إعداد:
د. أكرم حسام – رئيس مركز السلام للدراسات الاستراتيجية
د. حسام يونس – باحث فى العلوم السياسية – فلسطين
تقديم:
بعد أن دخلت الحرب على غزة شهرها الخامس، لا يزال السؤال الأهم في اللحظة الحالية هو أين ستتوقف هذه الحرب وكيف ؟ فرغم كل الضغوط التي تواجهها إسرائيل خاصة من جانب مصر والأردن لمنع حكومة نتنياهو من تنفيذ ما طرحته بشأن تنفيذ عملية عسكرية شاملة في رفح – المكتظة حالياً بمليون ومائتي ألف من نازحي الحرب- إلا أن إسرائيل لا تزال تؤكد على أهمية هذه العملية بالنسبة لمسار الحرب، بل أنها تعتبرها نقطة النهاية لها، لإعتقادها بأن السيطرة الكاملة على رفح ستوفر لها المجال لإحكام الخناق والحصار ليس فقط على مقاتلي حماس والفصائل الأخرى لكن على القطاع ككل، بما يمنحها الفرصة لتنفيذ تصوراتها لمرحلة ما بعد الحرب.
كما أن هذا المسار يتزامن مع تطورات على مستوى الأمن الإقليمي للساحات التي تشهد توتر حالياً ( الساحة اللبنانية – ساحة البحر الأحمر – الساحة العراقية والسورية) ، وتطورات في مسارات فرعية للحرب منها مسار صفقة الرهائن والأسرى ومسار إمتثال إسرائيل لمحكمة العدل الدولية ومسار الأمن الغذائي في غزة ومسألة المساعدات وكيفية إداراتها سواء حالياً أو حتى فيما بعد إنتهاء عملية رفح. بجانب مسارات الداخل الإسرائيلي بتعقيداته التي بدأت تظهر وربما تنعكس بصورة أو بأخرى على مسار الحرب.
في هذا الإطار ، يقدم مركز السلام للدراسات الإستراتيجية تقديره للموقف الإستراتيجي الراهن بالنسبة للحرب على غزة، بأبعادها المختلفة، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي.
التصور السياسي العسكري لإنهاء الحرب
برغم إعلان المستوى العسكري في إسرائيل ( الجيش والإستخبارات) أن السيطرة الكاملة على شمال ووسط غزة لم تتحقق بعد وأن الجيش الإسرائيلي ربما يكون بحاجة لإستكمال بعض العمليات هناك ويدعم ذلك خروج بعض التقيمات الإستخباراتية التي تناولتها الصحافة الإسرائيلية بشكل مقتضب والتي تتحدث عن أن تحييد خطر حماس لم يتحقق ويحتاج لوقت طويل وأن حماس لا تزال تحتفظ على الأقل بخمسة آلاف مقاتل كما لا تزال تحتفظ بالجزء الأكبر من سلاحها وعتادها العسكري وتفسيرهم لهذا الأمر بأن حماس اتبعت إستراتيجية عدم المواجهة والإكتفاء بالتخفي والظهور باستغلال شبكة الأنفاق واتباع أساليب حرب العصابات، إلا أن المستوى السياسي في إسرائيلي ( ممثلاً في رئاسة الحكومة وأعضاء حكومة الحرب ) لا يزالون يحلقون في سقف مرتفع من الأهداف ، خاصة فيما يتعلق بالحديث عن القضاء التام على حماس والفصائل ونزع السلاح من غزة، وعدم العودة عن قرار تنفيذ عملية برية في مدينة رفح والمناطق المحاذية لحدود قطاع غزة مع مصر ، تمهيداً لإعادة إخضاع القطاع للسيطرة الأمنية والسياسية من جانب إسرائيل.
المطروح حالياً داخل إسرائيل خطتان لإنهاء هذه الحرب: الأولى خطة نتناهو – ديرمر ، والثانية خطة رؤساء الأركان غانتس ايزنكوت:
الخطة الاستراتيجية الأولى هي خطة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومبعوثه إلى الولايات المتحدة وزير الشؤون الاستراتيجية وعضو مجلس الحرب كذلك رون ديرمر، ومحاورها كالتالي:
- إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن وبشكل مستمر دون توقف، لتحقيق هزيمة عسكرية لحماس وقوى المقاومة في المنطقة والقضاء على زعيم الحركة يحيى السنوار وقيادة المنظمة في غزة.
- الاستيلاء على رفح قبل شهر رمضان أو خلاله.
- أن الدخول إلى رفح، حتى لو لم يؤد على الفور إلى تصفية السنوار، فسوف يلين موقف حماس لإطاق سراح وفق صفقة معقولة للرهائن.
- أن السيطرة الكاملة على غزة بهذه الطريقة سيمكن إسرائيل من اتخاذ قرارات من موقع قوة بخصوص اليوم التالي، بما في ذلك محور فيادلفيا مع مصر وفي الشمال مع لبنان.
- وضع جدول زمني لإنهاء الحرب بحدود شهر أبريل القادم بعد شهر رمضان.
- الانتقال للمرحلة الرابعة وهي السيطرة الأمنية على قطاع غزة.
- البدء في تنفيذ عملية التغيير السياسي في غزة بمساعدة الولايات المتحدة والشركاء.
الخطة الاستراتيجية الثانية .التي اقترحها غانتس وآيزنكوت وتشمل البنود التالية:
- تحقيق النصر على حماس على مراحل وليس عبر القتال المتواصل .
- أن توافق إسرائيل على وقف طويل للقتال لغرض صفقة الرهائن، ثم تستأنفه من أجل مواصلة تفكيك قدرات حماس العسكرية والحكومية.
- أن الإعلان الإسرائيلي عن هدنة طويلة في القتال بغرض تنفيذ صفقة الرهائن سيخفف بشكل كبير الضغطين الداخلي والخارجي على الرئيس بايدن، وسيحافظ على المساعدة العسكرية والسياسية من الحكومة الأميركية وتعزيزها، وهذا يخدم موقفه في الإنتخابات المقبلة في واشنطن.
- أن الهدنة وصفقة الرهائن سيخففان الضغط على الحكومة الإسرائيلية نفسها من حيث التخلص من مواقف عائلات الرهائن.
- يستغل الجيش فترة التوقف الطويلة في غزة، للإستعداد بشكل مكثف لاستئناف القتال، على أن يقوم بتدريب قواته، وتجديد مخزون الأسلحة وتحديث أساليب وخطط القتال.
- وفق هذه الخطة يمكن أن تنتهي الحرب بحلول شهر يونيو المقبل 2024 م.
- إقامة حكم مدني في غزة، والاحتفاظ بالسيطرة الأمنية هناك.
- تعزيز التطبيع العربي، من خلال إشراك دول عربية وخليجية في تقرير مستقبل غزة كبوابة لإستعادة مسار التعاون والتطبيع مع إسرائيل.
التصورات المطروحة على المستوى العملياتي والتكتيكي لعملية رفح من داخل إسرائيل:
المقترح الأول اجتياح كامل مدينة رفح . ويتضح من خلال تصريحات المسئولين العسكريين والسياسيين باجتياح كامل أحياء مدينة رفح، حيث قال رئيس الوزراء بنيامبن نتنياهو في أن هناك أربع كتائب للجناح العسكري لحماس كتائب الشهيد عز الدين القسام، وأنه يتعين على إسرائيل التخلص منها وتدمير البنية العسكرية لحماس في رفح، أي عملية عسكرية واسعة على غرار ما تم في محافظات شمال غزة ، ومدينة غزة وخانيونس ، غير أن هذا السيناريو من الممكن أن يصطدم بالموقف المصري الرافض لأي عملية عسكرية في رفح، وبأعداد النازحين الكبيرة ما لم يتم تهجيرهم إلى أماكن آمنة أخرى.
المقترح الثاني اجتياح جزئي للمناطق الشرقية من محافظة رفح. أي أن يلجأ الاحتلال إلى القيام بعملية عسكرية في الحدود الشرقية وفي المناطق المحيطة بمعبري كرم أبو سالم ، ورفح، وأحياء التنور والجنينة والنصر وخربة العدس، كما حدث في المناطق الشرقية من محافظات القطاع من أجل إقامة منطقة عازلة بحدود 1-3 كيلو متر.
المقترح الثالث القضم التدريجي لمحافظة رفح. هذا النهج يهدف إلى استنزاف الألوية التابعة للقسام، من خلال الكشف عن مواقعها، وتسهيل استهدافها جواً دون الحاجة إلى الانتشار الكبير داخل مناطق رفح السكنية ومخيمها. كما يتضمن ذلك تنفيذ عمليات خاصة مثل تحرير أسرى الاحتلال، كما حدث في عملية تحرير اثنين من الأسرى في مخيم الشابورة برفح مؤخراً. وهو السيناريو الأقل تكلفة حيث يفي بالأهداف العملياتية لقوات الاحتلال من خلال استهداف واستنزاف الألوية الفاعلة في رفح وضرب البنية التحتية الخاصة بها، دون الحاجة لتهجير سكان محافظة رفح بأكملها. كما يساعد هذا السيناريو على تطبيق سياسة الإخلاء التدريجي للمناطق السكنية التي يتبعها جيش الاحتلال كوسيلة للتقليل من الضغوط الدولية المرتبطة بتهجير المحافظات كلياً في وقت واحد.
المقترح الرابع السيطرة على محور صلاح الدين. بأن تركز إسرائيل جهدها على محور فلادلفيا ( صلاح الدين) وهذا النمط من العمليات سيسمح بتحقيق عدة أهداف استراتيجية لإسرائيل، أبرزها السيطرة على محور صلاح الدين، مما سيؤدى إلى التصدي لأي محاولات تهريب مزعومة تحدث عبر الأنفاق أسفل الحدود. إضافة إلى ذلك، ستسيطر إسرائيل على جميع المعابر والمنافذ البرية لقطاع غزة، محكمة بذلك قبضتها على أي تواصل بين القطاع والعالم الخارجي بما يمكنها من فرض حصارًا شاملًا. كما توفر هذه العمليات لإسرائيل مواقع استراتيجية تتيح لها تنفيذ غارات بشكل متواصل ودقيق من كل الإتجاهات ضد حركة حماس.
خطط الإجلاء :
طرحت وسائل الإعلام الإسرائيلية أربعة خطط للتعامل مع سكان رفح ، تدور ملامحها حول ما يلي:
الخطة الأولى. أن يسمح بعودة النازحين من مدينة رفح إلى محافظتي غزة وشمال غزة، من الأطفال والنساء عبر مراحل، ثم الرجال لاحقاً عبر الحواجز الإسرائيلية التي ستكون بين رفح وخانيونس وعلى أن يكون ذلك ضمن صفقة تبادل.
الخطة الثانية. القيام بخطة مزدوجة ، قائمة على إجلاء السكان وتوفير ممرات إنسانية يحددها الجيش لخروج سكان رفح ومن ضمنهم النازحين في مناطق شمال رفح وأراضي فارغة بين رفح وخانيونس، حتى لا يؤثر ذلك على العملية العسكرية للجيش، والشق الثاني قائم على استخدام القوة العسكرية ضد كتائب القسام الأربعة في رفح.
الخطة الثالثة. اقتراح إسرائيلي – وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال في 13 فبراير 2024م- بإنشاء معسكرات خيام واسعة في غزة كجزء من خطة إخلاء تمولها الولايات المتحدة وشركاؤها الخليجيون قبل الغزو الوشيك لمدينة رفح، حيث تقترح إسرائيل إنشاء 15 معسكر خيام يضم كل منها حوالي 25 ألف خيمة في الجزء الجنوبي الغربي من قطاع غزة.
الخطة الرابعة. إخلاء ونقل السكان لمناطق جنوب مدينة رفح، وعدم نقلهم لمناطق الشمال والوسط، حيث أن وجودهم في هذه المناطق يقوض الخطط الخاصة بإخلاء شمال ووسط القطاع من سكانه ، واستبدالها بمستوطنات .
التحديات المعرقلة لبدء عملية رفح من المنظور الإسرائيلي:
كما هو معلن إسرائيلياً فإن للعملية هدفين رئيسيين ( تطهير رفح من مقاتلي حماس – السيطرة على محور فلادلفيا) وكل منهما ينطوي على مخاطر وتحديات أهمها من المنظور الإسرائيلي ما يلي:
- تحدي عملياتي . يتمثل تمثل في الحركة العسكرية وسط الكثافة البشرية الموجودة بالمدينة ، وتكمن المشكلة فيه في ضيق مساحة مدينة رفح ( حوالي 63 كم مربع) حيث يتجمع فيها حوالي مليون ونصف من الفلسطينيين المُهجرين والفارين من مناطق شمال ووسط غزة. وبالتالي ستكون نتائج مثل هذا الإقتحام في وسط تزاحم بشري بهذا الشكل كارثي .
- تحدي الموقف المصري الرافض. حيث ترفض مصر مسألة تنفيذ عملية برية شاملة في رفح لا تراعي العامل السكاني وتواجد الفلسطينيين وتكدسهم بمحاذاة حدودها مع القطاع، كما ترفض الإخلال بالإطار القانوني الخاص بمحور فلادلفيا تحديداً والذي يحظى بوضعية معينة منذ عام 1978 وتم تعديل هذه الوضعية في 2005 م ، وتدرك مصر أنه ربما يكون من تبعات هذا الأمر إخلال إسرائيل بتعهداتها الخاصة بإطار السلام مع مصر ، علاوة على ما قد يرتبه من إحتمالات لدفع الفلسطينيين لتجاوز خط الحدود مع مصر ، وما يعنيه ذلك وبوضوح من نجاح لفكرة التهجير وترحيل الفلسطينيين لسيناء وتصفية القضية الفلسطينية وتخفيف الضغط السياسي والأمني والاقتصادي عن دولة الإحتلال بما يساعدها على التحلل من إلتزاماتها بموجب القانون الدولي كسلطة إحتلال عن حياة الغزيين وتوفير سبل العيش لهم.
- تحدي التوافق الداخلي . حيث ترتفع ضغوط أسر الأسرى المعتقلين في غزة، والتي انضمت إليها مجموعات أخرى في إسرائيل، فقد صاروا أكثر نشاطًا في تحركهم المعارض لتنفيذ عملية رفح قبل الانتهاء من صفقة التبادل، بالإضافة إلى ذلك، شهدت إسرائيل تجدد المظاهرات التي تطالب بإقالة نتنياهو وحكومته والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة. هذا بالإضافة للخلافات القائمة داخل الحكومة الإسرائيلية. وقد دعا بيني جانتس، رئيس حزب المعسكر، وغادي إيزنكوت، رئيس الأركان السابق، إلى جانب رؤساء وزراء سابقين وكتاب ومفكرين، إلى أولوية تنفيذ عملية التبادل قبل اللجوء إلى عملية رفح، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية استئناف القتال لاحقاً.
إطار ومحددات الحركة الإسرائيلية السياسية الراهنة:
الموقف داخل إسرائيل :
تتصاعد مواقف الداخل الإسرائيلي ضد توجه رئيس الحكومة ليس بسبب الحرب بشكل عام ( فهناك شبه اتفاق داخلي على أهدافها وأهميتها ) لكن ربما الإختلاف بشأن كيفية إدارة مسار الحرب مع مراعاة عوامل مثل مطالب أهالي الرهائن التي تتصعد يومياً في الشارع الإسرائيلي ( وصلت لمواجهات مع الشرطة الإسرائيلية وإعتقال بعض المتظاهرين ) كذلك التعامل بمرونة مع الضغوط الدولية المتنامية التي تطالب إسرائيل بعدة أمور منها عدم تنفيذ عملية رفح لخطورتها على المدنيين( وصفته معظم الدول الرافضة بالكارثة المحققة) وهي المواقف التي انضمت لها دول مهمة لإسرائيل مثل ألمانيا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى ، بينما تخشى إسرائيل من تنامي الضغوط الأمريكية للحد الذي يصل لنقطة تصادم واضحة، فالرئيس بايدن في عام إنتخابي حاسم ولديه الإنتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في ولاية متشجان ( تبدأ 27 فبراير 2024م)وهي معقل مهم للجاليات العربية والممسلمة وللمواطنيين من أصول عربية ومن دول تؤيد فلسطين ، وبالتالي يريد بايدن تقديم شىء ما يؤكد أن إداراته فعاله وتمسك بخيوط الصراع وتستطيع تحقيق اختراقات مهمة .
هذه المواقف تنعكس بصورة أو بأخرى على الداخل الإسرائيلي ، فقد أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال لقائهما الأخير في 14 فبراير 2024م ” أن تل أبيب لن تكون قادرة على الانتصار في الحرب دون تدمير حركة حماس في جنوب قطاع غزة”. بينما تريد واشنطن تأجيل هذه العملية حتى يتم إنجاز صفقة الرهائن، كما تريد من إسرائيل خطة واضحة للتعامل مع السكان في رفح سواء بالإجلاء أو التحييد بأي شكل ، بما يضمن وقوع أقل عدد ممكن من الضحايا، تجنباً لمزيد من الضغوط الدولية وتجنباً لإحراج موقف الرئيس بايدن في داخل الولايات المتحدة.
مع ذلك نجد استمرار للتعنت من جانب نتناهو شخصياً وبعض أركان حكومته خاصة من جناح الصهيونية الدينية ( المؤيد له بالمطلق ) لأي اقتراحات لإيقاف الحرب بأي حجة ، بل أن هذه الحكومة وعبر صقورها من المتشددين تُمعن في التضييق على الفلسطينيين ليس فقط في القطاع ( سياسة التجويع المتعمد على مرأى ومسمع العالم ) بل أيضاً في الضفة عبر فرض السياسة الأمنية الجديدة القاضية بمنع أو تقييد دخول سكان الضفة ومواطني الخط الأخضر للمسجد الأقصى خلال شهر رمضان. يقابل هذه السياسة المتشددة أصوات أقل تشدداً تعبر عنها بعض أحزاب المعارضة ويعبر عنها بشكل خاص زعيم المعارضة “لبيد” كما يؤيدها بعض الوزراء في حكومة الحرب خاصة بني جانتس وإيزنكوت وأخرين . هذه الأصوات تريد تحقيق نفس أهداف الحرب لكن بمرونة أكبر إزاء ملف الرهائن وإزاء الضغط الدولي والأمريكي .
من الواضح أن لنتياهو مصلحة شخصية من إطالة الحرب، وعملية رفح تعطيه هذه الفرصة ضمن استراتيجية أساسية للمحافظة على موقعه، ولمحاولة إعادة بناء صورته السياسية والجماهيرية، كما أن استمرار أمد الحرب يؤجل محاكمة نتنياهو ويؤخر إجراء انتخابات مبكرة. ويرتكز نتياهو في ذلك على دعم قاعدته السياسية اليمينية والائتلاف الذي يقوده، بالإضافة إلى تأييد يزيد عن 40% من الشعب الإسرائيلي – وفقًا لما توضحه استطلاعات الرأي – لتفضيل استمرار الحرب على التوصل إلى صفقة تبادل أسرى أو وقف لإطلاق النار. كما يرتكز على تأييد المؤسسة العسكرية له فيما يتعلق بتحقيق الأهداف العسكرية وهي القضاء على حركة حماس حتى ولو استمرت الحرب شهورًا عديدة أخرى.
من الواضح أن نتياهو يستغل الإنجازات العسكرية ( حسب الرؤية الإسرائيلية) التي تحققت في الفترة الماضية في شمال القطاع ووسطه وفي خان يونس وكذلك نجاح عملية تحرير رهينتين من منطقة رفح في تقوية موقفه السياسي في مواجهة خصومه سواء ممن هم خارج الحكومة ( زعيم المعارضة يائير لبيد) أو من المنضمين معه لحكومة الطوارىء ومجلس الحرب وهم بني غانتس وايزنكوت. حيث يحاول نتياهو تقليم أظافر المعارضين له والقيام بلعبة سياسية قد تظهر نتائجها في الفترة المقبلة، وتتمثل في الإنفراد بالقرار السياسي الأمني في بعض الملفات الحساسة وكان منها على سبيل المثال لا الحصر ملف الرهائن، حيث تسبب إنفراد نتياهو بقرار إرسال وفد الشاباك والموساد للقاهرة في 13 فبراير 2024م ثم قراره بسحب الوفد من القاهرة بعد بقاءه فقط لمدة أربعة ساعات رغم أن كان من المقرر له المكوث لثلاثة أيام حسب ما تم الكشف عنه من الجانب المصري لإنجاز صفقة الرهائن التي تضغط فيها واشنطن وتقوم بجهود الوساطة فيها كلاً من مصر ودولة قطر. ولذلك بدأت تهديدات من بني غانتس وإيزنكوت بالإنسحاب من حكومة الحرب.
صعوبة لعبة عض الأصابع الحالية تكمن في أن هذا انسحاب بني جانتس وإيزنكوت من حكومة الحرب سيعني خروجهم من دائرة التأثير السياسي في مسار الحرب وكذلك تحديد مسارات ما بعد الحرب لاحقاً وبقائهم خارج الكابينت الحكومي المصغر، كما أنها ستعطي المساحة لممثلي الصهيونية الدينية ممثلةً في سوميتريتش وزيرالمالية وبني غفيير وزير الأمن القومي وغيرهم في تقوية موقف نتياهو تجاه التعامل مع الموقف الحالي بكل أبعاده المعقدة والخطرة والتي يعتبرها باقي السياسيين الإسرائيليين ممن هم في المعارضة أنها قد تمثل قرارات تاريخية في مسار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بل وعلاقات إسرائيل مع شركائها وحلفائها سواء الولايات المتحدة أواوروبا ، علاوة على أنها تشكل تحدي لمنجزات استراتيجية تحققت في العقود والسنوات الماضية على رأسها اتفاقات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن من ناحية ومسار التطبيع الإسرائيلي مع باقي الدول العربية من ناحية أخرى. لذلك نعتقد أن نتياهو عاد مرة أخرى للإمساك بزمام الأمور من الناحية السياسية وأنه قد يستفيد من التناقضات السياسية الحالية لصالحه، وهي لعبة يجيدها نتياهو بخبرته السياسية الطويلة وسبق له استخدامها في الحكومات السابقة التي ترأسها.
إسرائيل وتقييم الموقف الإستراتيجي الإقليمي وعلاقته بمسار الحرب:
لا تزال الحرب على غزة تتفاعل على المستوى الإقليمي، حيث أنتجت هذه الحرب على الجانب الخاص بالأمن الإقليمي تحديداً تسخين للتوتر غير المباشر بين إيران من جانب والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب أخر ، وهو ما ظهر في ثلاث ساحات حتى الآن ( جبهة لبنان وحزب الله – جبهة البحر الأحمر والحوثيين – جبهة العراق وسوريا والفصائل الموالية لإيران) . والواضح حتى الآن فكرة الربط فيما بين هذه الجبهات وفق توجه استراتيجي واضح لإدارة الموقف مع الغرب وإسرائيل ( تصعيد مُسيطر عليه أو يمكن التحكم فيه) يرفع عن هذه الجماعات التي ترفع لواء المقاومة الحرج الشعبي، وفي نفس الوقت كسب مواقف من العالمين العربي والإسلامي كمناصرين لغزة، أما الأهم بالنسبة لإيران فهو إعادة رسم خطوط الردع الجديدة في المنطقة وعمل نموذج محاكاة وسيناريو عملي، للولايات المتحدة وإسرائيل، عما يمكن أن يواجهوه حال فكروا في أي وقت في الإعتداء على إيران. وفي هذا الإطار تشير التقيمات الاقليمية حتى الآن لما يلي:
- الجبهة اللبنانية . تشهد تصعيد تدريجي وتوسيع لحجم ونطاق الأهداف بين الجانبين ( حزب الله وإسرائيل) حيث قصفت إسرائيل لأول مرة مدينة بعلبك في 26 فبراير الجاري 2024م في أول خروج من نوعه عن قواعد الإشتباك المعروفة والمحصورة منذ فترة بمناطق التماس الحدودية شبه الخالية من المدنيين، مع تصريحات لوزير الدفاع الإسرائيلي ربط فيها بين هذا التصعيد وقرب التوصل لهدنة مؤقتة مع حماس، في مؤشر واضح على رغبة إسرائيل في تنفيذ ما سبق أن طرحته بشأن إبعاد حزب الله شمال نهر الليطاني( سواء بالقوة العسكرية أو بالدبلوماسية) وبأي ثمن.
وهو ما يرجح أن هذه الجبهة قد تنزلق في أي وقت – إذا ما توفرت عدة عوامل من بينها التشجيع الإيراني- إلى مربع عمليات كبرى قد تصل لمستوى عمليات 2006 .
- جبهة جنوب البحر الأحمر، تشهد هي الأخرى تصعيداً للمواقف والضربات العسكرية من الجانب البريطاني والأمريكي وبعض العمليات التي تقووم بها قوات بحرية تابعة لفرنسا ودول أخرى، وهناك بالفعل عدة تطورات أهمها إطلاق المهمة الأوروبية لحماية الملاحة (الدروع ) لتعمل بجوار المهمة الأمريكية الحالية ( حارس الإزدهار) وموافقة البرلمان الألماني على إنضمام ألمانيا لهذ المهمة التي تشارك فيها فرنسا واليونان والدنمارك ودول اخرى ، وإعلان الصين إرسال اسطول ثاني ( الاسطول 46) لها يضم قطع بحرية مختلفة للعمل بالمسرح البحري للبحر الأحمر وبهذا ينضم هذا الأسطول للأسطول الأول ( الاسطول 45) الذي يعمل منذ فترة في منطقة خليج عدن وبحر العرب وشمال غرب المحيط الهندي. ويبدو أيضاً أن هذه الجبهة لن تهدأ قريباً وربما يستمر التوتر فيها عدة أشهر، رهناً بإيقاف الحرب على غزة ( باعتباره المبرر الشرعي الذي تقدمه جماعة الحوثي لقيامها بهذه العمليات التي لم تضر فقط بإسرائيل لكنها أضرت بمصالح دول كثيرة على رأسها مصر الذي تعتبر البحر الأحمر شريان التجارة الأساسي لها ولقناة السويس)، كما أن التحكم في وتيرة هذا التوتر صعوداً وهبوطاً ستظل مرتبطة بالتوجه الإستراتيجي لإيران حيال قضايا عديدة، وما إذا كانت ترغب في رفع مستوى التصعيد مع الغرب والولايات المتحدة أم خفضه أو إبقاءه عند المستوى الحالي. وقد يكون من اللافت للنظر تحليل ما خرج من بعض التصريحات لمسئولين سياسيين وعسكريين أمريكيين والتي تكشف عن عدم يقينهم بشأن جدوى العمليات الحالية ضد الحوثيين ومدى نجاحها في ردعهم أو تحييد قدراتهم الصاروخية والجوية من خلال المسيرات التي تستهدف السفن، بجانب معادلة التكلفة الباهضة للعمليات اليومية الأمريكية والبريطانية ( طلعات جوية – صواريخ موجهة – تحركات البوراج والسفن في البحر …. ) مقابل الأسلحة الرخيصة التي تستخدمها جماعة الحوثي، والمخبئة بشكل جيد في المناطق الجبلية الوعرة المحاذية للبحر الأحمر، ما يجعل عملية تدميرها بشكل كامل صعبة ( سبق لقوات التحالف بقيادة السعودية والمدعومة بجهد استخباراتي وفضائي أمريكي بالأساس أن أستهدفت هذه الترسانة ولم تتمكن من تحييدها).
هذا التقييم يفتح الباب أمام إحتمالين:
الأول: أن تضطر واشنطن للضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب وفق أي صيغة ممكنة، بحيث تسحب الذرائع من الحوثيين بشأن موقفهم من الحرب وربطه بأمن الملاحة، وبالتالي تهدأ هذه الجبهة وتعود لوضعها الطبيعي قبل هذا التوتر مع استمرار العمليات العسكرية البحرية قائمة ومركزة لجهود المراقبة والتأمين فقط.
الثاني: أن تضطر واشنطن لتغيير استراتيجيتها تجاه الحوثيين، فإدارة بايدن لا تزال حتى الآن غير راغبة في تغييرالمعادلة السياسية الراهنة في اليمن، ولا تريد رفع مستوى التصعيد مع الحوثيين وتستخدم أسلوب الردع فقط، لكن حال استمر الحوثيين في التصعيد كما هو حاصل خلال الأيام الأخيرة ( استهداف سفن عسكرية وتجارية وتحقيق إصابات بها) فقد تتجه واشنطن للعمل بشكل مختلف من خلال تحريك الجبهة الداخلية من خلال دعم وتشجيع القوى المضادة للحوثي( تحالف عريض يضم الحكومة الشرعية والقوات التابعة لها – بعض القبائل ) على استعادة السيطرة على صنعاء وتقويض الوجود السياسي والعسكري للحوثيين، وهي بالفعل ستكون إعادة إنتاج لمسار الحرب الأهلية في اليمن وستضر بمسستقبل الأمن في المنطقة، كما أن أمن الملاحة لن يكون في أفضل حالاته وفق هذا السيناريو أيضاً المتوقع له مدى زمني غير معروف ومحكوم بأبعاد ومحددات كثيرة يصعب تقديرها حالياً.
جبهة الفصائل المسلحة في سوريا والعراق. حالياً الاسبوع الأخير من فبراير( 2024)هناك عودة للهدوء في هذه الجبهة بعد تصعيد لافت منذ الضربات على “البرج 22″ على الحدود السورية الأردنية في 7 فبراير الجاري، و الهجوم الأخير على قاعدة أمريكية في الحسكة بسوريا وعلى موقع عسكري إسرائيلي بهضبة الجولان المحتلة ( تحت السيطرة الإسرائيلية) والذي وقع بالطيران المسير في 16 فبراير الجاري. ويبدو أن نجاح مساعي الضغط بشأن إطلاق مفاوضات لخروج قوات التحالف من العراق قد تساعد على إبقاء هذه الجبهة ضمن حدود السيطرة أيضاً إتساقاً مع الهدف الاستراتيجي لإيران والمتمثل في تحقيق نصر سياسي على واشنطن بإخراجها من العراق( سبق لإيران أن أعلنت أن ردها على عملية اغتيال قاسم سليماني التي تمت في 2019 ستكون إخراج الأمريكان من العراق). هذه الجبهة تتصاعد أحياناً وتهدأ أحياناً أخرى، ويبدو أن إيران تتحكم في وتيرتها بصورة أساسية والدليل على ذلك قيام إيران – حسب ما أفادت به بعض التقارير – بممارسة ضغوط على هذه المليشيات بعدم التصعيد، واتضح ذلك في إعلان كتائب حزب الله تعليق هجماتها ضد الأهداف الأمريكية، عقب الهجمات التي شنتها المليشيات على القاعدة الأمريكية “البرج 22”. ومن ثم كان الرد الأمريكي بقتل القيادي في كتائب حزب الله العراقية “أبو باقر الساعدي” في 7 فبراير الجاري.
الخلاصة:
إن نجاح عملية رفح ربما سيكون بداية النهاية لمسار الحرب بشكله الحالي، وربما ندخل في مرحلة إنتقالية من المواجهات المحدودة لتصفية أي جيوب متبقية للمقاومة، ما لم تتغير بعض المعادلات وأهمها سقوط حكومة نتناهو في انتخابات مبكرة تحت ضغط من الشارع وعائلات الرهائن ، ووفق توقعات لتصدعات محتملة في مجلس الحرب بخروج بني غانتس وإيزنكوت من حكومة الطوارىء، أو اشتعال الموقف في الجبهة الشمالية مع حزب الله أو باقي الجبهات مع الحوثيين والفصائل العراقية والسورية الموالية لإيران وتوسع نطاق الحرب مما يضطر القوى الدولية للتدخل لوقف الحرب بالكامل في غزة ، لوقف التوسع الإقليمي لها والذي بات قاب قوسين أو أدني من الخروج عن السيطرة.