
د. محمد بن سعيد الفطيسيعضو الهيئة الاستشارية لمركز السلام للدراسات الاستراتيجية
خبير في القضايا الأمنية وتحليل قضايا التطرف والارهاب
تقديم:
لا تزال دراسات التطرف والإرهاب عصية على فهم الكثير من أبعاد الظاهرة الإرهابية التي أصبحت من معالم النظام الدولي الراهن، فعلى الرغم من كثرة التحليلات والدراسات المتخصصة للمهتمين بمتابعة هذه الظاهرة من الباحثين ومراكز الفكر والمؤسسات الأمنية إلا أن تفكيك عناصر الظاهرة الإرهابية سواء على مستوى الفكر والإيدلوجيا ، أو على مستوى التنظيم والشبكات الداخلية ، أو على مستوى العلاقات والتحالفات بين هذه التنظيمات بعضها البعض، وبينها وبين بعض الدول لا يزال به الكثير من الغموض .
ونحاول في هذا المقال التحليلي المبسط إثارة النقاش حول هذا الموضوع، ليكون بداية لسسلة مساهمات لاحقة من خلال مركز السلام للدراسات الإستراتيجية الذي يولي إهتماماً ملحوظاً بالدراسات الأمنية المُعمقة والقائمة على طرح التحليلات الرصينة التي أعتقد أنها ستساعد الباحثين والمؤسسات الأمنية على فهم أوسع للظاهرة الإرهابية وكيفية التعامل معها على المدى المنظور.
الأسئلة الحائرة:
إن الحديث عن النشأة البريئة للجماعات المتطرفة، المدفوعة بعوامل ذاتية فقط ( الفقر والضغوط المعيشية – ظلم معين على أسس مناطقية أو عرقية – انحرافات فكرية ونفسية …. الخ) ليس هو الصورة الكاملة، حيث أن الجانب الغاطس من هذه الظاهرة هو في واقع الأمر يتعلق بالإجابة عن عدة تساؤلات وهي : من المستفيد من هذه التنظيمات؟ ومن يحركها وينسج خطوط العلاقات فيما بينها ؟ ومن يمدها بالسلاح المتقدم أحياناً؟ ومن يسهل لها عمليات الإنتقال العابرة للحدود، ومن يصنع حولها السردية الإعلامية الهوليودية المخيفة؟ وأخيراً من يجني ثمار العمل الإرهابي في النهاية؟
فعلى مدار سنوات من متابعة ظاهرة الإرهاب والتنظيمات المسلحة كأكايمي وباحث، توقفت كثيراً أمام نقاط سوداء غير واضحة في مسيرة التنظيمات الإرهابية، لعل كان أبرزها يدور حول علاقة هذه التنظيمات بدول معينة تحركها وتستفيد منها لتخريب دول معينة من الداخل وإضعافها لتسهيل السيطرة عليها أو لتكون ذريعة للتدخل فيها والسيطرة على ثرواتها ، وفي حالات أخرى لاحظنا استغلال هذه الجماعات كأوراق ضغط ومساومة بين عدد من الفاعلين الدوليين والإقليميين، بمعنى إمتلاك مفاتيح التوجيه والتصعيد وفي المقابل مفاتيح الهدوء والسيطرة والعودة للكمون، استعداداً لجولات جديدة يتم التخطيط لها بالغرف المغلقة.
منذ السبعينات من القرن الماضي، كانت علاقة الولايات المتحدة بما يجري في افغانستان ضد الغزو السوفيتي واضحة ومكشوفة، ومؤخراً تم رفع السرية عن كثير من الوثائق التي أكدت دعم أمريكا ومعها بعض الدول بالمنطقة للمجاهدين العرب، الذين شكلوا نواة تنظيم القاعدة، الذي سيطر على مشهد العلاقات الدولية لأكثر من ثلاثة عقود تقريبا ، قبل أن يتم إحلاله واستبداله بتنظيم أخر لا يختلف عنه كثيراً وهو تنظيم داعش، الذي تموضع تقريباً في نفس أماكن تموضع تنظيم القاعدة في العالم العربي وفي منطقة جنوب ووسط آسيا وكذلك في القارة الأفريقية.
هناك عدة أسئلة أخرى لا تزال حائرة في الأذهان، حول هذه الظاهرة، خاصة في ظل ما نشاهده من مجازر وحشية إسرائيلية ضد الفسطينيين في قطاع غزة ومشاهد الحصار والجوع التي يندى لها الجبين ، بينما لم تخرج هذه الجماعات وألتها الإعلامية التي سُخرت لها في السابق بأي بيانات أو مواقف تندد أو ترفض هذه الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب ، وكأن صوتها الذي ارتفع في السنوات الماضية عبر وكالة ” أعماق ” وغيرها قد أصابه الخرس وفقدت القدرة على التعبير عن أي شىء، ناهيك عن فعل أي شىء.
كما أن ما كشفه السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد عن علاقته بتنظيم هيئة تحرير الشام منذ أن عمل بالعراق في مرحلة ما بعد 2003م ، كان من ضمن أدلة كثيرة على أن عديد من الأسئلة الحائرة في العقول قد بدأت تجد بعض الإجابات أو على الأقل تساعد في فهم أوسع وأكثر عمقاً لما تواجهه دولنا العربية من تحديات أمنية راهنة ومستقبلية.
تطور استراتيجيات التنظيمات المتطرفة:
لا شك ان تطور إستراتيجيات التنظيمات الإرهابية والتغيير الحاصل في شكل العمليات التي تقوم بها من الناحية النوعية، يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك أن تلك التنظيمات إستفادت كثيراً من أدوات البيئة الدولية المعاصرة سواء السياسية منها أو الأمنية، تحديداً الأدوات والوسائل التقنية والتكنولوجية في العصر الرقمي.
من جانب أخر تمكنت تلك التنظيمات الإرهابية إلى حد بعيد من التعامل مع ردود الفعل الأمنية والإستخباراتية الدولية والتي هي الأخرى بلا شك تمكنت كذلك من الحد وتقليص العمليات الإرهابية وإحتواء مخاطر تلك التنظيمات، ما يؤكد أن عمليات مكافحة الإرهاب وردود فعل التنظيمات الإرهابية عليها تعمل وفق ديناميكا حركية مستمرة من الأفعال وردود الأفعال، مع تقدم التنظيمات الإرهابية بخطوة واحدة على الأجهزة الأمنية بحكم العامل الطبيعي المبادر، فهي أشبه بفكرة (اللص والشرطي).
وما يثير الانتباه في تلك التغيرات الحاصلة على مستوى تطور التنظيمات الإرهابية هي قدرتها على التطور السريع على مواكبة التحولات في البيئة الأمنية الدولية، فعلى سبيل المثال لا الحصر ومن حيث تغيير البنية الفوقية للفكر التنظيمي فقد تحولت التنظيمات الإرهابية من إستراتيجية (الكر والفكر/ تنظيم القاعدة) الى إستراتيجية (إقامة الدولة والإستقرار/ تنظيم داعش)، كما أنها وللحد من الخسائر البشرية والمادية فقد تحولت الى ما يطلق عليه بإستراتيجية (الذئاب المنفردة أو الإرهاب الفردي.
وعلى ما يبدو فإن تلك التنظيمات وفي سبيل مواجهة الحصار الأمني الذي قامت به الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الدولية وما نتج عنه من تبعات على مستوى تقليص مستويات التمويل بالإضافة الى الخسائر البشرية التي تكبدتها تلك التنظيمات فقد إتجهت الى العمل على توسيع مصادر التمويل والمساندة، ومن ضمن تلك التوجهات التي عملت عليها تلك التنظيمات التعاون مع تجار المخدرات والمافيا الدولية العاملة على الاثار وتهريب البشر والعملات والجنس وما إلى ذلك من وسائل التمويل والدعم اللوجستي.
تقديم الإرهاب كعمل مدفوع الثمن :
برز في الآونة الأخيرة وهي ما نود تسليط الضوء عليه في هذا الطرح الذاتي الموجز، توجه مستحدث لتلك التنظيمات ومنها تنظيم داعش وأغلب التنظيمات الإرهابية الافريقية، تقوم على فكرة القيام بعمليات إرهابية بحسب الطلب()، بالإضافة الى إستغلال التكنولوجيا الحديثة للمتاجرة بالإرهاب، بمعنى أخر التنسيق والإتفاق للقيام بعمل تجاري قائم على الإرهاب، ولذلك يعتبر الكثيرون أن ” الإرهاب الالكتروني عموما والتجاري على وجه الخصوص أخطر بكثير من الإرهاب التقليدي لكونه أكثر إنتشاراً فهو يصل الى مئات الملايين في ثوان معدودات فاصبح اليوم الفيديو والصورة والكاميرا أكثر خطورة من الكلاشينكوف”()
وليس بخافياً على أحد أن ذلك التزاوج النوعي بين التكنولوجيا والعمل الإرهابي التجاري فاقم من قوة تلك التنظيمات بدرجة كبيرة للغاية، بل وضاعف من قوة تلك التنظيمات وأضعف بالمقابل العمليات الأمنية وقدرة الأجهزة الإستخباراتية، حيث أن أغلب تلك العمليات الإرهابية التجارية تعمل في بيئة مفتوحة أو إفتراضية، ومنها من يتعامل بعملات رقمية يصعب ملاحقتها أو ضبطها، ولعلها في أغلب الأوقات تعمل تحت ستار التعاون بين الإرهاب وبعض الدول أو أجهزتها الإستخباراتية
يضاف الى ما سبق، فقد تحول الإرهاب من عمل قائم على الأيديولوجيا الدينية أو الثقافية أو حتى على موجهات دنيئة مثل الحقد والعنصرية والامراض النفسية الى عمل قائم على تبادل المصالح التجارية، وتقديم العمل الإرهابي كخدمة يتم تقديمها والترويج لها والمزايدة عليها على شبكة الانترنت، حيث يمكن ان نسمع ونرى خلال المرحلة الزمنية المقبلة عن إستحداث مواقع الكترونية للمزايدة على عمليات إرهابية في بعض الدول، أو عبر طرح مناقصات إرهابية في الكهوف المظلمة على شبكة الانترنت.
ولا يفوتنا الإشارة الى أن مثل هذه العمليات التجارية تمت بالفعل ولو لم يتم الاعتراف بها رسميا كعمليات إرهابية أو تدخل في سياق هذا النوع من العمليات والتي تتم فيما يطلق عليه بالمناطق الرمادية خصوصاً في الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا (تفجير جسر القرم في 2022 والهجوم على قاعة الحفلات الموسيقيَّة «كروكوس سيتي هول» ضِمْن مُجمَّع تجاري يقع شمال غرب العاصمة موسكو في مارس 2024)، أو في العمليات الأخيرة على حزب الله اللبناني فيما أطلق عليه (بحرب البيجرات) أو أجهزة النداء واللاسلكي لحزب الله.
الخلاصة:
من المتوقع توسع العمل الإرهابي القائم على الخدمات التجارية التي يمكن أن تقدمها التنظيمات الإرهابية خلال المرحلة الزمنية القادمة سواء كان ذلك من باب التعاون مع التنظيمات والعصابات الإجرامية الدولية، أو من خلال السوق السوداء في المناطق الرمادية التي تستغلها بعض الدول وأجهزتها الإستخباراتية أو وكلاءها للتعامل مع بعض الخصوم أو الإعداء، أو للقيام بعمليات تستهدف نشر الفوضى وعدم الاستقرار الأمني، يضاف الى ما سبق ستتوسع تلك الاعمال الإرهابية التجارية في البيئة الافتراضية كثيراً، وستبرز العديد من المواقع الرقمية التي سيصعب تعقبها للقيام بأعمال البيع والإستثمار والترويج والإبتزاز الارهابي القائم على الاعمال والخدمات والسلع الإرهابية العابرة للحدود الوطنية.
