيذ نتائج الحوار، والعمل على تفعيل هذه المبادرات مع العام الحالي لعرض نتائجه على جولة الحوار القادمة في الصين والمقرر لها الربع الأخير من 2024م.
كما تستضيف الصين هذا العام الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني الأفريقي، وهذه هي المرة الثانية التي يجتمع فيها القادة الصينيون والأفارقة في الصين بعد “قمة بكين 2018” لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي، وهو حدث كبير تتطلع إليه الصين وأفريقيا. وتركز الصين عبر هذه الآلية على أفكار من قبيل اتخاذ موقف واضح ضد الاستعمار والهيمنة، ودعم بعضهما البعض بقوة في حماية المصالح الأساسية، والدفاع بثقة عن المطالبات العادلة للدول النامية، وتعزيز تطوير النظام الدولي في اتجاه أكثر عدلا ومعقولية.
أما على المستوى الثنائي والذي تكشفه اختيارات الدول في الجولة الصينية الأخيرة فنجد أن الصين أعطت أولوية ومركزية في الزيارة لمصر بإعتبارها بوابة مهمة لأفريقيا واعترافاً من بكين بالثقل المصري السياسي والتاريخي والاقتصادي في دول القارة ففي مصر، اجتذبت منطقة “تيدا” للتعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين ومصر أكثر من 140 شركة للاستقرار فيها، مما يوفر فرص عمل بشكل مباشر أو غير مباشر لأكثر من 50 ألف مصري. وذلك ضمن مبادرة الحزام والطريق. أما في في تونس، فتم الانتهاء من إنشاء وتسليم المستشفى الجامعي الجديد بصفاقس، ومعهد التدريب الدبلوماسي التونسي، وتتقدم مشاريع تنفذها الشركات الصينية بشكل جيد. وفي شمال توغو، نجح الفريق الصيني للتكنولوجيا الزراعية في إجراء تجارب على أصناف الأرز، بما يساعد على زراعة الأرز في موسم الجفاف. وفي أبيدجان، العاصمة الاقتصادية لكوت ديفوار، تم الانتهاء من بناء جسر كوكودي الذي أنشأته شركة صينية، مما أدى إلى تخفيف الازدحام المروري في المدينة.
نتائج الجولة الصينية
وفقا للبيانات الصادرة عن زيارة مصر، يتبين أن مصر والصين يتمتعان بتوافق كبير في جميع القضايا التي تمت مناقشتها، بما في ذلك التوترات في الشرق الأوسط والجهود المبذولة لتحقيق السلام في فلسطين. كما شملت المحادثات التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي بين الصين ومصر.
وتركزت زيارة وزير الخارجية الصيني على بدء العقد الثاني للشراكة الاستراتيجية بين البلدين. وأكدت على الدعم الصيني لمصر باعتبارها عضوًا جديدًا في مجموعة “بريكس”. وتعهد الوزير الصيني بأن الصين ستكون شريكًا استراتيجيًا طويل الأمد في مسيرة مصر نحو التنمية، وتتطلع إلى تعزيز التعاون بين البلدين.
كما تم وضع خطة خمسية للتعاون بين البلدين للسنوات الخمس المقبلة، بهدف دفع العلاقات إلى مستوى أعلى وتحقيق توافق بين مبادرة الحزام والطريق ورؤية مصر 2030. ويشمل هذا التعاون فرصًا متنوعة، مثل التنقيب وإنشاء مركز للبحث عن الآثار تحت الماء في الإسكندرية. والتعاون أيضا في مشاريع رئيسية مثل منطقة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العاشر من رمضان والقطار الخفيف.بالإضافة إلى التعاون في مجال الفضاء.
كما تم التأكيد على التوجه الصيني لزيادة حجم استثماراتها في قطاعات مختلفة مثل البترول والطاقة والبنية التحتية وتعزيز التجارة بين البلدين وزيادة حجم التبادل التجاري، وتشجيع الشركات الصينية على المجىء للقاهرة للبحث في فرص الاستثمار والتعاون.
كما أعرب الجانبان في البيان الصادر عن متابعتهما الحثيثة لتطورات الأوضاع في البحر الأحمر وأهمية قراءة تلك التطورات ارتباطاً بالأوضاع في غزة باعتبارها مسبباً رئيسياً لها، كما أعربا عن القلق إزاء اتساع رقعة الصراع بالمنطقة، مع التشديد على أهمية تكاتف الجهود الدولية والإقليمية من أجل الوقف الفوري للاعتداءات على قطاع غزة، والعمل علي خفض حدة التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، كذلك أكدا على أولوية تأمين سلامة وأمن الملاحة في البحر الأحمر.
كما أعربت الصين بشكل غير مباشر عن انتقادها للغارات الجوية التي تنفذها الولايات المتحدة وبريطانيا على أهداف تابعة للحوثيين في اليمن، مشيرة إلى أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لم يصدر قرارًا بشأن ذلك. وتشدد الصين على ضرورة تجنب تصعيد التوتر في البحر الأحمر وعدم زيادة المخاطر الأمنية في المنطقة بشكل عام. كما تحث جميع الأطراف على احترام سلامة الممرات المائية في البحر الأحمر.
أما جولة تونس التي كانت المحطة الثانية في جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي، والتي استمرت من 14 إلى 16 يناير 2024، فقد تم التأكيد على تعزيز الوحدة والتنسيق للدفاع بشكل مشترك عن الحقوق والمصالح المشروعة للدول النامية، ودعم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتعزيز العدالة والإنصاف الدوليين. كما تبادل الجانبان وجهات النظر حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واتفقا على مواصلة الدعم المشترك للقضية العادلة للشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه الوطنية المشروعة إلى جانب تعزيز العلاقات الاقتصادية ضمن مبادرة الحزام والطريق التي انضمت لها تونس في 2018.
بينما اسفرت زيارة توغو التي كانت المحطة الثالثة في جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي 18 يناير 2024، والذي تعهد خلال لقائه وزير خارجيتها روبرت دوسي بتعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين في جهودهما المشتركة نحو التحديث، مع التأكيد أنه يمكن لتوغو والدول الإفريقية الأخرى الاعتماد دائمًا على الصين كشريك استراتيجي طويل الأجل، مؤكدًا دعم الصين الكامل لإفريقيا في استكشاف المسار الإفريقي نحو التحديث. ومن جهته أكد وزير خارجية توغو تمسك بلاده بمبدأ “صين واحدة”، ودعمها في حماية سيادتها ووحدة وسلامة أراضيها.
أما المحطة الأخيرة في ساحل العاج (كوت ديفوار): فقد تم التأكيد على تعزيز التعاون الشامل بين الجانبين ، وتعهد الجانبان بتعزيز التعاون الشامل بين الصين وكوت ديفوار في مختلف المجالات، بما في ذلك الاقتصاد والثقافة والتعليم والأمن. وأشار الوزير الإيفواري إلى التزام كوت ديفوار بمبدأ “صين واحدة”، ودعمها للصين في الدفاع عن حقوقها ومصالحها المشروعة في بحر الصين الجنوبي .
الجولة الأمريكية
قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جولة دبلوماسية مدتها أسبوع عبر أفريقيا، بدأت في 21 يناير 2024. هدفت الجولة، التي امتدت إلى الرأس الأخضر وكوت ديفوار( ساحل العاج) ونيجيريا وأنغولا، إلى متابعة مقررات القمة الأمريكية الإفريقية التي عقدت في واشنطن قبل عام، وذلك على مستوى التطورات الاقتصادية والتجارية والصحية.
في الرأس الأخضر، حيث المحطة الأولى لجولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الإفريقية، ركز بلينكن في تصريحاته على أن الرأس الأخضر نموذج للديمقراطية في أفريقيا ، بجانب ملفات أخرى مثل التعاون الاقتصادي والتجاري والصحي. كما تناولت الزيارة المخاوف الأمنية، وخاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي، باعتبارها من النتائج الرئيسية للقمة الإفريقية الأمريكية الأخيرة. وقد عملت الزيارة على عرض النجاحات الملموسة الناجمة عن الالتزامات التي تم التعهد بها في واشنطن.
وفي كوت ديفوار، المحطة الثانية في جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأفريقية، تركزت المناقشات الدبلوماسية على العلاقات الثنائية والديمقراطية الإقليمية. سلطت المحادثات الضوء على الالتزام المشترك بتعزيز المبادئ الديمقراطية في المنطقة، مع الإشارة إلى وجه التحديد إلى الحاجة إلى إحراز تقدم في مالي وبوركينا فاسو والنيجر التي صارت مناطق نفوذ روسية في غرب إفريقيا. وأبدت الولايات المتحدة اهتماما كبيرا بدعم المسيرة الديمقراطية في كوت ديفوار، وتعهدت بتقديم 45 مليون دولار إضافية لتعزيز جهود مكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار في المنطقة، مما يؤكد أهمية البلاد في الأمن الإقليمي.
وفي نيجيريا، وهي المحطة الرئيسية في جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الإفريقية، دارت المناقشات حول معالجة التحديات الأمنية في البلاد ومنطقة غرب إفريقيا خاصة مع تصاعد العملية الإرهابية بالمنطقة. وشدد بلينكن على التعاون مع الجهات الفاعلة المحلية، واعترف بالدور المحوري الذي تلعبه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) في الأمن الإقليمي. وتم التأكيد على أهمية نيجيريا في الحرب ضد الإرهاب حيث التزمت الولايات المتحدة بتعزيز التعاون والدعم. وأشارت الزيارة إلى التركيز الاستراتيجي للولايات المتحدة على التعامل مع الشركاء المحليين والهيئات الإقليمية لمعالجة المخاوف الأمنية المشتركة. كما هدفت الجولة إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية وتعزيز الاستقرار في مواجهة التهديدات الإقليمية الناشئة.
وفي أنغولا، المحطة الأخيرة من جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأفريقية، تم التركيز على الاعتراف بدور البلاد في تعزيز الاستقرار في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وتعكس الزيارة الامتنان تجاه التزام الحكومة الانغولية بالاستقرار الإقليمي. ومن المرجح أن مناقشات بلينكن تطرقت إلى الأهمية الجيوسياسية لأنغولا، خاصة أنها تعتبر معقلا للنفوذ الروسي. وشددت الزيارة على أهمية المشاركة والتعاون الدبلوماسي في الحفاظ على الاستقرار في منطقة وسط أفريقيا.
الفارق بين المقاربة الصينية والأمريكية:
من الواضح من جدول الأعمال ونتائج هذه الزيارات أن هناك فارقاً واضحاً في المقاربتين الصينية والأمريكية إزاء دول القارة، فبينما تعطي الصين الأولوية للتنمية والعمل على الأرض والتعاون المشترك لا تزال الولايات المتحدة تتحدث عن شعارات الديمقراطية والحكم الرشيد .
وبينما أكدت الصين على زيادة التبادلات التجارية، أظهرت جولة بلينكن نهجا دقيقا، يجمع بين الاعتبارات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، وأعطت الولايات المتحدة الأولوية للجهود التعاونية، ودعم الهيئات الإقليمية، والتعامل مع المجتمعات المحلية لتعزيز الاستقرار والديمقراطية.
فطوال جولته الأفريقية، أكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن باستمرار على أهمية الديمقراطية والحكم الرشيد. وقد سلطت الزيارة إلى الرأس الأخضر الضوء عليها كنموذج ديمقراطي، مما حدد مسار المناقشات حول التقدم الديمقراطي في جميع أنحاء المنطقة. وفي كوت ديفوار، دارت المناقشات مع الرئيس الحسن واتارا حول الالتزام المشترك بالمبادئ الديمقراطية، مع إشارات محددة إلى الحاجة إلى إحراز تقدم في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. أظهر نهج بلينكن، الذي يدعو إلى التعاون مع المجتمعات المحلية، استراتيجية دقيقة. وأكدت الجولة التزام الولايات المتحدة بتعزيز المثل الديمقراطية في مواجهة التحديات الإقليمية، وتعزيز أهمية الاستقرار السياسي والحكم التشاركي في الدول الأفريقية.
كما يتضح أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية للبعد الأمني بالأساس في مسائل مثل الإرهاب والتطرف وجماعات الجريمة المنظمة ومكافحة الهجرة غير المشروعة وغيرها ، لذلك برز الأمن ومكافحة الإرهاب كموضوعين محوريين خلال الجولة الأفريقية التي قام بها وزير الخارجية أنتوني بلينكن وأبدت واشنطن مخاوفها بشأن التحديات الأمنية في منطقة الساحل وخليج غينيا. ففي نيجيريا، تناولت المناقشات التحديات الأمنية التي تواجه البلاد ومنطقة غرب أفريقيا الأوسع، مع الاعتراف بالدور الحيوي الذي تلعبه المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS). وأسفرت الزيارة إلى كوت ديفوار عن تعزيز الالتزام، مع التعهد بمبلغ إضافي قدره 45 مليون دولار لتعزيز جهود مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي. وشددت مشاركة بلينكن على أهمية النهج التعاوني، ودعم الجهات الفاعلة المحلية والهيئات الإقليمية في معالجة المخاوف الأمنية المشتركة. وعكست الجولة التزام الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات استباقية ضد الإرهاب والتزامها بتعزيز قدرات الدول الأفريقية لضمان الاستقرار في مواجهة التهديدات الإقليمية الناشئة.
وتدلل المؤشرات الاقتصادية على هذا الفارق بوضوح حيث ظلت الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا لمدة 14 عامًا متتاليًا، كما نفذت الصين مشروعات ضخمة لصالح التنمية بدول القارة منها ( بناء أكثر من 10 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية، مد ما يقرب من 100 ألف كيلومتر من الطرق، إقامة حوالي 1000 جسر و100 ميناء، وإنشاء عدد كبير من المستشفيات والمدارس في أفريقيا. كما أن التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا نما بنسبة 7.4% على أساس سنوي، خلال الشهور السبعة الأولى من العام الماضي، وأعلنت الهيئة العامة للجمارك الصينية، أن التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا بلغ 1.14 تريليون يوان (نحو 160 مليار دولار)، بينما بلغ إجمالي التجارة الثنائية 1.87 تريليون يوان (نحو 263.3 مليار دولار) في عام 2022، أي بزيادة 14.8% على أساس سنوي.
بينما شكلت المشاركة الاقتصادية حجر الزاوية في جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأفريقية، حيث سلطت الضوء على التطورات الإيجابية منذ القمة الأمريكية الأفريقية. وفي نيجيريا وغيرها من الدول الساحلية، أظهرت الولايات المتحدة التزامها بدعم الاستقرار الاقتصادي، مع التركيز الاستراتيجي على مواجهة نفوذ الدول المنافسة، وأبرزها روسيا. وقد حظيت كوت ديفوار، الشريك الرئيسي، بالثناء على دورها في المنطقة، إلى جانب الإعلان عن تمويل إضافي بقيمة 45 مليون دولار لتعزيز الاستقرار ومكافحة التهديدات الإقليمية. ويضاف هذا التخصيص إلى الدعم الحالي الذي تبلغ قيمته 300 مليون دولار من واشنطن منذ عام 2022، مما يشير إلى الجهد المتواصل لتعزيز العلاقات الاقتصادية.
البعد الاستراتيجي للزيارات:
لم ينشر شيئاً عن الجانب الاستراتيجي والعسكري لهذه الجولات لكن تشير جملة التحركات السابقة خاصة منذ التغيرات التي حصلت في النيجر والجابون في غرب افريقيا ، بالإضافة للتهديدات التي ظهرت للملاحة البحرية في البحر الأحمر مؤخراً أن كلاً من الصين والولايات المتحدة يسعيان لتعزيز مواقعهم الاستراتيجية والعسكرية في بعض مناطق القارة .
فالبنسبة للولايات المتحدة فهي تراقب وتخشى من تزايد النفوذ الروسي العسكري والأمني في غرب أفريقيا وتعمل على عدم استفادة كلاً من روسيا والصين من الإنسحاب الفرنسي من النيجر، حيث تمثل النيجر المحور الرئيسي للجهود الأميركية لمواجهة الجماعات المتطرفة الذين اجتاحوا منطقة الساحل، حيث قامت الولايات المتحدة ببناء قاعدة بتكلفة 100 مليون دولار في مدينة أغادير الصحراوية بالنيجر لتوجيه أسطول من الطائرات المسيرة.وبينما سُمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بقوات أميركية قوامها نحو 1000 جندي، قال الجنرال جيمس هيكر، قائد القوات الجوية الأميركية لكل من أوروبا وإفريقيا، في أواخر العام الماضي، إنه تجري مناقشة “عدة مواقع” في أماكن أخرى في غرب إفريقيا لإنشاء قاعدة جديدة للمسيرات.
أيضا ً تكشف هذه الزيارة تحديداً عن اهتمام الصين بدول أفريقيا المطلة على المحيط الأطلسي والتي تعتبر المنفذ البحري لدول وسط أفريقيا الغنية بالثروات الطبيعية، فاستهداف ثلاث دول إفريقية تقع على الساحل الغربي، يعكس رغبة الصين في استكمال خطها التجاري الدائري بعد اكتماله في شرق أفريقيا (جيبوتي و مدغشقر) واستئناف خطها البري البحري (الصين -فانكوفر- المغرب) في شمال أفريقيا , وتعزيزه بوجود عسكري من خلال قواعد عسكرية على المحيط الأطلسي الأقرب للسواحل الأمريكية ومناطق نفوذها , الأمر الذي يمنحها نقاطا تفضيلية في ميزان القوى العسكري بينها وأمريكا على خلفيات الصراع في بحر الصين الجنوبي .بالإضافة إلى أن منطقة غرب ووسط أفريقيا تعتبر من أكثر المناطق نمواً من حيث عدد السكان في العالم، مما يجعلها سوقا مثاليا للاقتصاديات الصاعدة، تزخر بالموارد الطبيعية وتوجد فيها أكبر مناطق للتجارة الحرّة وأكثر النظم البيئية تنوعا، إضافة إلى كونها واحدة من أكبر مجموعات التصويت الإقليمية في الأمم المتحدة.
كما تعتبر هذه المنطقة ثاني سوق للهواتف المحمولة في العالم، ففي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وحدها، هناك 477 مليون مشترك في الهاتف المحمول في عام 2019. وبحلول عام 2025، ستستضيف المنطقة 614 مليون مشترك في الهواتف المحمولة، و475 مليون مستخدم للإنترنت عبر الهاتف المحمول. من المتوقع أيضا أن يساهم الإنترنت في 5 إلى 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لأفريقيا بحلول عام 2025..
الخلاصة:
يتضح أن الصين تحافظ على تقاليد دبلوماسية ثابتة تجاه أفريقيا منذ سنوات وتعطي بذلك رسائل لكل الأطراف، بينما تتحرك الولايات المتحدة على ما يبدو بطريقة رد الفعل والملاحقة للحركة الصينية المنتظمة والمتعددة في افريقيا، فالولايات المتحدة منخرطة ومنشغلة في مناطق عديدة من العالم سواء كانت أوكرانيا أو حرب غزة وإدارة صراعات الشرق الأوسط في سوريا والعراق واليمن وليبيا و أرمينيا وأزربيجان وإيران …..غيرها وبالتالي هي تحاول اللحاق بالحركة الصينية السريعة نحو أفريقيا.
فالصين تتحرك في دوائر استراتيجية محددة وفق قدراتها المتصاعدة اقتصادياً وعسكرياً، وهذه الجولة لوزير خارجيتها ليست منفصلة عن سياق حركتها الدبلوماسية والآليات والوسائل التي وضعتها لهذا الغرض. بينما الولايات المتحدة ستستمر في محاولة تحجيم النفوذ الصيني في دول القارة بشكل عام وفي السواحل الغربية لأفريقيا بشكل خاص عبر استراتيجية الاحتواء بكافة الوسائل بما فيها حزم الدعم الاقتصادية المشروطة أو عن طريق تقويض العلاقات السياسية بين الصين وبعض دول القارة عبر نسج علاقات قوية مع أنظمة الحكم الحالية وربما من خلال ممارسة ضغوط عليها لعدم التمادي في التعاون مع الصين خاصة على المستوى العسكري.