إعداد : د.محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي– المغرب
زاد الاهتمام الإعلامي بمحكمة العدل الدولية في يناير 2024، في أعقاب قرار جنوب أفريقيا برفع دعوى ضد إسرائيل فيما يتصل بادعاءات الانتهاكات الإسرائيلية لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة.
أعلنت محكمة العدل الدولية أنها ستعقد جلستي استماع علنيتين يومي الخميس والجمعة (11 و12يناير) في مقر المحكمة في لاهاي، بخصوص الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 29 ديسمبر 2023، بخصوص الوضع في غزة.
محكمة العدل الدولية…بطاقة تعريفية
محكمة العدل الدولية بمثابة الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. ولها دور مزدوج: تسوية النزاعات القانونية المقدمة من قبل الدول وفقاً للقانون الدولي وتقديم آراء استشارية في المسائل القانونية. فالدول فقط يمكنها رفع دعوى ضد دولة أخرى، وعادة ما تتعلق هذه الحالات بالمعاهدات بين الدول. وقد تتعلق هذه المعاهدات بالعلاقات الأساسية بين الدول؛ على سبيل المثال: تجارية أو إقليمية أو جهوية، أو قد تكون ذات صلة بقضايا حقوق الإنسان. ولا تسمح محكمة العدل الدولية للأفراد بالتحقيق في حقوق الإنسان أو أية مطالبات أخرى. ومع ذلك، فقد ساهمت في تعزيز حقوق الإنسان من خلال تفسير وتطوير قواعد ومبادئ حقوق الإنسان في الحالات التي تقدمت بها الدول أو الهيئات الدولية لمحكمة العدل الدولية. وقد تناولت حقوقاً كحق تقرير المصير وعدم التمييز وحرية التنقل وحظر التعذيب وغيرها.
والدول وحدها يجوز لها أن تحيل مسائل إلى محكمة العدل الدولية ضد دول أخرى قبلت أيضًا اختصاصها. وينطبق اختصاص المحكمة على جميع النزاعات التي تشمل عنصرًا قانونيًّا مثل تفسير أي معاهدة وأية نقطة في القانون الدولي، ووجود أية حقيقة إذا ما تأكدت ستشكل إخلالًا من جانب دولة بالتزاماتها الدولية، وطبيعة أو مدى التعويضات المقرر تقديمها مقابل الإخلال بهذا الالتزام. (المادة 36 من النظام الأساسي).
تعتبر جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة هي بحكم الواقع أعضاء في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية (المادة 93-1 من ميثاق الأمم المتحدة). بيد أن قبول اختصاص محكمة العدل الدولية يبقى اختياريًّا. وهذا يعني أن على الدول أن توافق بالتحديد على إحالة القضايا القانونية أو حقائق يتم التنازع عليها مع دول أخرى. وبمجرد أن تقبل الدول اختصاص محكمة العدل الدولية بشأن دعوى ما، تكون الدول تلقائيًّا ملزمة بقرارها.
ويمكن للدول أن تقبل سلطة محكمة العدل الدولية بطرق مختلفة:
يجوز للدول في أي وقت، إصدار بيان رسمي يؤكد اعترافها بحكم الواقع باختصاص المحكمة على أنه إلزامي، في ما يتعلّق بجميع النزاعات ودون الإشارة إلى أي نزاع بصورة خاصة. وبذلك، تتفق الدول على أن ترفع إلى المحكمة جميع النزاعات القانونية مع أية دولة أخرى أصدرت ذات الإعلان. وبذلك يكون للمحكمة اختصاص إصدار حكم بشأن جميع القضايا القانونية التي تخصّ تفسير معاهدة ما، أو أية قضية تخصّ القانون الدولي، ووجود أي حقيقة، إن ثبتت، يمكن أن تشكل إخلالًا بالتزام دولي، وطبيعة أو مدى التعويضات التي يراد إصدارها بشأن هذا الإخلال.
في حالة وجود نزاع، يمكن للدول المعنية أن تختار بالاتفاق المتبادل رفع قضية معيَّنة إلى اختصاص المحكمة (المادة 36-1 من النظام الأساسي).
ثمة أكثر من ثلاثمائة اتفاقية ومعاهدة دولية ترجع أيضًا إلى محكمة العدل الدولية من أجل أسئلة تفسير أو نزاعات بين الدول.
قضاة المحكمة وسير الإجراءات
تضم هيئة المحكمة 15 قاضيًا دوليًا من ذوي الخبرة والاختصاص، بالإضافة إلى قاضٍ خاص عن كل طرف، سيكونان الرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية أهارون باراك، ونائب رئيس المحكمة العليا بجنوب إفريقيا السابق “ديكجانج موسينيكي”.
تترأس محكمة العدل الدولية في قضية إسرائيل القاضية الأمريكية “جوان دوناهيو”، التي تشغل هذا المنصب منذ عام 2021. ويُنتظر أن تحافظ “دوناهيو” على استقلالية المحكمة وعدم تسييس قراراتها، أما نائب رئيسة المحكمة فهو القاضي الروسي “كيريل جيفورجيان”، والذي اعترض سابقًا على التدخل القضائي ضد روسيا في قضية أوكرانيا، العام الماضي.
كما تضم هيئة المحكمة عددًا من القضاة العرب والمسلمين بالإضافة إلى قاضٍ يهودي، وهم “محمد بنونة” من المغرب، و”عبد القوي أحمد يوسف” من الصومال، و “نواف سلام” من لبنان، و “روني أبراهام” (يهودي) من فرنسا، المعروف بانتقاده لسياسات إسرائيل.
وينتمي القضاة الـ15 إلى دول مختلفة، اختيروا لضمان التمثيل الجغرافي والتنوع في الخلفيات والأساليب القانونية. وسيواجه هؤلاء مسؤولية كبيرة في إصدار حكم قد يشكل سابقة خطيرة في محاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية على المستوى الدولي.
لماذا أقامت جنوب أفريقيا هذه القضية؟
تعتبر جنوب أفريقيا من أشد المنتقدين لإسرائيل، إذ دأب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم منذ سنوات على مقارنة سياسات إسرائيل في غزة والضفة الغربية بنظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، في مقارنة كررها رئيس البلاد سيريل رامافوزا فيما ترفض إسرائيل مثل هذه الادعاءات.
ويشير طلب جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية إلى هذه الفكرة حيث يتحدث عن “خلفية تمييز عنصري” فيما يتعلق بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين.
والدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 29 ديسمبر 2023 هي المرة الأولى التي يتم فيها رفع قضية خلافية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. يذكر أنه في 2004 خلص رأي استشاري للمحكمة إلى أن الجدار الذي بنته إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك في وحول القدس الشرقية والنظام المرتبط به، يتعارض مع القانون الدولي.
ووفقا للدعوة التي تقدمت بها جنوب أفريقيا، فإن أفعال إسرائيل “تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب” لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية. كما تشير الدعوى إلى أن سلوك إسرائيل – “من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها” – يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
وتسعى جنوب أفريقيا إلى تأسيس اختصاص المحكمة على اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية لعام 1948، والتي وقعت عليها البلدان، بينما ترفض إسرائيل هذه الاتهامات. أما بالنسبة للإجراءات الاستشارية أو الفتاوى، ففي نهاية عام 2022، طلبت الجمعية العامة فتوى من المحكمة بشأن “الممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية”.
سوابق اختصاص المحكمة في القانون الدولي الإنساني
تلقت محكمة العدل الدولية، كجزء من حكمها وآرائها، عدة أسئلة تتعلق بحالات النزاع المسلح، وبعضها نُظر فيه أيضًا من جانب المحكمتين الجنائيتين الدوليتين الخاصتين بيوغسلافيا السابقة ورواندا (يشار إليهما في ما بعد باسم المحكمتين الجنائيتين الدوليتين). ويحدِّد عمل محكمة العدل الدولية ويقر مختلف جوانب مسؤولية الدولة في هذه الحالات. وهذا يكمل أعمال المحكمتين الجنائيتين الدوليتين، التي تعتبر مقصورة على نظر المسؤولية الجنائية الفردية.
ولهذا فإن قرارات محكمة العدل الدولية تحدِّد، في ضوء القانون الدولي العام، بعض أفكار القانون الإنساني التي جرى بحثها في إطار القانون الجنائي الدولي من جانب المحكمتين الجنائيتين الدوليتين وكذلك من جانب المحكمة الجنائية الدولية. وتقدِّم الأحكام والآراء الصادرة من المحكمة فهمًا إضافيًّا وتفسيرًا للعديد من آراء القانون الدولي والإنساني.
في 20 مارس 1993، التمست البوسنة والهرسك إجراءً من المحكمة بموجب تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وكانت الشكوى تخص أفعال الإبادة الجماعية المرتكبة أثناء النزاع بين البوسنة من جانب وصربيا والجبل الأسود من جانب آخر في الفترة ما بين 1991 و1995 وفي ما بعد الفترة بين 1999 و2000. وكان يتعيَّن على محكمة العدل الدولية على الأخص تحديد ما إذا كان بالإمكان اعتبار دولة صربيا مسؤولة عن الأفعال التي ارتكبتها الميليشيات الصربية من البوسنة بسبب دعمها وسيطرتها على هذه الجماعات المسلحة على أراضي البوسنة والهرسك. وأصدرت محكمة العدل الدولية أمرًا بتدابير احتياطية في 8 أبريل 1993 قبل مباشرة التحقيق في الاعتراضات الأوَّلية التي أثارتها صربيا والجبل الأسود في ما يتعلق باختصاص محكمة العدل الدولية بشأن مسألة الإبادة الجماعية. وفي 11 يوليو 1996، أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها بشأن الاعتراضات الأوَّلية وبدأت التحقيق في حيثيات الدعوى. وطلبت صربيا والجبل الأسود إعادة نظر في القرار الصادر في 11 يوليو 1996، والذي رفضته المحكمة في 3 يوليو 2003.
وقد صدر الحكم بشأن حيثيات الموضوع في 26 فبراير 2007، أي بعد 16 سنة من الأحداث التي وقعت وبعد 12 سنة بعد نهاية النزاع (تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها [البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود]. وفي هذا القرار، حكمت محكمة العدل الدولية بأن صربيا لا يمكن أن تعتبر مساءلة عن أعمال الإبادة الجماعية المرتكبة في سريبرينيتشا في يوليو 1995 نظرًا لأنه لم يتقرر أن هذه ارتكبت إما من عاملين تابعين لها أو من أفراد أو كيانات أجنبية تمامًا مستقلة عن صربيا.
وأدرج هذا الحكم بل وتوسع بشأن القواعد الخاصة بعزو المسؤولية إلى دولة عن أفعال جماعات مسلحة أجنبية. وفي 2 يوليو 1999، قدَّمت كرواتيا أيضًا شكوى ضد صربيا والجبل الأسود عن أعمال الإبادة الجماعية المرتكبة أثناء الحرب في الفترة ما بين 1991 و1995 (كرواتيا ضد صربيا والجبل الأسود). وعقب نفس الاعتراضات الأوَّلية التي طرحتها صربيا في ما يتعلق باختصاصها، أصدرت المحكمة الحكم وتعلن فيه مقبولية الدعوى في 18 نوفمبر 2008 (تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها [كرواتيا ضد صربيا والجبل الأسود] . وأثناء ذلك، أي في 29 أبريل 1999، وعقب قصف منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لصربيا وكوسوفو، قُدمت ثماني دعاوى مماثلة إلى المحكمة من صربيا والجبل الأسود بشأن شرعية استخدام القوة من جانب ألمانيا وبلجيكا وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والبرتغال والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وفي ديسمبر 2003، التحقت المحكمة بثماني دعاوى. ففي 15 ديسمبر 2004، أصدرت المحكمة حكمًا يفيد أنها ليس لديها اختصاص بشأن هذه الدعوى دون الفصل بشأن حيثيات الدعوى (شرعية استخدام القوة [صربيا والجبل الأسود ضد بلجيكا] .
في 11 نوفمبر ،2019 اودعت غامبيا لدى قلم المحكمة عريضة إقامة دعوى ضد ميانمار بشأن انتهاكات مزعومة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها المؤرخة 9 ديسمبر 1948 والتمست غامبيا بشكل خاص في عريضتها مر المحكمة ان تقرر وتعلن ان ميانمار قد اخلت بالتزاماتها بموجب هذه الاتفاقية، وانه يتعين عليها ان تنهي فورا اي فعل من الأفعال غير المشروعة دوليا ، وان عليها ان تفر بالتزاماتها المتعلقة بجبر الضرر الذي تعرض له ضحايا اعمال الإبادة الجماعية المنتمون إلى جماعة الروهينغيا، وان عليها ان تقدم تأكيدات وضمانات بعدم تكرارها انتهاكاتها وإثبات اختصاص المحكمة، استظهر الطرف المدعي بالمادة التاسعة من الاتفاقية.
مضمون الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل:
تجدر الإشارة إلى أن اختصاص المحكمة هو محاكمة الدول وليس الأشخاص، كما هو الشأن للمحكمة الجنائية الدولية ، أي أن الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا هي دعوى ضد “دولة إسرائيل” كشخص قانوني دولي وليس ضد شخص طبيعي (رئيس دولة أو قائد عسكري..). وفي الدعوى المؤلفة من 84 صفحة، أشارت جنوب أفريقيا “إلى التزامها بموجب كونها دولة موقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية في منع حدوث إبادة جماعية”.
تم تعريف الإبادة الجماعية في الاتفاقية الدولية الأولى لمناهضة الإبادة الجماعية، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 ودخلت حيز التنفيذ عام 1951، ثم في العديد من نصوص الأمم المتحدة وفي نظام روما الأساسي (المادة 6) في حد ذاته.
وتعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية مثل:
- قتل أعضاء المجموعة.
- الإضرار الجسيم بالسلامة الجسدية أو العقلية لأعضاء المجموعة.
- إخضاع المجموعة عمدا لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
- التدابير الرامية إلى منع الولادات داخل المجموعة.
- النقل القسري للأطفال من مجموعة إلى مجموعة أخرى.
أما النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية فقد عرفت جريمة الإبادة الجماعية:
قتل أفراد الجماعة – إلحاق أذى جسدي أو عقلي بأفرادها- إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية بقصد إهلاكها المادي بشكل كلي أو جزئي – فرض تدابير تهدف إلى منع الإنجاب داخلها- نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
ويبقى مدى توفر القصد الجنائي (الركن المعنوي) لقيام هذه الجريمة وتحديد بعض الظروف الأخرى كالجسامة وتوافر القصد العمدي، كما أن هذه الجريمة يمكن أن تقع من خلال التحريض عليها أو الشروع فيها أو الاشتراك فيها( المادة/6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.)
تقسم الوثيقة طوفان الأدلة على أفعال الإبادة الجماعية التي ارتكبت عن تخطيط وإصرار مسبق إلى سبعة أصناف رئيسية، لعل من المفيد إيرادها ضمن قائمة على النحو التالي:
حجم القتل، والذي تجاوز 22 ألفاً، سبعون بالمائة منهم من النساء والأطفال.
- المعاملة الوحشية وغير الإنسانية لعدد ضخم من المدنيين، بما في ذلك الأطفال، الذين اعتقلوا، وعصبت عيونهم، وأجبروا على التعري والبقاء في الخارج في الجو البارد، وذلك قبل نقلهم إلى أماكن مجهولة.
- النكوص المستمر عن الوعود بتوفير الأمان، حيث يقوم الإسرائيليون بقصف المناطق التي ينصحون السكان عبر المناشير باللجوء إليها.
- حرمان الناس من الوصول إلى الغذاء والماء، وهي سياسة نجم عنها دفع السكان في غزة إلى حافة المجاعة.
- حرمان الناس من الحصول على أماكن كافية للإيواء، وعلى ما يكفي من الملابس وما هو مطلوب من ظروف صحية. لقد هاجمت إسرائيل نظام الرعاية الصحية فلم تبق إلا على 13 مستشفى من أصل 36 مستشفى، مازالت تعمل جزئياً، حيث استهدفت القوات الإسرائيلية في تلك المستشفيات مولدات الكهرباء والألواح الشمسية، ومحطات الأوكسجين، وخزانات المياه، وسيارات الإسعاف، والقوافل الطبية، وطلائع المسعفين.
- تدمير الحياة الفلسطينية في غزة – البلدات والمنازل، والمباني السكنية، والبنى التحتية، والجامعات، والثقافة.
وأخيراً، ولكن ليس آخراً بأي حال من الأحوال، هناك التصريحات التي تعبر عن النية بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني من قبل مسؤولي الدولة، بما في ذلك التصريحات الصادرة عن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والتي أشار فيها إلى الحكاية التوراتية حول التدمير الكلي للعماليق على يد الإسرائيليين، وتصريح رئيس الدولة “إسحق هيرتزوغ” الذي قال فيه “إن الشعب كله هناك مسؤول”، وتصريح وزير الدفاع “يوعاف غالانت” الذي أكد فيه أن إسرائيل تقاتل “حيوانات بشرية”.
مميزات الدعوى المرفوعة وسير الجلسات
هناك مواصفتان تستحقان الاهتمام للطلب الذي تم تقديمه إلى محكمة العدل الدولية.
أما الأولى فهي أنه على العكس من حالة البحث عن تعويض كما حصل في بعض أشهر الأحداث في التاريخ المعاصر – مثل حقول القتل في كمبوديا والإبادة الجماعية في رواندا أو جرائم الحرب في صربيا – يتعلق الطلب المقدم بإبادة جماعية تجري حالياً وعلى الفور.
تحدث الإبادة الجماعية يومياً ولسوف تستمر في الحدوث ما لم تتدخل قوة أو محكمة خارجية. ولذلك فإن استعجال البت في الطلب المقدم لمحكمة العدل الدولية أمر ملح جداً.
ولكن لا يقل أهمية عن ذلك هوية البلد الذي يتقدم بالطلب. فجنوب أفريقيا وإسرائيل كلاهما ملتزمان بأنظمة ولوائح محكمة العدل الدولية، وكلاهما موقعان على معاهدة تحريم الإبادة الجماعية.
ووفقا للدعوى، فإن أفعال إسرائيل “تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب” لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية. كما تشير الدعوى إلى أن سلوك إسرائيل – “من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها” – يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
جلسة الاستماع هذا الأسبوع تقدم لحظة مهمة للحماية الإنسانية ولغزة أيضا، تعريف الإبادة بسيط: جريمة ترتكب بنية تدمير جماعة وطنية، إثنية، عرقية أو دينية، بشكل كامل أو جزئي. ولكن تحديد حصول الإبادة معقد. فالعتبة القانونية عالية، لكن قضاة محكمة العدل الدولية في لاهاي يستطيعون إصدار حكم مؤقت في الاتهامات الموجهة لإسرائيل خلال أسابيع.
ويجب اتخاذ القرار بشأن التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا بناء على معقولية القضية وليس إثباتها، أو لاعتقاد القضاة أن هناك مخاطر إبادة جماعية تحدث. ولا يعني الأمر الصادر عن المحكمة وقفا فوريا لإطلاق النار، ولكن إعادة إمدادات المياه أو معاقبة التصريحات التحريضية.
ستقرر محكمة العدل الدولية خلال جلسات الاستماع ما إذا كانت ستوافق على طلب جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير مؤقتة وهي نوعمن الإغاثة في حالات الطوارئ التي سيتم تطبيقها أثناء النظر في القضية.
وقد طلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية اتخاذ عدة تدابير مؤقتة من بينها مطالبة إسرائيل “بوقف عملياتها العسكرية على الفور في غزة” وعدم المشاركة في أعمال إبادة جماعية واتخاذ إجراءات معقولة لمنعها، والسماح أيضًا بوصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع وتقديم تقارير بشكل منتظم إلى محكمة العدل الدولية حول هذه الإجراءات.
وتختلف التقديرات الإسرائيلية بشأن الأوامر المؤقتة الممكنة، إذ في حين تستبعد وزارة العدل الإسرائيلية قرارا بوقف فوري لإطلاق النار فإنها لا تستبعد أوامر بتكثيف إدخال المساعدات إلى غزة والسماح للفلسطينيين من سكان شمال غزة بالعودة إلى منازلهم.
ونظرا للمدة التي تستغرقها الإجراءات القانونية وبطء وتيرتها، يجوز لمحكمة العدل الدولية، عندما تستوجب ذلك طبيعة الدعوى، اتخاذ قرار بفرض تدابير احتياطية على أيٍ من أطراف الدعوى (المادة 41 من النظام الأساسي). والشيء الذي يتعرض للخطر هنا حماية حقوق أيٍ من الأطراف ومنع أفعال خطيرة لا رجعة فيها يجري ارتكابها أثناء الفترة التي يتطلبها التحقيق في حيثيات القضية. وتعتبر هذه التدابير، دون المساس بالقرار النهائي، إلزامية بطبيعتها. ويشكل عدم احترام هذه التدابير الاحتياطية إخلالا بالالتزامات الدولية للدول المعنية وتترتب عليه مسؤولية قانونية. ويولي الحكم النهائي للمحكمة مراعاة كاملة لاحترام أو لانتهاكات التدابير الاحتياطية الصادرة أثناء التحقيق.
وطلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية الإشارة إلى تسعة تدابير مؤقتة، فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني باعتباره مجموعة محمية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
في بداية جلسة الاستماع العلنية التي عقدت يوم الخميس 11 يناير 2024، قرأ كاتب المحكمة التدابير التسعة التي نلخصها في النقاط التالية:
أولا، على دولة إسرائيل أن تعلق فورا عملياتها العسكرية في غزة وضدها.
ثانيا، على إسرائيل أن تضمن عدم اتخاذ أي خطوات تعزيزا لتلك العمليات العسكرية.
ثالثا، على كل من جمهورية جنوب أفريقيا ودولة إسرائيل، وفقا لالتزاماتهما بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها -فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني-، أن تتخذا جميع التدابير المعقولة التي في حدود سلطاتهما من أجل منع الإبادة الجماعية.
رابعا، على دولة إسرائيل، وفقا لالتزاماتها بموجب الاتفاقية، أن تكف عن ارتكاب أي من الأفعال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
خامسا، على دولة إسرائيل، فيما يتعلق بالفلسطينيين، التوقف عن اتخاذ جميع التدابير، بما في ذلك إلغاء الأوامر ذات الصلة والقيود و/أو المحظورات. كى تمنع:
(أ) طردهم وتشريدهم قسرا من منازلهم؛
(ب) الحرمان من:
– 1الحصول على الغذاء والماء الكافيين.
– 2الوصول إلى المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الوقود الكافي والمأوى والملابس والنظافة والصرف الصحي.
– 3الإمدادات والمساعدة الطبية.
(ج) تدمير الحياة الفلسطينية في غزة.
سادسا، على دولة إسرائيل أن تضمن عدم ارتكاب أي أفعال موصوفة في النقطتين (4) و(5) أو المشاركة في التحريض المباشر والعلني أو محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية، أو التآمر أو التواطؤ في ذلك.
سابعا، على دولة إسرائيل أن تتخذ تدابير فعالة لمنع إتلاف الأدلة المتعلقة بالادعاءات، وضمان الحفاظ عليها، وتحقيقا لهذه الغاية يتعين ألا تعمل إسرائيل على منع أو تقييد وصول بعثات تقصي الحقائق والتفويضات الدولية والهيئات الأخرى إلى غزة.
ثامنا، يجب على إسرائيل أن تقدم تقريرا إلى المحكمة عن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا الأمر (بموجب التدابير المؤقتة) خلال أسبوع واحد، اعتبارا من تاريخ صدوره، وبعد ذلك على فترات منتظمة وفقا لما تأمر به المحكمة، حتى تصدر قرارها النهائي في القضية.
تاسعا، على دولة إسرائيل أن تمتنع عن أي إجراء وأن تضمن عدم اتخاذ أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمده أو أن تجعل حله أكثر صعوبة.
وقد تكون هذه التدابير المؤقتة غامضة إلى حد ما، مثل إصدارها أمرا لإسرائيل بعدم ارتكاب جرائم إبادة جماعية، أو أكثر أهمية، مثل إصدار أمر لإسرائيل بوقف إطلاق النار فوراً أو السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل غير محدود” كما يقول البرفيسور “أميحاي كوهين، الباحث الرئيسي في معهد ديمقراطية إسرائيل.
وقد تزايدت الأدلة عن ارتكاب جرائم حرب تتراوح من عدم المبالاة أمام القتل الجماعي للمدنيين أو استخدام التجويع كسلاح، في كل يوم. وكذا التصريحات النارية والتي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم والتي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغيره من الوزراء في حكومته. وتقدم إسرائيل دفاعها أمام المحكمة التابعة للأمم المتحدة، لكن ردها المباشر، لم يكن المجادلة في صحة الأدلة فقط بل وشن هجوم على جنوب أفريقيا وأنها تتصرف كـ “جناح قانوني لحماس” وترتكب “فرية الدم”.
وهناك اعتقاد واسع في إسرائيل أنه من الفحش بمكان استخدام ميثاق الإبادة الجماعية الذي ظهر كرد فعل على الهولوكوست، ضد “دولة خرجت من ذلك الرعب بعد هجمات 7 أكتوبر التي نفذتها حماس”.
إذا تجاهلت إسرائيل الأمر الذي يأمرها بوقف القتال قد يزيد هذا عزلتها بين الشعوب ويؤثر على علاقاتها الخارجية. وإذا ما تقرر، بعد بضع سنوات، بأن إسرائيل اتخذت سياسة إبادة جماعية، فمن شأن هذا أن يحرك المدعي العام في محكمة الجنايات الدولة للنظر في إصدار أوامر اعتقال ضد شخصيات إسرائيلية على هذه التهمة”.
اعتراضات الجانب الإسرائيلي على الدعوى
محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية -التي تتخذ من مدينة لاهاي مقرا لها- لها أهمية كبيرة، ليس فقط بالنسبة لفلسطين ومستقبل الشعب الفلسطيني، ولكن أيضا بالنسبة للنظام الدولي وللقضاء الدولي وللدور الذي يمكن أن يقوم به بالنسبة للسلم والاستقرار ولحل المنازعات بالطرق السلمية. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها:
أولا، بالنسبة لإسرائيل، فإن المشاركة في المحاكمة لمحاولة إسقاط الاتهام بممارسة الإبادة ضد الفلسطينيين، ليست شجاعة ولا ثقة في البراءة من اتهام ستكون له تبعات كثيرة ونتائج عديدة بالنسبة لدولة كإسرائيل لها علاقاتها مع العديد من دول العالم، خاصة بعد تضرر صورتها الدولية لدى العديد من دول العالم، والتي اتضح أن الكثيرين منهم لم تكن لديهم صورة حقيقية عن الصراع ولا عن الممارسات الإسرائيلية الهمجية ضد الفلسطينيين على مدى السنوات والعقود الماضية.
ثانيا، إن محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية تعبر عن انتقال نظام محكمة العدل الدولية إلى ما من شأنه دعم قدرة المحكمة بالنسبة للقضايا ذات المساس بحريات وكرامة الأفراد في القضايا ذات الصلة، وكذلك بالنسبة للدول التي تتحفظ على نظام محكمة العدل الدولية، والتي تعمدت منذ البداية عدم المشاركة فيه، حماية لمواطنيها ولمصالحها كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي ترفض محاكمة مواطنيها أمام أي محكمة غير أمريكية لاعتبارات مختلفة، وتسير إسرائيل على نفس النهج وتمثل محاكمتها بدعوى الإبادة استثناء من ذلك ستترتب عليه بالضرورة نتائج كثيرة في المستقبل، من السابق لأوانه الحديث عنها، باعتبار أن الوصول إلى قرار من جانب المحكمة بقبول الدعوى أو رفضها يستغرق في الواقع وقتا طويلا.
رفضت إسرائيل بشدة مزاعم تورطها في إبادة جماعية ،إذ كتب المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية ليئور حيات على منصة إكس: “ترفض إسرائيل باشمئزاز الافتراء الكاذب الذي نشرته جنوب أفريقيا ودعواها” أمام محكمة العدل الدولية.
وأكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس الإٍسرائيلي إسحاق هرتسوغ على هذا الأمر حيث كتب الأخير على منصة إكس أنه أكد لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن بلاده ستقدم أمام محكمة العدل الدولية “بكل فخر وجلاء حق إسرائيل الأساسي في الدفاع عن نفسها”.
رفضت إسرائيل الجمعة 12 يناير 2024 الاتهامات التي وجهتها إليها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة بشأن العملية العسكرية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة, معتبرة إياها “قصة مشوهة بشكل صارخ” وفقاّ لما جاء على لسان تال بيكر المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية والذي أردف قائلا “إذا كانت هناك أعمال إبادة جماعية، فقد ارتُكبت ضد إسرائيل… حماس تسعى إلى إبادة إسرائيل”.
ودعت اسرائيل قضاة المحكمة إلى رفض طلب جنوب أفريقيا الخاص بوقف هجومها وقالت إن ذلك سيمنعها من الدفاع عن نفسها.
تداعيات المحاكمة على صورة إسرائيل في الساحة الدولية
ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي العديد من جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة من العمليات العسكرية التي تستخدم فيها الذخائر الفسفورية والقنابل والصواريخ، وهي جرائم إبادة راح ضحيتها قتل ما يزيد على عشرة اَلاف مواطن فلسطيني تقريباً بقصد إكراههم على التهجير القسري خارج ديارهم.
ومنذ نحو أكثر من مائة يوم، ما زال جيش الاحتلال يقتل المدنيين في غزة، خاصة الأطفال والنساء ومنهم المحاصرين الذين حرموا من المساعدات ويجبرون على ترك منازلهم.
تعد أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة ونهائية فيما يتعلق بالدول، لكن المحكمة لا تملك بنفسها سلطة تنفيذ أحكامها جبرًا على الأطراف، ولمجلس الأمن السلطة، بناءً على طلب الدولة المتضررة صاحبة المصلحة ، لتنفيذ تدابير خاصة لإنفاذ الحكم الصادر من محكمة العدل الدولية.
وبمعنى آخر، فإن أحكام المحكمة إلزامية للدولة مادامت قبلت الدول محل النزاع أو الخلاف اختصاص المحكمة بالفعل، وإذا فشلت دولة ما في أداء الالتزامات الملقاة على عاتقها بموجب حكم ما، فيمكن اللجوء إلى مجلس الأمن الذي يمكنه التصويت على قرار، وإجبار دولة ما على تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة.
“الفقرة الأولى من المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، تنص على أنه يتعهد كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة أن ينزل على حكم محكمة العدل الدولية في أية قضية يكون طرفاً فيها، وإذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر حسب الفقرة الثانية من ذات المادة، أن يلجأ إلى مجلس الأمن
رفض إسرائيل الامتثال لحكم المحكمة لاشك فيه، ورغم ذلك فإن صورة إسرائيل ستهتز عالميا، كما أنه لا يمكن لقادتها المحافظة على استقلاليتهم خارجيا، فالملاحقة القضائية لا يستهان بها على المستوى الدولي، ويمكن أن تقيد حرية القادة السياسيين والجنرالات العسكريين بإسرائيل المتهمين بالإبادة الجماعية لسكان غزة لانتهاكهم القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني أمام الرأي العام العالمي وشعوب الأرض التي تعاطفت مع الفلسطينيين خاصة الأطفال الأبرياء، وذلك لملاحقة مجرمي الحرب في إسرائيل.
خاتمة
تعطي المحاكمة الحالية صورة عن الجلاد والضحية في انتظار انصاف العدالة الدولية، فقد بدأت تطفو على السطح مشكلة القوة التنفيذية للقانون الدولي ، وهي أحد الإشكالات المؤرقة للباحثين القانونيين، وإحدى أعوص التحديات التي تواجه القانون الدولي، وفي خضم ذلك يتم طرح تساؤل جوهري حول مصير القانون الدولي أمام الانتهاكات المتتالية لقواعده التي وُضعت لا ليتم انتهاكها وإنما لاحترامها وتطبيقها من طرف المخاطبين بها وعلى رأسهم الدول العظمى.
يفتقر القانون الدولي إلى سلطة تنفيذية تقوم بتنفيذ قواعد القانون الدولي، وبعض الدول في الغالب تقوم بتنفيذها بنفسها ولحسابها الخاص بحجة تنفيذ القرارات الدولية، وفي غالب الأحيان تستغل القرارات الدولية كستار يساعد الدول على تحقيق أهدافها الخاصة. مما أوقع القانون الدولي في فخ ازدواجية المعايير، إضافة إلى ذلك فإن هناك حقيقة لا يمكن أنكارها هي أن تنفيذ القانون الدولي على الدول المخالفة يحتاج لقوة دولية لا تملكها إلى الدول الكبرى، وهي لا تقدم تلك القوة إلا إذا كان لها مصلحة في ذلك وهذا مايفسر ازدواجية القانون الدولي في التطبيق ومشاكل التنفيذ والتطبيق التي تخلف كوارث أحيانا.
لا يتمتع القضاء الدولي بسلطة إجبارية تجبر الدول على التقاضي امام القضاء الدولي، فلاوجود لقضاء دولي يتمتع باختصاص عام إلزامي، حيث مازال اللجوء إلى القضاء الدولي اختياريا غير إلزاميا. ومازالت قراراته غير ملزمة حيث للدول الخيار في تطبيقها رغم القول بسمو القانون الدولي.
كما أنه لاتوجد سلطة متخصصة يوكل إليها مهمة إيقاع الجزاء على الدول المخالفة عبر القهر والاكراه المادي، مما حدى بالدول التي ترى أنها صاحبة حق أن توقع الجزاء بنفسها على الدول المخالفة وهذا يجعل المجتمع الدولي أشبه بمجتمع بدائي أو قانون الغاب، وفي الغالب تتخذ الجزاءات طابعا بدائيا في شكل حروب وأعمال الانتقام.
وما تزال المسؤولية الدولية هي السمة الغالبة على الجزاء المعتاد للإخلال بالقانون الدولي. فهي مسؤولة عن الضرر الذي توقعه للدول الأخرى في حال مخالفتها للقانون الدولي من غير وجود جزاء منظم قائم على شخصية قانونية واضحة للقانون الدولي.
إن الواقع الدولي قد أثبت أن الانشغال باحترام قواعد القانون الدولي سرعان ما يتوارى إلى الخلف عندما توضع هذه القواعد في موضع المواجهة المباشرة مع سلطان الدولة وسيادتها؛ فالدول باعتبارها المحتكـر لسلطة التأويل الذاتي لهذه القواعـد لا تعمد إلى احترامها ومن ثم الاعتراف بإلزاميتها؛ إلا تبعا لمـا تقتضيه مصالحها؛ مما يجعل التطابق المفترض تحققه بين قواعد الشرعية الدولية هـذه وممارسـات الـدول وسياستها مسألة نسبية وغير متحققة بالضرورة.